Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

علماء ربانيُّون

أ.د: طه جابر العلواني.

     شيخنا أمجد الزهاويّ –يرحمه الله- آخر العلماء الأفذاذ الذين جمعوا بين الذكاء الخارق والعلم الواسع والحافظة المتَّقدة، والتقوى بأجَلّ معانيها وأقواها، كان مرة في زيارة للملك غازي ملك العراق واستمع لأذان الظهر وهو في غمرة حديثه إلى الملك، فانتفض كعادته حين يسمع الأذان وقام وقال ملتفتًا للملك: أفندي -وذلك هو اللقب الذي كان يلقب به سائر الناس، لا يفرق بين ملك أو طالب من طلابه- أريد أن أعبد الله في مكان لا يُعبد الله فيه، وأقام الصلاة وبدأ يصلي في غرفة الملك، وظل الملك ساكتًا خاشعًا حتى أتم الشيخ صلاته، وعاد إلى الحديث معه. فقال له: لم أرك تصلي أفندي. قال: فاجأتني ولم أكن متوضئًا، ثم أنهى الشيخ حديثه وانصرف.

     بعد أن توفي الشيخ قاسم القيسي مفتي العراق سنة (1954م) أصرّ الملك ونوري السعيد وأقطاب الدولة على أن يتولى الإفتاء الشيخ أمجد الزهاوي، الذي لم يكن في العالم الإسلاميّ كلّه على ما نعلم أعلم منه في الفقه والأصول واللغة العربيَّة والأدب والتاريخ الإسلاميّ في تلك المرحلة، وبعثت الحكومة بمندوبيّ له هما: بهجت الأثريّ، ومعه الأستاذ الدبَّاغ الذي أنسيت اسمه الأول؛ ليفاوضاه على قبول منصب المفتيّ، وكنت وحدي جالسًا إليه، أدرس عليه شرح المنار في أصول الفقه للحنفيَّة، وكتاب الهداية في الفقه، واستأذناه في أن أخرج ليتكلما معه، فأصرّ على بقائي –يرحمه الله- ووافق على توقُّف الدرس ليستمع لما جاءا به فقط دون إطالة، فبدءا حديثهما معه بإبلاغه تحيَّات الملك، وولي العهد، ورئيس الوزراء نوري السعيد، وأحمد مختار بابان، ومن إليهم من قادة المملكة -آنذاك، ثم قالا له كلامًا كثيرًا حول انتشار الشيوعيَّة وتهديدها للدين، وأنَّ الحكومة لذلك حريصة على جمع كلمة العلماء حول قيادته؛ ليقودهم في مقاومة الإلحاد والانحراف، وتدعيم الدين وقواعده، وإعلاء كلمة الله، وبعد أن فرغا، قال لهما -يرحمه الله- وهو ممسك بلحيته: أفندي بعد أن بلغت هذا السن لا يمكن أن يضحك عليَّ أحد ممن ذكرتم، فالشيوعيَّة إنَّما وجدت بعد أن مهدت هذه الحكومات القائمة الطريق لها بتغيير السياسات التعليميَّة ومحاصرة أهل العلم، وتهميش دور المساجد والمدارس الدينيَّة، والعلماء، فامتدت الشيوعيَّة وانتشرت بما قدَّم هؤلاء لها، فلن يوقف الشيوعيَّة اليوم مفتي ولا قاض، بل يوقفها العدل والإنصاف والاهتمام بشئون الفقراء ومقاومة الفساد، والعناية بتربية الأجيال وتعليمها. ثم قال: يذكرني موقفكم وموقف الحكومة بموقف سعيد بن جبير مع الحجاج، فالحجاج سأل سعيدًا عن رأيه في عبد الملك بن مروان، فذكره بما فيه، ووصفه بما يستحقه، ثم سأله الحجاج وما رأيك يا سعيد فيَّ، فأجابه وهل أنت إلا سيئة من سيئات عبد الملك بن مروان، فالشيوعيَّة عندي هي سيئة من سيئات هذه الحكومة التي تريد أن تضحك عليَّ وعلى المشايخ بتعيني مفتيًا، فإن نحن حققنا شيئًا نسبوه لأنفسهم، وإذا فشلنا قالوا فشل العلماء والمتدينون في مقاومة الشيوعيَّة، عودا إلى من بعثكما وأخبراهم بما سمعتم مني. وليبحثوا عن شخص آخر سواي، يمكن أن يستجيب لهم. انتهى.

     ثم تكرر المشهد حين جاء الشيخ نجم الدين الواعظ –يرحمه الله- وبصحبته الشيخ نوري الملا حويش –يرحمه الله- إلى الشيخ وكنت في مجلسه في مدرسة السليمانيَّة أقرأ عليه درسي، فطلب الشيخ نجم الدين الواعظ منه أن يكلِّم نوري السعيد ويطلب منه وقد رفض الشيخ منصب الافتاء أن يعيِّن الشيخ نجم الدين الواعظ، فحاول الشيخ بكل ما استطاع أن يتخلَّص من هذا الطلب العجيب، والشيخ نجم الدين يصر بإلحاح على الشيخ أن يفعل، وإذ لم يجد الشيخ بدًا استسلم، فأمر الشيخ الواعظ الشيخ نوري الملا حويش بأن يطلب نوري السعيد في مكتبه ليكلمه الشيخ، وفي ما انصرف الشيخ نوري لتدبير الرقم وطلب رئيس الوزراء جلس الشيخ نجم الدين يحاول تلقين شيخنا الزهاوي ما يريده أن يقوله لنوري السعيد، فكان يقول له: أفندي قل له كذا وقل له كذا. بعد جملة الألقاب، مثل صاحب الفخامة وما إلى ذلك، والشيخ ممتعض غاية الامتعاض، وبعد أن وفق السيد نوري الملا حويش للحصول على أحمد مختار بابان قال له: الشيخ الزهاوي يود أن يكلمك. فقام الشيخ متثاقلًا إلى الهاتف، والشيخ نجم الدين يلقنه الألقاب التي يريده أن يلقب بها أحمد مختار بابان، فأمسك الشيخ الزهاوي بالسماعة وقال لبابان: “أخي مختار سلام عليكم، أخي الشيخ نجم الدين الواعظ يحب يصير مفتي إذا تحبون تعينوه، سلام عليكم” وانتهت المكالمة، ساءني ذلك الضغط الذي تعرض له شيخي، فتوجهت إلى الشيخ نجم الدين الواعظ بسؤال وقلت له: لعلّهم يستجيبون لكلمة الشيخ، ويعينونك مفتي كما رغبت، فليتك تفتينا هل تعتبر العراق بوضعه الحالي -وأنت حنفي المذهب ولك إلمام بفقه الأحناف- دار حرب أو دار إسلام، وفقًا لمذهب الإمام وصاحبيه، فقال الشيخ الواعظ متضاحكًا ابني دار إسلام، ولو قلنا إنَّها دار حرب فذلك يعني أنَّ من حق ابن سعود أن يغزو العراق، ولا أظن الشيخ والتفت إلى الشيخ الزهاوي يوافق على ذلك، فإذا بالشيخ يقول له: إنَّ أبا يوسف قد عرَّف دار الإسلام بأنَّها الدار التي تقام فيها الحدود وتطبَّق فيها الأحكام، فإذا توقف تطبيق الأحكام الشرعيَّة وتوقفت الحدود، وتم تطبيق أشياء أخرى فإنَّ دار الإسلام تصير دار حرب بظهور أحكام الكفر فيها. وكان المحامي عبد الرحمن خضر رئيس ديوان الأوقاف –آنذاك- جالسًا، فأراد الشيخ نجم الدين أن يُحرج الشيخ الزهاويّ فقال له: وما رأي سماحتكم في مثل السيد عبد الرحمن خضر، وهو رجل متديِّن لا يُشَك في إيمانه وإسلامه ويخدم في هذه الدولة، وسبق له أن خدم في المحاماة والقضاء. فقال شيخنا الزهاويّ -يرحمه الله- إن كان مؤمنًا بالقوانين المستوردة التي أحلّت محل الشريعة فهو كافر، وإن لم يكن مؤمنًا فهو فاسق. فضحك السيد عبد الرحمن خضر، وأسقط بيد الشيخ نجم الدين الواعظ الذي كان يتوقع أن الشيخ سوف يتحرج من القول الذي قاله.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

ولي من تصنيف الأرض موقف، شرحته في أكثر من دراسة، غير ناس أو غافل عن مواقف شيوخي، لكَّنني أعتبر أنَّني مخرِّج على مذاهبهم، ولست بخارج عنها، والصاحبان قد خالفا شيخهما أبا حنيفة بمئات المسائل مع الالتزام بأصوله، وقواعد فقهه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *