Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

ثنائيَّة الأصالة والمعاصرة

أ.د/ طه جابر العلواني

 إنّ ثنائيّة الخطاب في المحيط الإسلاميّ قد صارت بعد الاحتكاك بالحضارة الغربيّة المعاصرة ثنائيّة عرفت بثنائيّة «الأصالة والمعاصرة»، وكلا التيّارين كانا يحاولان الإجابة عن سؤال واحد؛ هُوَ «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» وهو السؤال العتيد الَّذِي رددته العناصر النهضويّة من التيّارين، وصاغه شكيب أرسلان في الثلث الأول من القرن الماضي بتلك الصياغة في كتاب جعل هذا السؤال عنوانًا له: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟».

وقد عرف هذا السؤال بـ «سؤال النهضة»، واستطاع هذا السؤال أن يتحكم بصياغة «الخطاب الإسلاميّ» طيلة القرون الماضية الثلاثة، ولم تخل بعض القرون السابقة من إثارة له، أو لبعض مَا له فيه علاقة بشكل أو بآخر.

أمَّا «الخطاب الغربيّ» فقد تبلور بعد دخول نابليون مصر عام (1798م) بأنّه خطاب يعرض علينا أو يقترح جوابًا للسؤال المذكور يقوم على بناء «الدولة والأمّة بناءً يعتمد النموذج الغربيّ أساسًا ومنطلقًا له، وتبنّي سياسات تقوم على تحقيق التنمية والحداثة، وفلسفة بناء مركزيّة الإنسان، لا مركزيّة الإله أو الدين، ويمكن أن يحل فيها المصنع محل المسجد والكنيسة…» ويقتصر دور الدين على صلة بين الإنسان والغيب المجهول!! لتلبية حاجة يراها البعض حاجة روحيّة أو نفسيّة فلا مانع أن يستدعي الدين لتلبية حاجات هذه الشريحة بين الحين والآخر.

وهكذا تبلورت ثنائيّة «الأصالة والمعاصرة» فتيّار «المعاصرة» اقتنع بإخلاص وصدق الخطاب الغربيّ ورغبته في نقلنا إلى مثل مَا هُوَ فيه من حداثة وتنمية وتقدم وتقنية، ويساوينا بنفسه في ذلك. فنكون من أولئك الذين صدّق عليهم الغرب ظنّه فاتبعوه وذلك هُوَ «تيار الحداثة والمعاصرة» من أبنائنا، وبدأت مرحلة تعاون وتنسيق بين صاغة «خطاب الحداثة» ومتلقي ذلك الخطاب من أبنائنا الذين سرعان مَا احتلّوا موقع النخب المتميزة التي أعينت على الانتقال إلى مواقع القيادة في بلدانها لإقامة الدول الحديثة وفقًا لتقسيمات النظام الدوليّ القديم، وتبنت تلك النخب من أبنائنا «النموذج الغربيّ» في “التغيير والتجديد” لتختصر الطريق إلى “النهضة والتحديث والتقدم”، وبرز في البيئة الإسلاميّة خطاب جديد عليها لم يجد الطريق أمامه معبّدًا فالهزيمة والتأخّر لا تكفي لإقناع أمّة مّا بالتخلي عن أصالتها وتراثها، والانفتاح على خطاب وافد، بل على العكس من ذلك، أحيانًا يكون التأخر والتراجع دوافع لبعض الأمم للقيام بمزيد من الالتصاق والتلاحم مع تراثها والتشبّث به حتى مع وجود «القناعة العقليّة» بأنّ بعض ذلك التراث قد يكون من أسباب التراجع والتخلّف والهزيمة، فإنّ الحالة العاطفيّة قد تقاوم «القناعة العقليّة». وهنا قد يلجأ المفكّرون إلى استخدام أساليب «المقاربة» و«التوفيق» لحمل الناس على التصالح مع الخطاب الوافد ولو إلى حين.

أمَّا أصحاب القرار والسياسيّون فقد تحملهم رغباتهم الجامحة لتحقيق الإنجاز السريع على استخدام أساليب القهر لشعوبهم والفرض والتطبيق القسريّ والتقليد المبتسر لفرض «قيم الحداثة والتنمية» التي أوهموا بأنّها حين تتحقق بأيّ شكل، فذلك سوف يحقق لهم ولشعوبهم كل مَا تصبوا إليه!! وقد تستدرج بعض هذه الجهات إلى التخاصم مع سائر قيم الأمَّة التي تعزز أصالتها، والنظر إليها على أنّها قيم معادية للحداثة، معوّقة للتقدم والتنمية فتصطدم -آنذاك- بمواطنيها، وقد تقوم بعمليّات تجهيل وتهميش لهم، وتحطيم لإرادتهم وكرامتهم، وتدمير لإنسانيّتهم، وتجاوز تراثهم، وتشويه هُوِيّتهم وإدخال بلدانهم في تبعيَّة اقتصاديّة وغذائيّة وتقنيّة وفكريّة وتربويّة وتعليميّة وثقافيّة، فيجد هؤلاء أنفسهم بعد حين لا يستطيعون الاستغناء عن أولئك الذين قلّدوهم ليتقدموا، لا ليكونوا مجرد ظل لهم يدور حولهم في مطعمه وملبسه ودوائه وسلاحه وتعلّمه وتدرُّبه وتربيته، بل وبدنه وخصائص هُوِيّته –كما فعل أتاتورك- الَّذِي بنى «النظام الأتاتوركيّ» وقدمه الغرب نموذجًا يحتذى في سائر أنحاء العالم الإسلاميّ في قاعدة تشكيله وبنائه والفلسفة التي بني عليها، وأسس تكوينه. وهو نظام قد قدّس دكتاتوريّة الفرد والحزب فقلّده آخرون بتكريس دكتاتوريّة الطبقة والفئة والقبيلة والأقليّة والنخبة أيًّا كانت وها نحن بعد كل تلك التضحيّات نعود كما بدأنا إلى دكتاتوريّة الطائفة والقبيلة والأسرة وإلى العجز الشامل عن القيام بأيّ شيء حتى إجراء محاكمة عادلة في جرائم اغتيال لا تحتاج أكثر من نظام قضائيّ وتحقيقيّ منظّم وعادل، فيدفعنا العجز إلى تدويلها.

لقد أدركت تلك النخب أنّ خيارها قد فشل وإن اختلفت في تحديد الأسباب. لكن السبب الأساس في نظرنا المتواضع – أنّ خيار تلك النخب لم يكن خيار الأمّة، ولا خيار الجماهير العربيّة المسلمة في أقطارها المختلفة، ولم يستطع ذلك الخيار أن يجنّد طاقات الأمّة ويفجّرها، بل على العكس من ذلك إنّه بدّدها ودمّرها. وجعل لسان حال العربيّ المسلم يردّد مع الشاعر العربيّ الجاهليّ قوله:

لا أذود الطير عن شجر *** قد بلوتُ المرَّ من ثمره

ولذلك رأينا تهاوي قوانا العسكريّة في (1967م) وسقوط نظام صدام في (2003م) وسقوط نظام الشاه قبله.. وهكذا تهاوت نظم بلدان مسلمة كثيرة وبشكلٍ مَا كان له ليحدث لو أنّ الأمّة وحكامها كانوا في علاقة صحيّة سليمة مع الأمَّة تجعل الأمَّة تنظر إلى قادتها على أنَّهم منها، وهي منهم، وليسوا متسلطين عليها، مارسوا فيها من أنواع القهر مَا لا يمكن لأعدائها أن يمارسوا أكثر منه!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *