Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مداخل مراجعة القرآن الكريم-1

أ.د/ طه جابر العلواني

المدخل الأول: المراجعة في ضوء النسق القرآني.

تتأسس عمليّات المراجعة على فهم «النسق القرآنيّ» الذي عمل رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- بالقرآن على تأسيسه، وإرساء دعائمه، وتوريثه للذين أورثهم الله الكتاب، واصطفاهم لحمله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر: 32).

فما المراد بالنسق القرآنيّ؟ وما مفرداته الأساسيَّة؟

يراد «بالنسق القرآنيُّ» تلك المنظومة المترابطة المحكمة التي تمثِّل إطاراً يُرجع إليه، ويُنطلق منه في بناء الأفكار الإسلاميَّة -على تنوعها- ومراجعتها وتقويمها واختبار نتائجها، ويقوم النسق القرآنيّ -على سبيل الإيجاز- على ما يلي:

1-التوحيد:

يُعد «التوحيد» أسَّ الهرم وقمته في هذا النسق القرآني، و«التوحيد» هو الإقرار والاعتراف النابع من اليقين بأحديَّة الله(عز وجل)  ووحدانيَّته، وتفرُّده تفرّدًا مطلقًا في كل ما هو مختص به، من الألوهيَّة والربوبيَّة والأسماء والصفات، والإقرار -عن يقين- كذلك بانتفاء أضدادها ومنافياتها عنه (سبحانه)، و«التوحيد» أساس الدِّين – كلّه- فما من أمر كليّ أو جزئيّ، أصليّ أو فرعيّ، مقاصديّ أو تعبُّديّ، عقديّ أو شرعيّ، نظميّ أو أخلاقيّ، إلاّ هو قائم على «التوحيد» منبثق عنه، وإنْ لم يكن كذلك فليس من الدين، ولا يكون من التديُّن في قليل ولا كثير، بل هو إلى البدعة والانحراف أقرب. فالتوحيد جوهر رسالات الرسل والأنبياء كافة: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (النحل: 36).

وللتوحيد انعكاسات وتجليَّات متنوِّعة على جوانب كثيرة وهامَّة من مناحي الحياة المختلفة وما يهمنا في هذا المجال هو انعكاسات وتجليَّات «التوحيد» على قضايا المعرفة، حيث إنَّ للتوحيد تجليَّات كثيرة مؤثرة على الدواعي والدوافع المحرّكة للإنسان نحو المعرفة وموضوعاتها، وتحديد مصادرها، ومسائلها، ومضامينها ومناهجها، وطرق بنائها وإيجاد ملكاتها، وللإجابة عن أسئلتها، ومنها: «ما هو»؟ وأيّ شيء هو؟ وماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟. وتحديد ما يليق أنْ يكون موضوع تساؤل، وما لا ينبغي أنْ يكون موضوع تساؤل و«التوحيد» يمثل حجر الزاوية في تكوين وبناء «الرؤية الكليَّة» للكون والحياة والإنسان . كما أنَّ «التوحيد» يوضِّح حدود وأبعاد الدور الإنسانيّ في الكون والحياة، وفي الوقت نفسه يحقق «التوحيد» قدرة هائلة على صياغة المفاهيم الضروريَّة لبناء فاعليّة الإنسان وقدراته على تحقيق التزكية، وتشكيل دوافع العمران، والتسامي فيه.

كما أنَّ «التوحيد» يمكِّن الإنسان من معرفة جملة القضايا التي عجزت الفلسفات البشريَّة ومصادرها عن بيان حقائقها، ومنها حقيقة الإنسان ومكانته، ودوره في الحياة، ومصادر تقييم فعله، وعلاقته بالكون والطبيعة، وحقيقة الحياة وحقيقة الموت، والتاريخ والصيرورة، وحقيقة الزمن واليوم الآخر، والدار الآخرة، وعلاقة الخالق بالمخلوق، وكيفيَّة التمييز بين الحق والباطل، والإجابة عن «الأسئلة النهائيَّة» وغيرها من أمور لا يمكن أنْ تُحدِّد علاقات الإنسان بواقعه الاجتماعيّ بدونها، وحين نريد القيام بمراجعات للمعرفة للتأكد من سلامة مناهجها، وعلميَّة مسائلها، وصحة متعلَّقاتها، ودقّة ما تكوّن من ملكاتها في عقليَّة الإنسان، وقدراتها على تحقيق مقاصدها فإنَّ «التوحيد» يهيئ للباحث منهجًا في غاية الدقة لمراجعة ذلك – كلّه- ونقده، والتأكُّد من أنَّ المعرفة التي تجري مراجعتها من الممكن أن تعاد إلى وضع يحقِّق مقاصدها وأهدافها بشكل سليم.

و«التوحيد» في هذا المجال لا يمكن الاستعاضة عنه بأيّ شيء سواه لمراجعة «العلوم النقليَّة» التي تأسَّست في مناهجها ومسائلها ومبادئها وقضاياها وملكاتها ومقاصدها وأهدافها لاستجلاء معاني الكتاب الكريم، وبيانه العمليّ والتطبيقيّ والقوليّ في منهج قائم على صحيح السنّة النبويَّة المطهّرة؛ فالتوحيد ثم بقيَّة محدِّدات «النسق القرآنيّ» هي الأقدر على تقويمها ونقدها، ومعرفة مدى التزامها بمبادئها الأساسيّة التي يفترض أن تُقاس إليها وبها. كما أنَّ «التوحيد» ثم بقيَّة محددات «النسق القرآنيّ» تشكّل مداخل نقديَّة أساسيَّة لا يمكن الاستغناء عنها في أيَّة مراجعة معرفيَّة جادّة لأيّ جانب من جوانب المعرفة، خاصَّة معارفنا النقليَّة أو الشرعيّة.

كما أنَّ «التوحيد» مدخل تفسيريّ شديد التأثير، كبير القدرة على تفسير كثير من الظواهر الاجتماعيَّة والعمرانيّة، ومضادَّاتها ومنافياتها، إضافة إلى قدراته المتنوعة في التنبيه على السنن والقوانين المبثوثة في الأنفس والآفاق، التي لا تخفى ضرورة معرفتها العلميّة والمعرفيّة.

2- التزكية:

للعلم والمعارف والخبرات والتجارب وظائف وأدوار أساسيَّة، فالقرآن المجيد لم يطلب من الإنسان التعلُّم وطلب المعرفة لذات العلم والمعرفة، أو للاستعلاء والاستكبار في الأرض، ودعوى الاستقلال عن الله (عز وجل) بالعلم؛ ولذلك فإنَّ القرآن المجيد ربط بين العلم والتزكية، فالتزكية غاية من أهم غايات التوحيد، ومقصد من أهم مقاصد الدين، ومحور من أهم المحاور الثلاثة التي دارت حولها آيات الكتاب الكريم.

و«التزكية» باعتبارها مفهومًا واسعًا، ودعامة من دعائم المقاصد والقيم العليا الحاكمة، تمثلّ ثمرة من ثمار العلم، ونتيجة من نتائجه. كما أنَّ التزكية تؤدي إلى أنْ يمارَس العلم والتعلّم ممارسة إسلاميَّة هادفة يتلازم فيها العلم والعمل في إطارٍ من القيم، وإذا كانت التزكية تعود على العمليّة التعليميَّة بما يعرف بـ«الاستقامة العلميّة» فإنَّ «العلم والمعرفة» تزكية للعقل وإنماء «لقوى الوعي الإنسانيّ»، وجعلها قادرة على ممارسة دورها بالشكل الذي رسمه الخالق البارئ المصوّر لها، فلا تكون معطلة محجوبة مثل قوى أولئك الذين وصفهم الله (تعالى) بقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾( الأعراف:179) فهؤلاء خرجوا بتعطيل قوى الوعي فيهم، وأُلحقوا بالأنعام والبهائم والدواب، فلم تعد تلك القوى قادرة على مساعدتهم وإعادتهم إلى حالة «التزكية» ليكونوا بشرًا سويًّا، قادرين على حمل الأمانة، ومهام الاستخلاف، والوفاء بالعهد الإلهيّ، والنجاح في اختبار الابتلاء، فالتزكية تصبح ميزانًا نزن به فنون العلم والمعرفة؛ لنميز بين العلم النافع والعلم الضار والقبيح منه والحسن، والممدوح منه والمذموم، وتصبح التزكية مع المحدّادت الأخرى «بوصلة هادية» في ميادين العلم، وآفاق المعرفة والفنون والآداب، والتقوى ثمرة «التزكية» والملكة التي تتكون بها وأساسها في الوقت ذاته، وقد ربط الله (تبارك وتعالى) بين التقوى وتعليمه الإنسان ربطًا محكمًا، فقد قال (جلّ شأنه): ﴿..وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ.. ﴾(البقرة:282) فهي ملكة إذا حصلت للإنسان ومارسها هيأت قوى وعيه، وشحذتها، وجعلتها ذات قدرة على إدراك الحقائق كما هي، وأضعفت كثيرًا من موانع المعرفة الحقيقية والصوارف عنها، وأبعدتها عن العقل والمنهج، وحين غُض النظر عن مبدأ الارتباط بين المعرفة والقيم برزت مجموعة من المشكلات الكبرى، التي هددت ولا تزال تهدد البشرية كلَّها في أمنها وسلامتها وبيئتها، وكل شيء فيها.

3-العمران:

ثم يأتي «العمران» بعد «التوحيد» و«التزكية» وهو ثالث «القيم العليا الحاكمة». و«العمران» جوهر الفعل الإنسانيّ في الكون وغايته، وبه تتجلّىٰ استفادة الإنسان من التسخير الإلهيّ للكون، وجعله تحت تصرّف الإنسان المستخلَف؛ ليحقق غاية الحق من الخلق في إعمار الكون، فأيّ نوع من المعارف أو العلوم ينافي هذه المقاصد العليا، أو يعارضها كلاً أو جزءًا فإنَّ تلك المنافاة أو المعارضة تخرج ذلك النوع من العلم والمعرفة من دوائر العلم النافع والمحمود. كما أنّ طلب العلم إذا لم يكن لغاية وهدف تدخله في أسس أو وسائل تحقيق هذه المقاصد، فإنّه يصبح نوعًا من العبث.

أمَّا المعارف التي تخدم هذه القيم وتعززها، فإنَّها علوم ومعارف نافعة من المطلوب تعلّمها ونشرها، والعناية بها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *