Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

البغي والإرجاف

لقاء مع د. طه جابر العلواني

{بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم}

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾

نسأله (سبحانه وتعالى) أن يوفقنا إلى القول السديد، والرأي الرشيد.

مدحت ماهر

 

البغي والإرجاف:

 س: هل اطلَّعتم على ما وجِّه إليكم من نقد أو هجاء بالأحرى، لأنّه قد تجاوز مجال النقد إلى مجال الهجاء؟

هؤلاء الإخوة الذين بغوا علينا وقالوا ما قالوه فينا، لعلهم أرادوا أن يشتموا “صحيفة الأهرام” لأسباب خاصَّة بهم لا نعرفها قد يكون من بينها أنّها جريدة قوميّة، تعتبر أهم وأقدم الجرائد العربيّة من حيث تأسيسها وتاريخها وعراقتها. ويبدو أنَّهم لم يجدوا مدخلاً أنسب –في نظرهم– لمهاجمة هذه الجريدة التاريخيَّة ووصفها “بالعزبة“، إلاّ اتهامها بالانحياز ضد أفاضل الكتاب المصريِّين، وتقديمها من بين كتاب صفحتها الدينيَّة كاتباً لم يجدوا ما يأخذونه عليه إلا أنّه “عراقيّ”، ويتشرّف هذا الكاتب بأن يكون عراقيًّا في ولادته، ومن أهل الفلوجة؛ فكشفوا بذلك عن نعرة جاهليّة كانوا يغطون عليها بغلالة إسلاميّة، ولكنّ نعرات الجاهليَّة تأبى إلاّ أن تزكم الأنوف بروائحها المنتنة. ولله في خلقه شئون. ونرجو ألا تكون جاهليَّتهم هذه إلا مجرد جاهليَّة جزئيَّة، لا جاهليَّة كبرى.

س: ولكن ما رأيكم في الاتِّهامات التي وجّهت إليكم عن علاقاتكم بالولايات المتحدة، وحول فتوى مشاركة العسكريّين المسلمين الأمريكان للقوات الأمريكيَّة الأخرى في القتال لصالح أمريكا، حتى لو كان القتال ضد شعوب مسلمة؟  

الاتهامات :

أمّا الاتهامات التي كالوها جزافاً، ولم يرقبوا الله -تعالى- فيها فهي أقل وأتفه من أن أعلق على شيء منها، وأرجو الله سبحانه أن يحفظنا بما يحفظ به عباده الصالحين، وأن يعامل ظالمينا والمتجنيّن علينا بعدله. إنّه سميع مجيب.

ما قبل الولايات المتحدة :

أما عن علاقاتي بالولايات المتحدة فقد كنت –كما يعلم كل من يعرفني- مواطناً عراقيّاً بالولادة، ولدت في الفلوجة ونشأت فيها حتى تخرجت في مدرستها الدينيَّة التي كانت تدعى –آنذاك– “الآصفيَّة“، وعيّنت إماماً وخطيباً لجامع الحاجّة حسيبة الباجه جي (يرحمها الله تعالى)، الواقع في الكرادة الشرقيَّة. ثم قررت السفر إلى مصر قبل بلوغي سن الثامنة عشرة بقليل فوصلتها في مساء (15/11/1953). وبدأت أحاول الحصول على قبول في الأزهر لمواصلة دراساتي فيه، فلم يُعترف بالشهادة التي أتيت بها من الفلوجة، وفرضوا عليّ أداء امتحان معادل للثانويَّة الأزهريَّة، ومن بين ما يزيد عن ستمائة متقدِّم لذلك الامتحان نجح ست وثلاثون كنت -بفضل الله تعالى– واحداً منهم إن لم أكن الأول عليهم على ما أذكر. فدخلت “كلّية الشريعة والقانون” وتخرجت فيها، وحصلت على شهادتها الجامعيَّة الأوّليَّة صيف (1959م) بعد أن اضطرتني ظروف الخلاف بين الحكومتين العراقيّة والمصريّة آنذاك -كما اضطرت كثيرين غيري-  للانقطاع عن الدراسة لمدة سنتين نتيجة إيقاف وعرقلة تأشيرات الدخول بين البلدين إلا بصعوبات جمّة، ثم سجلتُ لنيل درجة الماجستير، ثم الدكتوراه حيث ناقشت رسالتي لنيلها في ديسمبر (1972م) واستمرت إقامتي في مصر إلى أن غادرتها للعمل في المملكة العربيّة السعوديّة.

حكم بالإعدام :

وفي (1/3/1970) وبينما كنت في زيارة مسجد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –  بعد الحج، ركبت السيارة عائداً إلى جدة في طريق العودة، ففتح السائق راديو السيارة على محطة لندن فإذا بخبر تصدَّر النشرة، وتضمن صدور حكم عليّ وعلى اثنين آخرين بالإعدام، كان أحدهما عبد الرازق النايف الذي ترأس الوزارة في انقلاب (1968م). والمحكومون الثلاثة كانوا من العرب السنَّة حيث كنت من الفلوجة، وعبد الرازق النايف من الرمادي، وصبّار الراوي من راوة. والتهمة كالعادة هي التآمر لقلب نظام الحكم. وقد نصصتُ على عربيّة وسنيَّة الثلاثة، لا لبيان الانتماء أو الاعتزاز به، بل لأؤكد لأولئك الذين يروّجون أن النظام السابق في العراق اضطهد الشيعة والأكراد فقط أنّه: في البدء كان السنّة العرب. فحمدت الله أنَّني سمعت ذلك قبل المغادرة فبقيت فترة في السعوديَّة، ثم غادرتها. وانتهى بي المطاف في مصر حيث واصلت دراستي إلى أن حصلت على الدكتوراه، وبقيت بعد التخرُّج ثلاث سنوات أخرى في أرض الكنانة، ثم غادرت صيف (1975م) إلى السعوديَّة وقد منحت جواز سفر سعوديًّا دون تابعيَّة أو جنسيَّة، وبقي ذلك الجواز عندي لمدة (28سنة) لكنّني لم أحصل على أيّة جنسيّة عربيَّة.

الانتقال إلى الولايات المتحدة

وبعد أن أمضيت في السعوديّة عشرة أعوام، اتفقت مع مجموعة من الأساتذة زملائي الجامعيّين على تأسيس “المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ” في أمريكا، والانتقال إليها للعمل فيه. فغادرت إلى أمريكا، ومعي مكتبتي، وعشت في أمريكا منذ شتاء (1984م) حتى يومنا هذا. بعد الإطاحة بنظام صدام وحزب البعث، واحتلال قوات التحالف العراق اعتذرت الجهات المختصة في المملكة عن تجديد جواز سفري السعودي بناءً على زوال النظام العراقي السابق، وإمكان عودتي إلى العراق، واستعادة وثائقي العراقيّة، وقد شكرت السعوديَّة على منحها جواز سفرها لي كل تلك الفترة. وقدَّرت بتفهّم أسباب عدم تجديده بعد تغيير النظام في بغداد “وما على المحسنين من سبيل”.

وقد حملت الوثائق الأمريكيَّة واكتسبت حق المواطنة فيها بالرغم من أن قوّات الأمن الأمريكيَّة كانت قد اقتحمت منـزلي بـ(17) شرطياً مسلحاً وشرطيَّة ولم يكن فيه غير زوجتي التي كانت في سرير نومها؛ مما سبّبَ لها صدمة قاسية، خاصّة بعد أن أخذوا فيما أخذوه من المنزل أجهزة الحاسب الآليّ الأربعة التي كانت تختزن أعمالها العلميّة عليها خلال العشرين عاماً التي قضيناها قبل ذلك في أمريكا. وكثير من تلك الأعمال لم تكن قد طبعت ولم نرَها بعد ذلك حتى اليوم، ممّا سبّب لها  الإصابة بالسرطان، أتضرّع إلى الله – تعالى – أن يمن عليها بالشفاء. أما أنا فقد ابتُليت بضغط الدم العالي وأمراض القلب. نسأله –تعالى– العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، إنّه سميع مجيب.

العمل :

أمّا بالنسبة لعملي فقد كنت رئيساً للـ“معهد العالمي للفكر الإسلاميّ” في ولاية فرجينيا منذ سنة (1986م)، بعد أن كنت نائباً لرئيسه الشهيد إسماعيل الفاروقي الذي استشهد في مايو من ذلك العام، كما كنت -وما أزال- عضواً ومستشاراً لمؤسسات عديدة في الشرق والغرب، وعضواً لأكاديميّات عديدة -أيضاً- في الشرق والغرب، وأستاذاً زائراً لعدد من الجامعات والكليّات، وأكتب في عدد من المجلات العربيّة وغيرها… ولم يكن يخطر ببالي مطلقاً أنّني أخدم أيّ غرضٍ غير النيَّة الصادقة لخدمة الإسلام والدفاع عنه، والاهتمام بقضايا أمَّتي.

ولو اطّلع المرجفون على بعض ما كتبته بعضُ مراكز البحوث المعادية، وبعض الكتب التي صدرت عن أعداء الإسلام وتناولتني وتناولت المؤسّسات التي كانت لي بها علاقة لأدركوا أهميَّة ما أفعل وما أكتب، ولعلهم أقلّوا عليَّ من إرجافهم، وتركوا مهام الشائعات، ومحاولات الإساءة، وتحطيم السمعة إلى أولئك الأعداء!!. نرجو الله -تعالى- أن ينفعني بذلك يوم الدين، وأن يعصمني من أشرار الناس، ويتولاني بحفظه وعنايته، فما تصدَّى أحد لمثل ما تصدَّيت له إلا عُودي، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

وقد توليت رئاسة “المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية” لمدة (18) عاماً، واستقلت من رئاسته مفضِّلاً أن أتيح الفرصة لغيري، وأن أكون عضواً استشاريّاً فقط له. وذلك منذ سنتين بعد إلحاح شديد من أعضائه للبقاء في رئاسة المجلس، وقابلته بتذرُّع منيِّ بالسنّ وكثرة المشاغل والمسئوليَّات حتى وافقوا، وتسلَّم رئاسة هذا المجلس من بعدي أخي وصديقي أ.د/ مزمّل صدّيقي، ولا زلت مستشاراً له وللمجلس الفقهي وعضواً فيه حتى اليوم.

الفتاوى وموقفي منها :

أثار المنتقدون –وزعموا- أنَّ ثمة فتوى صدرت عنِّي لصالح الجيش الأمريكيّ وأنَّني دعوت فيها المسلمين الأمريكان في القوات المسلحة الأمريكيّة للقتال في الجو والبر والبحر إلى جانب أمريكا ضد أيّ بلد إسلاميّ أو غير إسلاميّ إذا اعتُديَ على أمريكا، أو هُدّدت مصالحها، فرأت أمريكا أنّ تقوم بما يعرف “بحرب استباقيّة” ضدّه. وأنَّ الفتوى قد دعت المسلمين في القوات الأمريكيَّة المسلَّحة للقتال ضد أفغانستان. ولهذه المسألة قصتها.

وخلاصة هذه القصَّة :

أنّه قد وجّه الواعظ المسلم الأقدم للجيش الأمريكيّ -وهو من المسلمين من جذور أفريقيَّة– سؤالاً مكتوباً للمجلس الفقهيّ لأمريكا الشماليّة يرجو فيه بيان الحكم الفقهيّ أو الفتوى في جواز أو عدم جواز مقاتلة العسكريِّين المسلمين الذين انضموا إلى القوات المسلحة الأمريكيّة باعتبارهم مواطنين أمريكان وباختيارهم وطواعية منهم، وأقسموا أيمان الولاء لأمريكا بكل ما تمثِّله؟

ولخطورة الاستفتاء، ومعرفتي بما سوف يترتَّب على الفتوى فيه، ووقوعها في دائرة مجموعة من القضايا التي لابد من فهمها وأنّها من الفتاوى التي تمسُّ مآلاتها الأمّة المسلمة -كلّها- تداولت مع إخواني أعضاء المجلس الفقهي لأمريكا الشماليّة في الأمر وخطورته، فاتفقت الآراء على ضرورة إحالتها إلى العلماء والمراجع، ودور الفتوى والمجامع الفقهيّة في العالم الإسلاميّ، وذلك طلباً لمساعدة العلماء لمجلسنا الفقهيّ بآرائهم ووجهات نظرهم؛ لأنَّ الفتوى في أمر كهذا من فتاوى الأمَّة، تمسُّ الأمة المسلمة –كلّها– بمستويات عديدة؛ ومن ثم لا يليق بفقيه ولا بمجلس فقهيّ صغير مثل مجلسنا وحده أن ينفرد بالفتوى فيه؛ لأنَّ له ما قبله وله ما بعده.

فالفتوى “بعدم الجواز” تمثّل دعوة صريحة لهؤلاء المتطوعين لنقض أيمانهم وعهودهم لمؤسَّسات انضموا إليها، باختيارهم ودون رجوع إلى الأمّة، أو استفتاء أهل الفتوى فيها بجواز ذلك الانضمام ابتداءاً أو عدم جوازه. كما تعنى الفتوى بـ”عدم الجواز” القول: بأنّ الوجود الإسلامي في كل من أوروبا وأمريكا سوف يعتبر وجوداً طارئاً معادياً لتلك البلدان لا يحمل أيّ ولاء للبلدان التي يقيم المسلمون فيها، فهو وجود انتهازيٌّ يستمتع بخيرات تلك البلدان في حالة السِّلم. فإذا دخلت حرباً أو أصابتها مصيبة -بقطع النظر عن الطرف الآخر في تلك الحرب- فإنّهم يرفضون القتال دفاعاً عنها، ويقفون موقف المتفرِّج، بل يمنحون عواطفهم ومشاعرهم إلى أعداء الغرب أو أعداء أوروبا وأمريكا أيّاً كانوا، في الحاضر وفي المستقبل.

وهذا يؤدي –ولا شك- وقد أدى بالفعل في بعض هذه البلدان إلى رفض الوجود الإسلاميّ جملة وتفصيلاً، والمطالبة بإخراج المسلمين، وإصدار قوانين تحدّ من هذا الوجود وتضطهد المنتمين إليه، وهذا أمر قد يحرم الدعوة الإسلامية في العالم من إثبات نفسها واستقرارها في الغرب، ويحرم كثيراً من المسلمين من الاتّصال والاحتكاك والتفاعل مع العالم الغربيّ. وهذا أمر لا يستطيع الفقيه أن يتجاهله أو يهمله عند الاجتهاد أو النظر أو الفتوى. وللوجود الإسلاميّ في الغرب أهميَّة حاَّلة ومستقبليّة لا يمكن غضّ الطرف عنها أو تجاهلها. وهذا الوجود تعبير عن “عالميَّة الإسلام”، وإيصالٌ واجبٌ لدعوته إلى البشريّة. وهذا شيء قد لاحظه –كما سنرى– الذين أفتوا بالجواز… أي جواز مقاتلة العسكريّين الأمريكان المسلمين ضمن القوات المسلحة للولايات المتحدة سواء أكان هذا القتال قتال دفع ضد مسلمين أو غيرهم؛ أو هجوماً أو قتال طلب منها لتحقيق مصالح أمريكيّة أو لحماية أمنها ومواطنيها واستراتيجيّاتها… إضافة إلى سوابق واعتبارات أخرى تاريخيّة حدثت نظائرها في الأندلس، وفي الحروب الصليبيّة وفي غزو التتار، وفي فترات تاريخيّة أخرى، لا مجال للإطناب فيها.

ورغم كل هذه الحيثيّات المعتبرة فإنّه إذا أفتى المفتون “بجواز القتال” فذلك سوف يؤول إلى تجويز قتال المسلم لأخيه المسلم، وفي هذا قطع لما بين المؤمنين والمسلمين من أخوة من ناحية، كما أنّ فيه خروجاً على الأمّة أو تهاوناً في احترام مفهوم “الأمّة” التي ينبغي ألا يقاتل أبناؤها إخوانهم مطلقاً: “فسباب المسلم فوق وقتاله كفر”، وإذا وقع قتال بينهم فإنّه بغى مذموم، ويقع تحت طائلة التجريم ولابد من قتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله. واختلاف الدار لا يعد مسوّغاً لقطع رابطة الأخوة. كما يعني ذلك التنصُّل من عقيدة الولاء والبراء الواجبة على المسلمين كافّة. والفقهاء الذين نظروا إلى هذا الجانب – وحده – كانت إجاباتهم على الاستفتاء رفض إباحة هذا النوع من القتال للعسكريّين المسلمين، ولم يفرّقوا بين مجنّد تجنيداً إجباريّاً وبين متطوِّع انضم إليه باختياره وبناءً على طلبه، وأقسم أن يقاتل أعداء أمريكا في الجو والبر والبحر، وأن يطيع ويسمع لقادته فقط.

ونصح بعضهم (أعني بعض المفتين) بأنَّ هناك مجالاً في الدستور الأمريكيّ يمكن أن يشكل منفذاً أو مخرجاً لهؤلاء وهو “الاعتذار بالحرج الدينيّ”. وهذه الثغرة الدستوريّة التي كان البعض يستفيدون بها قد أغلقت منذ فترة طويلة، وأفتت المحكمة العليا وغيرها منذ أواخر حرب فيتنام بأنَّ الجنديَّ المتطوع الذي دخل الجيش باختياره ما عليه إلا السمع والطاعة دون مناقشة أو اعتراض، وأنّ لقيادته أن تضعه في الموضع الذي تراه مناسباً، وأن من رفض طاعة الأوامر في حالة الحرب وعصى فإنّه يحال إلى المحاكم العسكريّة لتوقع به أقصى العقوبات إن لم يفعل قائد وحدته ذلك بنفسه.

ولما رأى – “المجلس الفقهي لأمريكا الشماليّة” -برئاستي- ذلك، ولاحظ سائر تلك الاعتبارات قرّر أنَّ هذه الفتوى من فتاوى الأمة ما دام الأمر بهذه الصورة. ولابد من الاستعانة بفقهاء الأمَّة –كلّهم– بقدر الإمكان، فتمت إحالة الاستفتاء -بعد ترجمته– مع رسالة منيّ بوصفي رئيساً للمجلس، إلى سائر المجامع والمجالس التي نعرفها، وإلى لجان الفتوى في العالم الإسلاميّ كلّه.

وقد أمسك بعضهم عن الإجابة. وبعث عدد قليل منهم بفتاوى ملأى بالتفاصيل، وبعثت مجموعة خيّرة طيبّة، فقيهة بتاريخ الأمّة وواقعها ومصادر التشريع فيها ومستقبلها وعالميَّة إسلامها ومستقبل وجودها في الغرب، وتفاعله معها، بعثت بما يفيد “جــواز” القتال لهؤلاء العسكريّين المسلمين مطلقاً وفاءً بما تعاقدوا عليه حينما قبلوا المواطنة في هذه البلاد أو ولدوا عليها، واختيارهم العسكريّة مهنة وحرفة ابتداءً، ولئلا يؤثّر رفضهم اللّاحق على الوجود الإسلاميّ جملة وتفصيلاً في تلك البلاد. وإذا كان هناك أيّ مجال للعمل في وحدات غير مقاتلة، فهو الأولى، ولكن إن لم يكن هناك بدٌّ فهو جائز لهؤلاء الذين يفرض عليهم القتال في بلاد المسلمين. وأن يقاتلوا ويتحرّوا –آنذاك- بقدر الإمكان البعد عن الوحدات المهاجمة التي تبدأ القتال، ويعملوا بقدر المستطاع على أن يكونوا في مواقف الدفاع أو في مواقع الإعاشة والمساندة وما شاكل ذلك؛ مما لا يعرِّضهم لقتال فعليّ ضد إخوان لهم في الدين والمعتقد بقدر المستطاع، والعمل على الاستفادة من كل الظروف والقوانين للبعد عن ذلك.

وحين وصلت هذه الفتوى من هؤلاء الأفاضل أرسلنا بها بشكل مباشر إلى الواعظ عبد الرشيد دون ضجيج.

الحرب العادلة :

ولم نكتفِ بهذا. بل عقدنا ندوة دعونا إليها مجموعة من كبار رجال الأديان المختلفة في أمريكا لمناقشة مفهوم “الحرب العادلة”. وقد وفقنا بفضل الله -تعالى- لأن نخرج بنتيجة وقَّع عليها كبار أحبار اليهود الأرثوذكس والإصلاحيّين -بحسب اصطلاحهم- وقساوسة النصارى بكل كنائسهم، إضافة إلى فقهاء مسلمين من السُّنة والشيعة … أجمعت كلمتهم –جميعاً- على أنّ الأسلحة المستخدمة في جيوش اليوم لا تسمح بتسمية أيّ نوع من أنواع الحروب بأنَّها “حروب عادلة”؛ إذ إنّها تطال الأبرياء والمدنيِّين والعسكريِّين ولا تستثني رجالاً ولا أطفالاً ولا نساءً ولا مَن يعتزلون القتال من مدنيِّين وكبار سن أو مرضى أو غيرهم؛ ولذلك فإنّ واجب القادة الدينيّين في العالم هو الوقوف ضد الحروب وضرورة حل سائر النزاعات بين الأمم والشعوب بالطرق السلميّة مع الدعوة إلى ضرورة إعادة النظر في عمليات تصنيع الأسلحة وترويجها. وقد أخذت وسائل الإعلام الأمريكيَّة هذه النتيجة وتحدثت عنها كثيراً.

أمَّا الفتوى التي قدمت من قبل أولئك العلماء الأفاضل الذين اتسموا بتلك الرؤية الشموليّة المنبثقة عن عالميّة الإسلام فقد وجهناها إلى من وجّه إلينا السؤال بشكل مباشر -كما ذكرنا مع الفتاوى الأخرى. ولمعرفتنا بحساسيَّة الموضوع فقد رأينا عدم لفت أنظار الإعلام إلى الفتوى. وفوجئنا بنشر الفتوى القائلة بالجواز – وحدها – في جريدة الشرق الأوسط، ونشر خلاصتها والتعليق عليها في جريدة بريطانيَّة باللغة الإنجليزية، وكان ذلك بناءً على اجتهاد من الإخوة الذين نشروا الفتوى بالعربيّة والإنكليزيّة بأنّ نشرها مهم جداً لتغيير صورة المسلمين في نظر الغرب، تلك الصورة التي تتعرّض كل يوم للتشويه والاتّهام بالتعصّب والتطرّف ضد الغرب دون تمييز. وهو اجتهاد نحترمه، وله ما يسوّغه وكانوا مخلصين في ذلك الاجتهاد.

وتكاثرت –بعد النشر- علينا الأسئلة من الإعلام ومن الأفراد والمؤسّسات المدنيَّة والعسكريّة. وغضبت السلطات العسكريَّة الأمريكيَّة خاصّة، وشعرت بأنَّ ذلك يفتح الباب لتدخل خارجيّ وأجنبيّ دينيّ في مرجعيّة جزء من القوات المسلّحة قد يؤدي –حسب تصوّرهم– إلى ازدواج المرجعيَّة([*]).

وحين سئلت عن رأيي الشخصي، أو رأي “المجلس الفقهيّ لأمريكا الشماليّة”، قلت: إنّنا في مجال الفتوى نعتبرها “رخصة” و“ضرورة” يقدِّمها المؤهَّلون لتقديم الفتاوى. وقد قدّم هؤلاء الإخوة الذين أفتوا بالجواز هذه الرخصة لمن هو مضطر للأخذ بها، كما وصلتنا فتاوى أخرى تحرّم على الجندي المسلم القتال ضدّ المسلمين إلاّ لو كان هناك اعتداء على الشعب الأمريكي في داخل أمريكا، فالمسلم الأمريكي –آنذاك– يجب أن يدافع عن نفسه وشعبه وأرضه. وأما نحن فلا نجد حاجة لأن نقدم فتوى إضافيّة تضاف إلى ما أفتى به المفتون أو تعارضه.

وقد أدىَّ ذلك إلى تعرُّضي شخصيّاً لمساءلة شديدة بوصفي رئيساً للمجلس الفقهيّ من قبل قيادة الجيش الأمريكيّ؛ حيث هدّدوا بإحالتي إلى المحكمة مرة أخرى لو قلت بشيء أو أفتيت بشيء، أو عرضت أو روّجت لفتاوى من غيري تتدخل في شئون العسكريِّين الأمريكان إيجاباً أو سلباً. وقال ممثّل القوات المسلحة لي آنذاك: إنَّنا لا نسمح لأيّ عسكريّ أمريكيّ أن تكون له مرجعيّة من خارج القوات المسلحة الأمريكيّة. وبالنسبة لفلان –وسمَّوا رئيس المرشدين الدينيّين محمد عبد الرشيد– قد وجه لكم سؤالاً، فلولا أنّه واعظ أو رجل دين لأحلناه إلى محاكمة عسكريّة؛ لأنّه رجع إليك وإلى المجلس الفقهيّ وأنتم لا تمثّلون مرجعيَّة عسكريّة لأيّ عسكريّ أمريكيّ مهما كان دينه. وطلبوا أن تكون تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي يجاب فيها عن سؤال أيّ عسكري لا تحيله وزارة الدفاع -نفسها- أو قيادة القوات المسلَّحة إلينا مباشرة، ويكون الجواب منّا إليهم مباشرة كذلك؛ أي: إلى وزارة الدفاع أو قيادة القوات المسلّحة، وأنّهم سوف يعتبرون ما يكون بخلاف ذلك تدخّلاً في الشئون العسكريّة للقوات المسلّحة يعرّض القائمين به أيّاً كانوا للعقاب.

ولكنَّ فتوى المجيزين –مهما كان الموقف منها– قد مكَّنت الجالية المسلمة من أن تتنفس الصعداء، وأن يكون بأيديها –بفتوى المجموعة الخيّرة المشار إليها من العلماء الذين أفتوا بالجواز– وسيلة للدفاع عن نفسها أمام سائر الهجمات الأمنيّة والإعلاميّة في الداخل. وساعدت على أن يكسبوا كثيراً من التعاطف من المواطنين الآخرين في أمريكا.

والذين هاجموا هذه الفتوى وهاجموني شخصياً لتوجيه السؤال أو الاستفتاء!! لم يفهموا كل هذه الخلفيَّات، ولم يفهموا الدوافع النبيلة والخيّرة لتلك المجموعة الطيّبة التي قادها أستاذ الجيل المفكر الفقيه الداعية الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

فما علاقة الأهرام بذلك؟

فهذه قصة الفتوى كاملة، ولا علاقة لذلك بأيّ شكل بـ“صحيفة الأهرام”، فلم جعلوا من كتابتي في “الأهرام” وسيلة لإثارة هذا الموضوع؟! إنّ هؤلاء المتطاولين أناس هانت عليهم حسناتهم فصاروا يوزعونها عليّ وعلى أمثالي من المظلومين. وأنا –والله- محتاج لمن يتبرع إلىّ بحسناته. ولو كان لدي ما أهديه لهؤلاء المتبرعين لي بحسناتهم لما ترددت في ذلك. وتهجمهم على “الأهرام” وإثارتهم لهذه القضية بهذه المناسبة ماهي إلا محاولة للربط بين الأهرام وبيني، وبين تلك الفتوى بشكل ينقصه الذكاء وتعوزه الحكمة؛ فدوري لم يكن أكثر من دور الوسيط بين السائل والمجيب. (غفر الله لنا ولهم).

 

س :  لكن كيف ترون طبيعة المناخ القابل لأن ينتج مثل هذه الانتقادات التي وجّهت إلى “الأهرام” وإليكم؟           

تنبه ابن الجوزي في كتابه “تلبس إبليس”، ومن قبله انتبه الغزاليّ، إلى أمراض النفوس الإنسانيّة، مالم تكن هناك “المناعة” التي تردّ المرض، أو تردُّ آثاره. فبعض الدعاة يتوسل الشيطان للوصول إليهم بمسوّغات في ظاهرها كثير من المنطق والمعقوليَّة السطحيَّة أو الظاهريَّة، وذلك لدفعهم للنيل من إخوان لهم، لو أدركوا أهميّة ما يفعلون على حقيقته لوجدوا أنَّه في صالحهم، وفي خدمة ذات الهدف الذي يسعون إلى تحقيقه. فإبليس قد يدفع داعية إلى أن يُوسع الآخر سباباً وشتماً ويصفه بالبدعة والانحراف وما إليها، ولو تأمّل هذا الداعية فعل أخيه وقوله بعيداً عن المؤثّرات الشيطانية لربما وجد أخاه في مقدّمة مناصري السنَّة. وتلبيسات إبليس كثيرة على أناس قد لا يدور في خلد العاميّ أنّهم ممن يمكن أن تجتالهم الشياطين أو ينخدعوا بوساوسهم. والإنسان العاقل يحتاج إلى أن يتسم بكثير من الحيطة والحذر قبل الانسياق وراء الشائعات ضد إخوانه، ويرددها وينشرها.

و(كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكل ما سمع).

ومن غفل عن ذكر الرحمن، استولى عليه الشيطان، واستبد بقيادته: “وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ” (سورة الزخرف : 36)، والأمّة في أمسّ الحاجة إلى من يذكرّها بذاتها وأخوّتها وضرورة استعادتها وحدتها لتكون كالبنيان المرصوص لتواجه التحديات الهائلة.

لم ينتقد الناقد أي فكرة واحدة مما قد قدّمت في زاوية “الأهرام”، ولم يقارنها بغيرها مما يرد في الصحف الأخرى، ولم يقل: إنّها أفكار سيئة بحيث يستحق الكاتب المحاصرة، ولم يسأل نفسه عن شيء من ذلك، لكن –للأسف الشديد– لم يعب عليه إلا أنه “عراقيّ”، ومرة أخرى نذكر بقوله تعالى في من يعشو عن ذكر الرحمن: “نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ” (سورة الزخرف: 36)؛ وذلك يُعني أن يقيض الله له قرينّاً يكون له قائداً ومرشداً إلى الشر!!.

على كل حال إذا كان الانتساب إلى بلد أو إقليم يعدّ في المفاخر أو المكارم، فأنا من أولئك الذين ينتسبون إلى بلاد العرب كلّها، وإلى ديار الإسلام جميعها، بل إلى آدم، وآدم من تراب. وأمّا عن انتسابي لمصر خاصة فإنّني مصريّ الثقافة والنشأة والهوى. فإنّ شهاداتي كلها من الثانوية والعالميّة والماجستير والدكتوراه، كلّها من مصر، وعلاقاتي بها بدأت منذ (15/11/1953م)، لم أنقطع عن مصر حتى اليوم ولي فيها (54) سنة كاملة، ولي فيها مسكن دائم وعمل لم ينقطع منذ ذلك التاريخ. في الوقت نفسه يؤسفني أنَّني لم أزر العراق منذ (38) سنة، رغم الإلحاح والضغوط الشديدة خاصة هذه الأيام؛ لئلا أنزلق في الفتنة. والحمد لله أنَّني أفقه فقه الكلمة وأفقه فقه الدعوة وفقه الوفاء، ويشرفني أن لي في المصريّين صهراً ونسباً؛ فأنا زوج الأستاذة الدكتورة منى محمد عبد المنعم أبو الفضل التي تتلمذ عليها المئآت من علماء السياسة في هذه البلاد وغيرها، وتتلمذ على يدي والدها جيل من الأطباء المصريّين والعرب، وأمها د. زهيرة حافظ عابدين (أم الأطباء المصريّين) رحمها الله. وأنا -قبل هذا وبعده- ابن الأزهر الشريف، درست فيه حين كان عالميًّا لا فرق في رحابه بين تونسيّ تولى مشيخته، وفلسطيني يبلغ أرقى المسئوليّات فيه، وعلماء يمثِّلون خارطة العالم الإسلاميّ كلّها، نرجو الله –تعالى– أن يحفظ مصر للأزهر، والأزهر لمصر، ويعزز مكانتها ومكانته، ويعيد أمجاده ليقدم الإسلام للبشريَّة في أوج اعتداله وصفائه ونقائه.

وإذا سلكت سبل علمائنا المتقدّمين في التعريف بأنفسهم فإنّني أستطيع أن أقول : “إنّني إنسان نوعاً، ورجل جنساً، وعربيٌّ أرومة ونسباً، وعراقيٌّ مولداً، ومصريّ ثقافة وصهراً، ومسلم ديناً، وسنيٌّ شافعيٌّ مذهباً، وحرميٌّ هوى، وفرجينيٌّ منزلاً، وعالميٌّ توجّها…”.

س :  هل من علاقة في هذا السياق بين السياسة وهذه الانتقادات؟

منذ فترة طويلة أدركت أنَّ هناك وظائف أو أدواراً معيّنة في المجتمع ينبغي لمن وضعه الله –تعالى- في شيء منها ألاّ يتحيّز إلى فئة أو حزب، بل عليه أن ينحاز إلى “الأمَّة” كلّها. وأستطيع أن أذكر عدداً من هؤلاء الذين أكره لهم التحزّب لغير مجموع الأمة:

أولهم علماء الأمَّة وأهل الدعوة والخطابة والفتيا في الأمَّة، هؤلاء يجب على من ينتمي إلى صفوفهم أن يكون للأمَّة –كلها- وألا ينحاز إلى حزب أو فئة منها، بل ينحاز للأمَّة كلّها. فالعالم -في تراثنا- كان يمثِّل الأمّة كلّها، لا يتحيَّز إلى فئة أو مذهب أو طائفة أو قوم أو إقليم، ولذلك كان العلماء حين يترجمون لأنفسهم يقول قائلهم –مثلاً–: “أنا فلان ابن فلان المصريّ أو الشاميّ أو المغربي موطناً، المالكي مذهباً، العراقيّ منزلاً… الأشعري اعتقاداً … الخ”. ذلك لأن الفقيه ينبغي أن يكون لجميع أبناء الأمَّة، سواء أكانوا متديِّنين أم غير متديِّنين؛ وقد كان للإمام أبي حنيفة –مثلاً فيما يؤثر- جار سِكّير يرفع قعيرته كل ليلة يغنيّ :

أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا                ليوم كريهة وسداد ثغر

وحين افتقد الإمام ذلك الصوت ثلاث ليال سأل عنه أهله، فعلم أنَّه في السجن. والعالم أبٌ للجميع ينصح العاصي، ويعطف عليه ولا ينفره؛ ولذلك ذهب الإمام إلى رئيس الشرطة يتشفع له؛ لأنّه جاره. فاستغرب رئيس الشرطة لشفاعة الإمام في ذلك السكيّر فأمر قائد الشرطة أن يطلق الرجل بكفالة أبي حنيفة، فقال له أبو حنيفة -بعد أن أخذ بيده عائداً به إلى بيته-: هل أضعناك يا فتى؟

فأبو حنيفة العالم الفقيه لم يجد في نفسه ما يمنعه من أن يقف إلى جوار سكِّير من أبناء الأمة. وكان من نتيجة ذلك صلاح حال الرجل السِكّير على يدي الإمام يرحمه الله. فالعالم يستصلح المخرب ويشجع الطائع، ويشد من أزره. ولو تحيَّز العالم إلى فئـة من فئات الأمة فمن يرشد الفئات الأخرى؟

الرجل الثاني الذي ينبغي أن يكون للأمَّة –كلّها- لا لفئـة معيَّنة هو القاضي والضابط وصنوف العسكر بصفة عامّة. فالقاضي لا يصح أن يتحيَّز لفئـة مهما كانت صالحة، بل ينبغي أن يكون تحيُّزه للعدل وقيم الأمّة التي جعلته حارساً عليها، ويكون هو للكاّفة، فإذا انحاز إلى فئـة دمّر وصار أمناً لبعض الأمّة وخوفاً للآخرين. وكذلك الحال مع العسكريّين ورجال الدولة.

والطبيب –ثالثًا- أخشي على الأمَّة من انحيازه بل يجب أن ينحاز إلى الأمّة ولا ينحاز لأية فئة منها، فإنّه لو انحاز وصار بحيث لو جاءه مريض من فئته فضله على غيره، فإنني أخاف عليه أن يخالف يمين أبقراط و يمين الإسلام وعهده للأمَّة.

هؤلاء -وغيرهم ممن هم على شاكلتهم- ينبغي أن يخرجوا عن كل معاني التحيُّز لعشيرة أو عرق أو أيديولوجيَّة أو طائفة أو ما إليها، وينحازوا بكليّتهم إلى الأمّة – كلّها.

والعراق حاله شاهد على ذلك، ويستطيع أي مراقب أن يرى كيف أفسدت تحيّزات عديدة حال الشعب فيه؟

لذلك كنت أربأ بنفسي وأحملها وأجاهدها على هذه المعاني. أنا اليوم مسلم وعربيُّ وسُني، وأستاذ، وإنسان، وانحيازي –دائماً– للإنسان المكرّم وكرامته وحقوقه، ولأمّتي كلّها. إنّني أتألم كثيراً حين أقرأ أو أسمع عن قتل سنّة للشيعة، أو شيعة لسنّة أو كردٍ لعرب أو عرب لكرد. إنَّني –بفضل الله– أشعر باعتزاز أنّني قد تجاوزت هذه الطائفيّة البغيضة وأشمئز حين يحاول بعضهم أن يحصرني في مثل هذه الدوائر الضّيََفة.

ورغم أنّ معظم أهلي وأحبابي حرمت من رؤياهم، وماتوا وأنا غائب، ومنهم أبي وعمي وأخي وغيرهم ولم أر حتى قبورهم …، لكنني تألمت أكثر حين رأيت الفتنـة تحتاج البلاد كلّها والانتماءات الضيِّقة تهيمن على الساحة.

وحين سُئلت من قبل الجزيرة الناطقة بالإنجليزية يوم إعدام صدام عن موقفي من إعدامه –ويبدو أنهّم كانوا يعرفون أنّني كنت محكوماً في عهده بالإعدام- قلت : “لا يمكن أن يشمت إنسان مسلم بأحد حتى لو كان الذي شرّده لأكثر من (37) عاماً عن بلده، لذلك فإنَّنا لا نرضى بقتله بهذه الطريقة المهينة وفي يوم عيد المسلمين الأكبر. فقال المذيع مستغرباً: حتى لو كان من حكم عليك بالإعدام؟ قلت : نعم؛ ذلك هو خلق المسلم”.

وأخشى ما أخشاه أن الذين يمارسون القتل في العراق طائفّياً لا يشعرون أنّ الطائفة الأخرى سوف تمتلئ صدور أجيالها بمشاعر الرغبة في الانتقام، وأن ذلك قد يستمر إلى ما لا نهاية كلّما سادت فئة أو طائفة استبدت بشئون الطوائف الأخرى!! إذا لـم نُعِد تربية أجيالنا على قيم الأمَّة ومشاعر الوحدة.

في الختام :  

أودّ أن أؤكد أن فتاوى الأمة، ينبغي ألا يتسارع إليها ولا فيها الأفراد من العلماء والمراجع مهما كانت مكانتهم وقدراتهم الاجتهادية، بل ينبغي أن يُحشر لها ويحشد أصحاب التخصُّصات المختلفة من علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والفقهاء والمحامين والقضاة والمستشارين وينبغي لهم أن ينظروا في الأولويّات والمآلات والآثار وفي جميع الجوانب ذات العلاقة بموضوع الفتوى مثل  الفتاوى المتعلّقة بالحرب والسلم، والفتاوى المتعلّقة بما يسمى بالهدنة الطويلة، أو القصيرة، والفتاوى المتعلقة بقضايا تطبيق الشريعة أو تأجيلها، وتطبيق الحدود أو تجميدها، وقضايا وحدة الأمة وحكمها ووسائلها أو الرضا بواقعها التجزيئيّ، وما ماثلها من قضايا تحديد من هم أعداء الأمة المسلمة ومنهم أصدقاؤها أو الضوابط التي لا بد من ملاحظتها؛ وكيف يحدَّد العدو وكيف يحدَّد الوليُّ الصديق. كذلك القضايا المتعلقة بالجهاد سواء أكان جهاد دفع أو جهاد طلب. وأية قضايا مماثلة قد يكون التصرف فيها يحمل افتئاتاً على الأمة أو على أولياء أمورها الشرعيِّين ولا يتيقَّن المفتون جوانب المصلحة والمفسدة فيها. فهذه كلها أمور لابد لها من مراكز بحوث ومجامع علميَّة معتبرة تضم القادرين الأكفاء في مختلف المجالات ليقولوا فيها الكلمة السواء. كل هذه الأمور وكثير غيرها أظنُّها لو عرضت في زمن رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلم-  لأنتظر فيها  الوحيَ قبل أن يبتّ فيها. ولو عرضت لأصحابه -رضي الله عنهم- لجمعوا إليها أهل بدر وأُحد.

فعلينا جميعاً –وما أبرئ نفسي– أن نراقب الله (تعالى) فِي مثل هذه الفتاوى، وألا نسارع إلى البتِّ أو القول فيها دون نظر في البواعث والواقع والمآلات، والمقاصد، والرؤية المستقبليّة وما سيترتب على الفتوىٰ في الحاضر وفي المستقبل.

سأل السلطان العثمانيّ بعض علماء الدولة العليَّة عما إذا كان من الواجب اعتبار اللّغة العربّية لغة رسميّة للدولة، أو لا يجب ذلك، وتكون التركيّة هي اللّغة الرسمية؟، فأفتى جمهرتهم آنذاك بأنّ اتخاذ العربيَّة لغة رسميَّة للدولة العثمانيَّة المسلمة لأنّ أولئك المفتين لأنهّم لم ينظروا إلى الأمر من جوانبه المختلفة ولم يلاحظوا أنّ توحيد الأمّة المسلمة يتوقف على وحدة العقيدة والشريعة ونظم الحياة. والثقافة والأعراف، والثقافة لا يمكن توحيدها بدون توحيد اللغة. فظلت الدولة العثمانية بدون لغة ثقافة ولغة دين ولغة فكر موحّدة، تجعل لهذه الشعُوب المتّعدّدة ثقاّفة موحّدة. فماذا كانت النتيجة؟

إنّني أعتبر أنَّ هذه الفتوى القاصرة غير المدروسة كانت المسمار الأساس في نعش الدولة العثمانيّة فهي أخطر فتوى هيّأت لتفتيت هذه الدولة التي كانت عظيمة. وفي خمسينيَّات القرن الماضي – إن أسعفتني الذاكرة ربّما كان ذلك في عام (1953) – حدث أن اقترحَ بعض العلماء والدعاة الباكستانيّين –بعد الاستقلال– أن تتخّذ باكستان العربيّة لغة رسميّة للتخلّص من كافة اللّغات المحليّة الخاصّة، وطلبت باكستان من الجامعة العربيّة أن تزودها بـ (500) معلم للّغة العربية لمساعدتها في تعريب المدارس والتعليم تمهيداً لهذا الأمر: أمر (اتخاذ العربيَّة لغة رسمية للباكستان)، فجاء بعض من أفتى بفتوى عجيبة غريبة بأنّ “اللغة الأوردية” هي أفضل من العربيّة؛ لأنّها لغة نشأت في الإسلام. أما العربيَّة فقد مرت بطور الجاهليَّة ثم الإسلام!! ووجدت باكستان في اعتذار الجامعة العربية مع تلك الفتوى عذراً لكي تنصرف عن تلك الرغبة وتتجاوزها، ومن هنا خسر العرب حوالي (250) مليوناً كان يمكن أن يتعربوا وقد يعرّبون جنوب وشرق آسيا وربّما كانت اللّغة العربيّة ستمتد إلى أصقاع كثيرة قد تشمل أبناء القارة الهنديَّة –كلّها- وبلاداً أخرى غيرها لما عرف عن أبناء القارّة الهنديّة من حب الرحلة والسفر والانتقال.

لذلك فإنَّنا نرجو أن ينتبه علماؤنا وسادتنا ودعاتنا ومراجع الفتوى فينا إلى خطورة الفتوىٰ المتعلّقة بقضايا الأمّة العامّة، وضرورة عدم إخضاعها لآراء الأفراد واجتهادا تهم ومشاعرهم وعواطفهم وتحيُّزاتهم مهما كانت مكانتهم.

وهنا أجد نفسي مضطراً إلى التنبيه بأن أولئك العلماء أو السادة الذين يطلق عليهم مراجع لا يشكلون استثناءاً من هذه القواعد فليس هناك على وجه الأرض –اليوم- إنسان معصوم حتى لو اعتبر نفسه أو اعتبره الآخرون وارثاً للمعصوم أو نائباً عنه أو وليّاً فقهياً بأيّ شكل من أشكال التأويل ولذلك فإنما ينسب لبعض المراجع من آراء أو فتاوى كتلك التي يجرى تداولها في بعض البلدان من أن المرجع “الفلاني” وافق على سن القانون الفلانيّ أو أرحب ببقاء حالة معينة للبلد الذي يعيش فيه، أو أمر بإجتثاث الفئة الفلانيّة أو تلك؛ كل هذه الإشكاليّات من الأمور التي لا يحق لمرجع واحد أو عالم واحد أن يتصدى لها ففي ذلك كله افتئآت على الأمة غير مقبول شرعاً.

وسنعرض نموذجاً لخطة دراسيَّة تتعلق بفتوىٰ من فتاوىٰ الأمة لعلنا بذلك نستطيع لفت أنظار السادة العلماء والمتصدِّين للفتوىٰ إلى الجوانب الهامَّة التي لابد لفتاوى الأمة أن تلتفت إليها، وتعطيها من البحث والنظر ما تستحق ونحن إذ نضع هذا النموذج لا نعتبره نهائياً من ناحية، وفي الوقت نفسه فإنَّنا لا نعتبره ضربة لازب تلزم أهل العلم والفتوى حتى في الأمور الضرورية أو البت كليّة أو شبهها من الأمور التي يمكن أن تدرك بدون تلك الكثرة في التفاصيل مثل قضايا دفاع الناس عن أنفسهم وبيوتهم وأعراضهم وأموالهم ومواطنهم فتحديد الاعتداء وبيان المعتدي والمعتدىٰ  عليه في بعض هذه الأمور يمكن أن تدرك جوانب المصالح والمفاسد فيه بتداول وبحث وتشاور مجموعة محصورة قادرة على ملاحظة الجوانب الأساسيَّة في تلك الأمور لتقدم فيها رأياً فقهيّاً. لأنّنا نخشى من ملاحظة النموذج الذي ذكرنا أن يظن البعض بأنّنا نريد أن نجعل من تقديم أيّ فتوىٰ متعلّقة بالقضايا الكبرى أو قضايا من المستحيل الإفتاء فيها؛ لأنّ الأمة في حالات خاصّة، وفي أمور بديهيّة كالتي أشرنا إليها من قضايا الدفاع عن النفس والمال والعرض والدار لا تستطيع الانتظار الطويل، ومثل هذه الأمور تكاد ردود الأفعال فيها أن تكون غريزيَّة.         

ومع أنّني لا أميل إلى ممارسة الفتوى في أمور الأمة العامّة، ومع ذلك فإن كنت قد أخطأت في شيء من ذلك، فإنّي أستغفر الله –تعالى- وأتوب إليه وأسأله (عز وجل) العفو والمغفرة والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا الآخرة.

وقد رأيت أن أقدّم في نهاية هذا اللِّقاء تصوّراً للجوانب التي ينبغي أن يستعرضها، ويستحضرها كلّها، أولئك الذين يبتلَوْن بفتوى في قضيَّة من قضايا الأمّة. وقد اخترت موضوع “الحكم الشرعيّ للمشاركة في العمليَّة السياسيَّة حاليّاً في العراق” لكثرة أولئك الذين يتساءلون عنه. وسيتضح لمن يتدبّر ويتأمّل هذا التصوّر مدى المجازفة التي يسقط فيها أولئك المجازفون في الفتوى بالجواز أو عدمه دون دراسة لسائر الحيثيّات والجوانب التي ذكرناها، مهما كان مبلغهم من العلم، ومهما كانت مرجعيَّتهم وسمعتهم ومذاهبهم. والتصوّر وإن اتخذ من العراق نموذجاً لكنّه يمكن أن يستفاد به في سائر فتاوى “الأمَّة” فأرجو أن يجد من المراجع وأهل الفتوى ما يستحقه من العناية والله أعلم. كما أرجو من أولئك الأساتذة التي يدرسون “أصول الفقه” لطلابهم، ويتناولون في دروسهم مسائل “الاجتهاد والفتوىٰ والمفتي والمستفتي” أن يعنوا بتعليم طلاّبهم أهميَّة الفتوى في عصرنا هذا الذي خرجت فيه الفتوى من قضيَّة بين السائل والمجيب إلى أمر توصِّله أجهزة الإعلام العملاقة إلى كل زاوية من زوايا الأرض. فتستقطب اهتمام الملايين، وتثير من الجدل ما لم تكن تثيره الفتوىٰ قبل هذه المستجدَّات التي ألقت على كواهل أهل الفتيا أعباءاً لا عهد لهم بها من قبل. والله أعلم.

 

المشاركة السياسيَّة في العراق

 (ما رأي الدين في المشاركة السياسيّة في العراق –اليوم- في ظل ظروفه الراهنة؟) ذلك هو السؤال المطروح. وهو سؤال يثير قضيّة ذات جوانب عديدة ترقىٰ بها إلى المستوى الذي يجعلها من فتاوىٰ الأمَّة، بحيث تتجاوز الموقع الذي ارتبطت به، ويصبح المكان “العراق” وظروفه التي أملت طرح هذه الإشكاليّة بمثابة “مناسبة نزول أو إثارة للقضيّة التي يمكن أن تكون نموذجاً للقضايا المماثلة”.

1- خطة دراسة واقع الفتوى

أ) الإلمام بالمفاهيم وواقعها:

– المشاركة السياسية

– السياسة

– النطاق: العراق: (الجانب السياسي الاجتماعي – الاجتماعي – الثقافي) – المآلات والآثار.

– الجوانب التي يجب ملاحظتها في جانبي التاريخ والواقع.

ب) الواقع السياسيّ للعراق في زمن الاستفتاء:

أولاً: النظام السياسيَّ: (يتكون من خماسيّة أساسيّة)

(1) نظام الحكم:

  • من يحكم؟ (الحكومة) في الوسط والجنوب، والجنوب الغربيّ. وحكومة إقليميّة في الشمال.
    • سلطة تشريعيّة تقتضي إدراك: (فقه البرلمان وحريّاته وحصاناته في العالم الثالث- الدستور- الانتخابات ونظامها- تشكيل المجلس التشريعيّ)
    • سلطة تنفيذيّة: (الوزارات الأساسيَّة- توجُّهات الوزراء وانتماءاتهم).
    • سلطة قضائيَّة: (مدى الاستقلال القضائيّ – الدور السياسيّ للقضاء)
  • كيف يحكم البلد، وما هي؟ (قواعد الحكم الرسميَّة وغير الرسميَّة)
  • بم يحكم، وما هي؟ (الأدوات: السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة الأمنيَّة والاجتماعيّة والثقافيّة والقانونيّة)

(2) الأحزاب والهيئآت الشعبيَّة (أعدادها- مرجعيّاتها ومنطلقاتها- أهدافها- وسائلها وأدواتها- علاقاتها- عوامل التأثير فيها- مشتركاتها وخصوصيَّاتها- شعبيَّتها- خصائص تكوينها- امتداداتها مع الحكم والوجود الأجنبيّ خاصّة “قوات وسلطات التحالف”).

(3) الرأي العام العراقي الداخل والخارج (مكوِّناته- طبقاته الفكريَّة والثقافيّة- وسائل التعبير عنه- عوامل التأثير فيه- ثوابته ومتغيِّراته- علاقاته ومواقفه الرئيسيَّة من الحكومة والقوىٰ الداخليَّة والقوىٰ الأجنبيَّة- أهم قياداته وأهم توجّهاتهم) وطبيعة تلك التوجُّهات.

(4) قواعد العملية السياسيّة: (وهي أوسع من قواعد الحكم)

  • بين الحكم والإدارة والتغيير (قوى التسيير وقوى التغيير).
  • بين القواعد الرسميَّة (الحالة القانونيَّة والدستوريَّة) والقواعد غير الرسميّة (الأعراف والألعاب أو طرائق الممارسات السياسيّة).

(5) بيئة النظام السياسيّ: الدوليّة – الإقليميّة – الداخليّة.

 

2- العملية السياسيَّة: نتاج تفاعل خماسيّة النظام السياسيّ السابقة.

 

3- المشاركة السياسيّة في الواقع العراقيّ:

  • أ‌- جدال المرجعيَّات:
    • مقاييس الشرعيَّة والصحة والخطأ (الحكم الشرعيّ).
    • مقاييس النجاح والفشل (الحكم الواقعيّ).
  • ب‌- تحديد مقاصد المشاركة السياسيَّة.
  • ت‌- قواعد المشاركة وآليَّاتها.
  • الجواب : مشاركة من منطلق……….. بمقاصد ………. في ضوء وشروط …….. عدم المشاركة في حالة ………..  وحالة ………..  .

 


2- تفعيل خطة الدراسة وتطبيقها على العراق

  • نقدم تعريفات المفاهيم متسقة مع المدلولات في العقليَّة المعاصرة، ومع الحالة العراقيَّة بخصوصيَّاتها.
  • الواقع السياسيّ للعراق (معطيات اليوم: حتى الربع الأول من عام 2007م)، كالتالي:

أ- النظام السياسيّ العراقيّ (تحت مظلة دوليَّة: تعبّر احتلال من وجهة نظر الأغلبيَّة –  أو وجود أجنبيّ صديق من وجهة نظر أخرى):

أولا: نظام حكم جمهوري تكوّن بصورة مؤقتة بعد سقوط نظام آخر، تحت مظلة دوليَّة مسلحة بقيادة أمريكيَّة، ثم تحوَّل إلى نظام دائم، لا يزال يبحث عن طرق لإرساء قواعده، وتدعيم وجوده.

ثانياً: النظام الدائم الآن يقوم على انتخابات تشريعيَّة وحكوميّة مختلف على مصداقيَّتها، لأنّها تمت في ظل رعاية وتوجيه من قوى أجنبيّة، وفي ظل اختلال واضطراب أمنيّ شاسع، وتوجُّهات تفرّق وأطروحات تقسيم للعراق: عرقيًّأ وطائفيًّا.

ثالثاً: نظام تشريعيّ قائم على دستور مدني يراعي ويرعى الانقسامات الداخليّة: المذهبيَّة الطائفيَّة: غلبة شيعيَّة ووجود كرديّ كبير يسيطر على الشمال بشكل كامل، ويشارك ما بقى من العراق، وثغرات دستوريّة.

رابعاً: قواعد تقسيم السلطة تتسم بالطائفيّة والعرقيّة داخل السلطة التنفيذيّة سمتها الكبرىٰ تهميش السُّنة والمرجعيّة الدينيّة السُّنية، بما يريد في حالة التفرق والتمزق.

خامساً: مؤسَّسات دولة ضعيفة تقع بين الاحتفاظ ببقايا الميراث البعثيّ وأساليبه، وبين الشكليّة غير المكتملة المقلّدة للنمط الغربيّ، وبين اللّانظاميّة واللّامرجعيّة، والاستغلال الطائفيّ.

سادساً: مؤسَّسات دولة تعاني إشكاليَّات انعدام مصادر: الأمن – الاستقرار – الاستمرار – التمويل – الشفافيّة – رسوّ القواعد الإجرائيَّة، وتعاني تأثيرات: الطائفة – والمذهب – والطبقة – والعرق – والجزئيّات.

سابعاً: رأي عام مضطرب متحيِّز، متغلّب، متعدّد الرؤوس والقواعد: حالة الإعلام والخطاب السياسيّ: تشرذم مع غياب البرامج والمشاريع الواضحة سواء للتيسير أو للتغيير.

ثامناً: عمليّة سياسيّة ناقصة الأركان: جماعات سلميّة غير فعّالة – جماعات مسلحة مختلفة مجهّلة المعالم بعضها يعمل تحت اسم “مقاومة الاحتلال” وبعضها يعمل لصالح قوى مستأجرة تدفع له، وبعضها يعمل للانتقام والتصفيات الطائفيَّة. – مجتمع مدنيّ شائه- حالة شبيهة بالحرب الأهليَّة.

تاسعاً: عمليّة سياسيّة ناقصة الفاعليّة، تترك مساحة أوسع لفعل العامل الخارجيّ الدوليّ والإقليميّ، ويتضح فيها اختلال موازين القوى لصالح القوات الأجنبيّة والطائفيّة (الشيعيّة) والحزبين الكرديَّين.

عاشراً: بيئة دوليّة وإقليميّة متعارضة المصالح والأهداف: فهناك أهداف طائفيّة وأهداف عصريّة وأهداف ومصالح ذاتيَّة للقوىٰ الخارجيّة – مع غياب مشروع دوليّ لإعادة تشكيل الدولة العراقيّة وغلبة القيادة الأمريكيَّة وأهدافها على النظام الدوليّ.

حادي عشر: الاستراتيجيّة الأمريكيَّة والرؤية الأمريكيَّة في بنية النظام السياسيّ العراقيّ وحركته : سياسة حجر الأساس – سياسة النموذج القابل للتكرار – الفوضى الخلاقة – الحرب على الإرهاب – الإمبراطوريّة الأمريكيَّة – أمن إسرائيل – النفط باعتباره المورد الاستراتيجيّ.

ثاني عشر: منافذ المشاركة في العمليَّة السياسيّة في العراق:

  • قواعد التسيير: في نظام الحكم – في النظام السياسيّ – في القوة الخارجيّة أو معها: وسائل الوصول وعوائقها، العشائريّة، الطائفيّة والعرقيّة.
  • قواعد التغيير: الإصلاحيّة والثوريّة (ضد الداخل – ضد الخارج – ضد الاثنين معاً): الوسائل السلميَّة والوسائل غير السلميَّة.

ب) مقاييس المشاركة السياسيّة: المرجعيَّة – المقاصد –  القواعد الكليّة الحاكمة- الآليّات النموذجيّة :

  • مقاييس الصحة والخطأ: المشاركة من منطلق:

أولاً: المرجعيّة الذاتيّة: لا للمشاركة من مرجعيّة لا يقبلها تاريخ العراق ولا أصول بنيته الثقافيّة والحضاريَّة.

ثانياً: المرجعيّة الواسعة: اتّساع المرجعيّة مقياس؛ التي تسع وتجمّع الطوائف والمذاهب والأعراق.

ثالثاً: مصالح الأمة العراقيَّة الحيويّة ثم الأساسيّة: حفظ نفوس العراقيّين، ثم حفظ دين العراقيين، ثم حفظ أعراضهم ثم حفظ أموالهم.

رابعاً: اعتماد “التعدديّة الجامعة” قاعدة كليَّة.

  • مقاييس النجاح والفشل: المشاركة على أساس :

أولاً: حسن صياغة المشروع / البرنامج المتسق مع المرجعيّة الذاتيّة للشعب والجامعة لك فئاته.

ثانياً: تعيين المقاصد وترتيبها بالتقريب بين الواقع العراقيّ العامّ والحالّ وبين المرجعيّة والمصالح العليا والمغلّبة.

ثالثاً: استيعاب مطالب القوىٰ الداخليّة ومراعاة ثقل القوىٰ الخارجيّة في تعيين الأهداف: التوازن وفق فقه الموازنات وفقه الواقع، وفقه الأولويَّات.

رابعاً: إتبّاع آليّات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (بثوابتهما ومتغيّراتهما) وإزالة المنكر بما لا يُوقع مضارًّا أكبر.

خامساً: تحقيق الوعي العام بين النخبة الصادقة والجماهير بأساسيّات المشاركة الصحيحة والفعّالة.

سادساً: الانفتاح على الرؤىٰ المتعدّدة وإدراجها في خطاب المشاركة وتوسيع مفهوم العمليّة السياسيّة لتشمل فعاليّات : الدعوة – الفتوىٰ – العمل الاجتماعيّ والخيريّ وما شاكل ذلك. 

3- إصدار (صياغة الفتوىٰ)

فإن الحكم على “المشاركة السياسيّة في العراق” اليوم محكوم بعدة أمور:

  • مفهوم هذه المشاركة السياسيّة: عامة، وفي الحالة العراقيّة تحديدًا.
  • مرجعيّة هذه المشاركة، الأصليّة والمتغيرات المقبولة فيها.
  • مقاصدها.
  • قواعدها الحاكمة وآليّاتها المثلي.
الإيجابّي في المشاركة السياسيّة السلبيّ في المشاركة
1- تحقيق مصالح المسلمين الشرعيَّة.

2- تكريس المشاركة الإيجابيَّة و التعريف بالطاقات الإسلاميّة.

3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من منبر مشروع.

4- الرقابة على النظام.

5- ممارسة الاجتهاد التشريعيّ والسياسيّ الواقعيّ.

1-        إضفاء الشرعيّة على النظام.

2-         إزالة روح المقاومة والمناعة عن الأمة.

3-       إيجاد نوع من التطبيع بين الإسلام والنظم الأخرى.

ومن ثم، فالحكم على التفصيل يقع بين :

  • ‌أ- مشاركة محرّمة : تعمل على تكريس وضع الاحتلال أو تنضم إلى جماعات لا تعرف لدين العراقيّين أصلاً تحترمه، ولا لأرواحهم وأعراضهم حرمة، أو تتبع منهجية محرمة من باب أن الوسائل تأخذ أحكام مقاصدها.
  • ‌ب- مشاركة واجبة بين الوجوب العينيّ والوجوب الكفائيّ بشروط كل منهما؛ وهي التي لا يتم الواجب (من حفظ الدين والنفس والعرض في العراق) إلا به، ولا يمنع وقوع المحرم في هذه الأشياء إلا به، فالمشاركة لحقن الدماء (في ظل وضوح) الهدف واجبة.
  • ‌ج- مشاركة يختلط فيها الحكم، ومنها الضروريّ، ومنها الحاجيّ. وفي ظل التكييف المقدّم للواقع العراقيّ نهتم بالمشاركة الضروريّة؛ أي التي يضطر المرء (السائل وغيره) إليها؛ هي ليست من قبيل المشاركة المحرمّة المذكورة (فغالباً لا يعتد بالاضطرار في مثل هذه بوصفها وحيثيّاتها المذكورة)، وليست بالطبع واجبة، بل هي مشاركة مختلطة الحال.

فعند الاضطرار لابد من إعمال القواعد الترجيحيّة؛ وإلى طرف المصلحة المعتبرة والمغلّبة ينبغي أن يميل حكم المشاركة بالرجحان أو المرجوحيّة.. وهذا محل اجتهاد. والله أعلم بالعباد.

 

 

  

[*] ومن الشائع أن عدد المسلمين في القوات الأمريكيّة يزيد عن عشرة آلاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *