أ.د/ طه جابر العلواني
جمعة خذلنا العرب تسمية أطلقها المستضعفون السوريُّون على الجمعه الأخيرة من مارس، وهي جمعة فيها من الدروس والعبر ما لا يكفي مجلَّد كامل لاستيعابه؛ ففي أرض فلسطين هي جمعة يوم الأرض، التي تشير وتذكِّر بصورة أخرى من صور التخاذل العربيّ الإسلاميّ والخذلان([1]). والتخاذل والخذلان عيبان أخلاقيَّان من العيوب التي يخجل الأفراد والبيوتات والجماعات والطوائف من الاتصاف بها؛ لأنَّ كل منهما دليل على قبول الذل والركون إليه حتى لو أدى إلى التنازل عن كل ما لا يكون الإنسان إنسانًا إلا به؛ من كرامة وعزَّة وسموّ ونخوة وإباء، كما إنَّ كلاًّ منهما يدل على أنَّ المتخاذل والراضي بخذلان قومه أو أهله هو إنسان مستعد للتفريط بعرضه وماله ودينه ونفسه وعقله، وهي الضروريَّات الخمسة التي تمثِّل قوام إنسانيَّة الإنسان؛ ولذلك رفضت البشريَّة منذ فجر التاريخ التفريط فيها، وآثرت الأمم أن تقدِّم أرواح أبنائها ودمائهم لئلا توصف بالتخاذل أو الخذلان؛ ولكي تنأى بنفسها عن قبول الذل، فالجاهليُّون وأصحاب الأديان يستوون في ذلك؛ لكنَّ الدين أدخل تعديلات كثيرة على مفاهيم العزَّة والذلَّة والتخاذل والخذلان، لكنَّ البشريَّة بكل انتمائها رفضتهما وترفضهما بكل أنواعهما.
وقد عَرِف العرب في جاهليَّتهم ما يسمى بالحِمَى، فالقبائل لها أرضها التي تسكنها، وتتخذ لنفسها حريمًا من حولها، تضفي عليه حمايتها وتفرض على الناس احترام ذلك الحريم وحدوده؛ لئلا يجترئ عليه الآخرون، وهو شبيه بما عرفته حضارتنا المعاصرة بما ُسمى بـالمجال الحيويّ. والأمم -مهما كانت ظروفها- تصنع لأنفسها أعرافًا وتقاليدًا تُنَشِّئ أبناءها عليها حتى تتحوَّل للأنفة ورفض الخنوع والتخاذل، وتغرس ذلك فيهم بمختلف الوسائل، ومن الأمم والشعوب مَنْ يبالغون في ذلك، ومنهم مَنْ يحرصون على التوازن. والقرآن الكريم قد اشتمل على ما يمكن أن يشكِّل برنامجًا تربويًّا شديد القوة والمتانة، يجعل من المؤمنين به وقارئيه أعزة على أعدائهم، أذلة أو متواضعين لإخوانهم وأبنائهم في توازن لم نشهده في أي برنامج تعليميّ آخر؛ ولذلك حفل القرآن بامتداح أولئك الذين تبنَّوا هذا البرنامج، وعاشوا عليه، وتربّوا في أكنافه، ومما قال فيهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة:54)، وآخر سورة الفتح: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح:29).
إنَّ التالي للقرآن، والمتتبع لهدي الرسول العظيم يستطيع أن يدرك أنَّ التحلِّي بعزة المؤمن، والتخلِّي عن الذل والخذلان ليسا من الأمور التطوعيَّة، بل هي من الفرائض المحتمة كالصلاة والصيام والحج والزكاة؛ لكنَّ العقل الفقهيّ قد غاب عنه التأصيل للمنظومة الأخلاقيَّة؛ كالتقوى والعزة وعدم قبول الذلة، فلم تأخذ حظها من البحث الفقهيّ، ولم تدخل تحت سلَّم خطاب التكليف الذي قسَّموه إلى الأصناف الخمسة المعروفة: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح، وأُدرج في خطاب الفضائل التي انحرف الفهم فيها، ونُظِر إليها على أنَّها فضائل تندرج في إطار التطوع وطلب الكمال.
لقد كنت أشاهد جيش بشّار الأسد البعثيّ الطائفيّ وهو يحرق ويدمِّر ويقتّل ويسحل جثث السوريين المحتجين على النظام، ورأيت جنود إسرائيل على معبر قلنديا وغيرها وهم يعملون على تفريق المتظاهرين الفلسطينيين الذين يُعلنون لهم بصراحة ووضوح أنَّهم يريدون استرجاع أرضهم -وذلك حقهم الذي لا مراء فيه- وطرد الإسرائيليين منها؛ فيواجههم هؤلاء اليهود الصهاينة بالغاز المسيل للدموع، والجنود الراكبين على الخيول يحاولون تفريق المتظاهرين، ومع كل ما أوتوه من وحشيَّة وقسوة، ظلَّ المشهد الآخر في سوريا يجعل المراقب الخارجيّ مكرهًا على عقد مقارنة بين إنسانيَّة اليهود وديمقراطيَّتهم ووحشيَّة الجيش البعثيّ السوريّ؛ جيش بشّار الطائفيّ، ويوضح الشروخ والجراحات النفسيَّة في العقل العربيّ والإسلاميّ الذي خيَّب أمل السوريين فيه وخذلهم، وكيف يتجاهل سيد المقاومة -كما أُطلق عليه- أحمد فؤاد نجم وسادتها الآخرون تلك الوحشيَّة المدمرة، وحشيَّة أولئك الذين وصفهم الله (جلَّ شأنه) بقوله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (البقرة:205-206)، هؤلاء الذين يزعمون أنَّ كل ذلك التدمير والوحشيَّة والقتل وتدمير المساجد، وحرق المنازل وهدمها على ساكنيها لا يجعل من بشَّار الأسد إنسانًا ميؤوسًا من صلاحه، فالفساد لا يمكن أن يأتي بالصلاح، والشر لا يمكن أن يأتي بالخير. فهؤلاء الذين يعتمرون العمائم ويتحدثون عن المقاومة هل قرأوا القرآن؟ وهل اطّلعوا على قوله (تعالى): ﴿… إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس:81)، وقوله: ﴿… وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ (البقرة:205)، وقوله: ﴿… لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:124)، وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة:51)، هل اطّلعوا على ذلك كلَّه أم أنَّهم أخذوا بمذهب الجاهليَّة القائل: “وننصر مولانا ونعلم أنَّه.. كما الناس مجروم عليه وجارم”، فهذا هو الانتصار للطائفة مهما كانت ومهما أخطأت ومهما أفسدت، أما كان في مقدور هؤلاء أن ينصروا صاحبهم الذي -تعاطى فعقر- بمنعه من الظلم ومنعه من الفساد ومنعه من تدمير شعبه وحرق دياره وقتل شبابه وتهجير مواطنيه، أما كان الأولى أن ينصروه بهذه الطريقة؟! تُرى لو أنَّ (فشَّارًا) قد قلَّد إسرائيل فيما فعلته؛ فاكتفى بالعمل على تفريق المحتجين في بداية ثورتهم الاحتجاجيَّة بخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع وما إلى ذلك من وسائل، هل كان تفاقم الأمر، وبلغ هذا المستوى من القتل والإبادة الجماعيَّة، وإهلاك الحرث والنسل؟ إنَّ القمع وسيلة الضعفاء والجبناء والخائفين من شعوبهم، يتورَّطون فيه في البداية ويستمرئونه بعد فترة، ويعتادونه حتى تنعدم كل الحلول، ويصبح الحل إمَّا نحن وإمَّا أنتم، فيكون أن ينتصر الشعب -وهو منتصر لا محالة بإذن الله- وينتهي الطغاة، مثل النهاية التي انتهى بها طاغية ليبيا وغيره، ولكن يتركون وراءهم أحقادًا ودمارًا شاملًا وتمزّقًا وفسادًا يستغرق عقودًا من حياة شعوبهم حتى تتخلَّص منه.
هل أدرك هؤلاء العرب والمسلمون الذين خذلوا الشعب السوريّ واحتموا وراء الأمم المتحدة، ولاذوا بكوفي عنان، وألقوا على عاتقه إنقاذ شعب كامل من شعوبهم، هل أدركوا أنَّ تخاذلهم وذلَّتهم ومهانتهم جعلت العالم يستهين بدمائهم، وجعلت أقسى الدمويين من القيادات الصهيونيَّة اليهوديَّة في العالم يُسوِغّون جرائمهم ضد غزَّة وأهلها والأرض المحتلَّة وقاطنيها بأنَّهم لم يقتلوا منهم واحدًا في المئة ممن يقتلونهم هؤلاء بأيديهم، ويقولون: انظروا إلى أساليبنا المتحضرة، وكيف نفرِّق المتظاهرين، وكيف نحافظ على جرحاهم حين يسقطون بالرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع فننقلهم بسيَّارات إسعاف إلى المستشفيات، ولا يُقْتل منهم إلا عدد محدود لا يكاد يُذكر بالنسبة لأعداد القتلى الذين يسقطون بأيدي بعضهم البعض.
يا الله..! متى تستفيق هذه الأمَّة، ومتى تدرك أنَّها ببعدها عن كتاب ربها واستسلامها لهؤلاء المجرمين قد بلغت الحضيض، وهانت على سائر الأمم، وأصبحت نماذج للأمم الذليلة المهانة التي لا تكسب خيرًا ولا تدرأ شرًّا، يا الله.. ليس لها من دونك كاشفة، يا الله.. ارحمنا من هؤلاء وأجنادهم وشياطينهم الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، لكِ الله يا سوريا، لك الله يا شعبها، لستَ أول من خذلوا، ولن تكون آخر المخذولين إذا لم يتغمدنا الله برحمته. ألا بئست المقاومة التي يقودها الذين يُهلكون شعوبهم ويتَّبعون مع بلدانهم سياسة الأرض المحروقة، اللهم أهلك الظالمين الذين طغوا وبغوا وأظهروا في الأرض الفساد، إنَّك سميع مجيب، فليس لها من دونك كاشفة يا الله.. وهؤلاء يصدق عليهم قول الشاعر قريظ بن أنيف:
| لو كنتُ من مازن لم تَستَبح إبلي | بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا |
| إذًا لقام بنصري معشَرٌ خُشُن | عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا |
| قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم | طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا |
| لا يسألون أخاهُم حين يندُبُهم | في النائبات على ما قال برهانا |
| لكنّ قومي، وإن كانوا ذوي عددٍ | ليسوا من الشرِّ في شيءٍ وإن هانا |
| يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً | ومن إساءة أهل السوء إحسانا |
| فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا | شدّوا الإغارة فرسانًا وركبانا |
[1] خَذَلَ: خَذَلَه: تخلَّى عن عونه ونصرته، والخذلان ترك من يظن به أن ينصر نصرته؛ ولذلك قيل خذلت الوحشية ولدها وتخاذلت رجلا فلان ومنه قول الأعشى: بين مغلوب تليل خده * وخذول الرجل من غير كسح ورجل خذلة كثيرا ما يخذل.