أ.د/ طه جابر العلواني
المرحلة الأولى: الخطاب النبويّ
كان الخطاب النبوي خطابًا متماهيًا مع القرآن الكريم ﴿.. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ..﴾(البقرة:129)، وقد ربّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) أصحابه على هذا، فكان لهذه التربية كبير الأثر في نفوسهم فكان الخطاب ينطلق من نفسيَّة وعقليَّة قائمة على الشعور بالرسالة والابتعاث. فهذا ربعي بن عامر جعلته هذه التربية يقف أمام الفرس قائلًا لهم: “إنَّ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
المرحلة الثانية: بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلَّم)
وهي مرحلة مرت بفترة القلق الطبيعيّ الذي يترتب على فقدان الأمم للأنبياء والمرسلين أو القيادات والزعامات التاريخيَّة. هذه الحالة تكون حالة اضطراب شديد وفراغ كبير يحاول الناس ملأه بوسائل عديدة ومتنوعة وتبقى فئات كثيرة تشعر بأنَّ الفراغ لايزال قائمًا رغم كل المحاولات، خاصَّة عندما يكون من فقد “نبيًّا رسولًا بشرًا صنع أمَّة بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا”. فكان لابد في هذه الحالة أن يتخذ الخطاب منحى آخر؛ ولذلك وجدنا الصحابة والتابعين يعملون على سد ذلك الفراغ الذي تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) بكل ما أوتوا من قوة، لكنَّ الفراغ كان أوسع من جميع محاولاتهم. وكما في الحديث: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان ثنا جعفر بن سليمان ثنا ثابت عن أنس قال: لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وقال ما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا([1]).
حاول الصدِّيق والفاروق وكبار المهاجرين والأنصار ملء فراغ القيادة الجامعة التي تجتمع عليها كلمة الأمَّة فتحافظ على وحدتها وتحول دون تفرقها، فكانت “الخلافة على منهاج النبوّة” هي الوسيلة الأساسيَّة وبذلك تم تنصيب أبي بكر خليفة، لكنَّ الناس لم يشعروا بذلك حيث إنَّ الخارجين على الأمَّة ونظامها أعلنوا أنَّ هناك شيئًا مفقودًا في شخصيَّة الخليفة الصدِّيق وهو الجانب الروحيّ والغيـبيّ فأبو بكر الصدِّيق لا يتنـزل عليه وحي كما كان يتنـزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم)، وأبو بكر الصديق إذا دعا لهم أو صلَّى عليهم فلا تكون آثار صلاته ودعائه مثل آثار دعاء وصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) التي نصَّ القرآن الكريم على أنَّها سكن لهم؛ ولذلك فقد رفضوا طاعة أبي بكر والبقاء في إطار الأمَّة في ظل قيادته محتجين بذلك. وحاول فريق آخر من الصحابة ملأ الفراغ بنقل كل ما أثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) فكان المحدثون وأصحاب السير منهم يروون كل ما شاهدوا أو سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) ويقدمونه للناس، وكأنَّهم يريدون أن يقولوا لهم: “إنَّنا بهذه الروايات سنجعلكم وكأنَّكم تعيشون عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) وكأنَّه لم يفارق الحياة بعد”!!.
المرحلة الثالثة
مرحلة انقرض فيها جيل التلقي وعصر كبار الصحابة، والخطاب ما زال عنصره الأساس هو القرآن الكريم، والإحساس بأنَّ الأمَّة خيّرة وسط شاهدة على الناس، تحمل رسالة خالدة، تريد إيصالها إلى الخلق كافّة فهي وصيَّة الله فيهم وتراث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) بينهم. واستمر الحال حتى سنة (40هـ) حين أصبح صغار الصحابة وكبار التابعين كهولًا، ودخلت أمم جديدة إلى رحاب الإسلام جاءت من خلفيَّات سادت فيها نظم مختلفة مثل الفرس والروم والهنود ومن إليهم من الشعوب الأميَّة. وبطبيعة تلك النظم التي عرفها الداخلون الجدد في الإسلام كانت القوانين والشرائع والأحكام لديهم تأخذ أولويَّة في أنظار هؤلاء، فبدأت تظهر اتجاهات فقهيَّة في الخطاب الإسلاميّ دخلت في مجال الأحكام وبدأت إشكاليَّات وأسئلة أهل البلاد المفتوحة تفرض نفسها على من بقي من قرَّاء الصحابة وكبار التابعين ليظهر اتجاه الفقه والأحكام التشريعيَّة في ذلك الخطاب. وهنا حاول عمر بن عبد العزيز أن يوجد للسنن وظيفة أخرى غير وظيفة سد الفراغ الذي تركه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلَّم) فأمر بجمعها مع آثار الصحابة والتابعين لتكون بديلًا عن الفقه الذي بدأ ينتشر ويسيطر على الساحة الفكريَّة الإسلاميَّة. وبدأ الناس يختلفون فيه وحوله فكأنَّه أراد توحيد الأمَّة على السنن النبويَّة بدلًا من أن يتركها نهبًا للخطاب الفقهيّ، فأمر بجمع السنن وإتاحتها للأمَّة، لكنَّه لم يستطع أن يوقف آثار الفقه في الخطاب؛ ثم برز الاختلاف بين المسلمين وكان سابقًا لعمر بن عبد العزيز كما هو معروف لأنَّه ترتب على الفتنة الكبرى وما تلاها؛ ليدخل للخطاب بعد الفرقة الجانب الكلامي فيكون للشيعة خطابهم وللمرجئة خطابهم وللسنة خطابهم إلى أن تتابعت الفرق وكثرت فصار الاختلاف الكلاميّ والفرقيّ عنصرًا أساسًا في الخطاب الداخليّ، ولم يعد الخطاب القرآنيّ في الساحة الإسلاميَّة هو الخطاب السائد أو الكليّ. بل زاحمه في ذلك الجانب الكلاميّ والجانب الفقهيّ، فصار الخطاب مركبًا ومعبرًا عما يدور ويعتمل في الساحة الداخليَّة من قضايا.
هنا تبرز ظاهرة يتحول فيها النص إلى معضّد للخطاب البشريّ.
المرحلة الرابعة: أهل السيف وأهل القلم:
ثم برز أثر الفرقة السياسيَّة والكلاميَّة في إطارين؛ الإطار الأول: إطار حصر نقاء الخطاب القرآنيّ والتشريعيّ والفقهيّ في الجانب القضائيّ، وإعطاء الجانب السياسيّ مرونة أوسع باقتباس نظم وأشكال وهياكل من الدول التي كانت سائدة في تلك الفترة أو الدول التي اطلع المسلمون على تراثها فأخذوا يقتبسون منه في الجانب السياسيّ. والإطار الثاني: حيث انتقل الخطاب بكل هذه التأثيرات والعوامل إلى الساحة المعرفيَّة والثقافيَّة ليتحول إلى شقين: أ) شق عرف بأنَّه خطاب أهل السيف وهم الساسة، ب) وشق عرف بأنَّه خطاب أهل القلم وهم العلماء والفقهاء، وكان ذلك أثرًا ارتبط بجذور متقدمة سابقة، وبذور بذرت من قبل عندما انفكت القيادة السياسيَّة عن القيادة العلميَّة في العهد الأمويّ بعد سقوط الخلافة الراشدة وتسلم الأمويّين زمام الأمور.
أهل الرأي وأهل الحديث:
ولم يحافظ الخطاب الفقهيّ والكلاميّ على تلك البذور والجذور. بل انفك إلى ساحتين، ساحة عرفت بساحة أهل الرأي، وأخرى عرفت بأهل الحديث فكأنَّ الانقسامات لم تقتصر على التأثير السياسيّ والقضائيّ بل امتدت إلى البنية الثقافيَّة والفكريَّة. وإذا كانت أفكار أهل الرأي بدأت في بادئ الأمر بدايات بسيطة، فإنَّها قد انتهت إلى قيام طائفة كان لها تأثيرها في الجوانب الثقافيَّة والسياسيَّة والفقهيَّة والكلاميَّة ألا وهي طائفة “أهل العدل والتوحيد” كما كانت تسمي نفسها أو “المعتزلة” كما سماها خصومها يقابلهم “أهل الحديث أو أهل السنَّة والجماعة”. وهنا بدأ الخطاب يتلقى تأثيرات تجعله مُطَعّمًا بعقلانيَّة ذات حدود معيَّنة، يقابله “خطاب سلفيّ” يعمل على تكريس مرجعيَّة القرون الثلاثة الأولى. ومن الصعب وقد بلغت الانقسامات هذا المستوى أن نسميه خطابًا واحدًا أو نشرك بين أنواعه إلا إذا نظرنا إليه باعتباره خطابًا دائرًا في كيان اجتماعيّ ما يزال موحدًا في عناصره الأساسيَّة.
وهنا نجد في الحالة السياسيَّة خطابًا أخذ شكل الخطاب الأسريّ، فهو خطاب أسريّ يقدم علويّين على أمويّين أو عباسيّين على علويّين وأمويّين أو عكس ذلك، لكنَّه في سائر الأحوال لا يخرج عن الإطار العائليّ وما يتسم به أو قد يدل عليه من تشرذم وتضاؤل في مجال الانتماء إلى الأمَّة وملاحظة القيم بل على إعلاء لمجال القبيلة. ويمكن أن نعتبر تلك القبائل أو الأسر هي البديل القديم للأحزاب المعاصرة أو أنَّ الأحزاب المعاصرة مثلت أسريَّة أو قبائليَّة مبطنة بشكل من الأشكال.
حتى إذا بدأت الحروب الصليبيَّة، واستفحلت واحتل بيت المقدس أضيف للخطاب البعد الجهاديّ الذي لم يكن غائبًا لكنَّه كان موجودًا بسمات وخصائص أخرى أبرزها الجهاد من أجل تحرير الآخرين وحماية المستضعفين. حيث لم يكن هناك عدو خارجيّ نغزوه في دياره؛ لأنَّ العدو صار داخل دار الإسلام هو من يغزو وهو من يجوس خلال الديار، كما أنَّ الأمر دخلت فيه عمليَّات الإصلاح الداخليّ حيث ارتبط وقوع الكوارث ومنها انتصار غير المسلمين عليهم في العقل المسلم بانحرافات في التديُّن تجعل مما حدث وكأنَّه عقاب أو انتقام من الله –جل شأنه- تسببت فيه انحرافات الناس حيث قال –جل شأنه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الروم:41) وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(الأنفال:53) فكان هناك من يرى أنَّ الهزائم والمصائب إنَّما تحدث نتيجة الانحرافات الشخصيَّة أو الفرديَّة وأنَّها عقوبة إلهيَّة معجلة سابقة للعذاب الأكبر.
فبرز اتجاه إصلاحيّ داخليّ هو الذي نفسر به عمليَّة التحول التي قادها صلاح الدين في مصر لتغيير الاتجاه الفاطميّ الشيعيّ الذي كان مسيطرًا وسائدًا واستبدال ذلك بالمذهب الشافعيّ السنيّ. وكذلك فعل آل زنكي من قبل فصارت عمليَّة الإصلاح المذهبيّ والفكريّ والتحول من البدع إلى السنن بحسب الاجتهادات والمفاهيم جزءًا من الخطاب الداخليّ الإسلاميّ.
[1] تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير جعفر بن سليمان – وهو الضبعي – فمن رجال مسلم. وانظر (12234).