أ.د/ طه جابر العلواني
الإنسان هدف العمارة، وهو من يؤسس لها، ويرسي دعائمها، ويقود إليها ويقيمها إن اهتدى إلى الحق والخير، أو يأخذ بها إلى مهاوي الهلكة والتردي في الضلال.
إنَّ الكتاب الهادي في شؤون وشجون العمران والبناء الحضاريّ يعلّم الراغبين في العمران وبناء الحضارات وتجديدها أنَّ البداية السليمة إنَّما تكون من الإنسان به وبتصحيح مساره وبناء اليقين في قلبه، وتصحيح تصوراته، وإعادة بناء معتقداته، وترسيخ وبيان غاية وجوده، وتعريفه بما هو حق وما هو باطل، وبناء رؤيته الكليَّة للكون والإنسان والحياة، وبيان غاية وجوده، وتعريفه بما هو حق وما هو باطل، وما هو خير وما هو شر؛ ليستقيم على الطريقة، ويتحول إلى قائد لقافلة تسبيح ممتدة تجعل الكون كله منسجمًا مع الحق الذي خلق به، بعيدًا عن الباطل الذي حذر منه وأمر بالبعد عنه؛ ولذلك فإنَّنا لن نكون مبالغين ولا متعصبين حين نقول: إنَّ القرآن المجيد هو الكتاب الذي أنزله الله (جلَّ شأنه) ليكون دليلًا وهاديًا ومرشدًا لبناء العمران بدءًا من الإنسان.
القرآن دليل العمران والبناء الحضاريّ:
إنَّ الله (جل شأنه) قد أورد في ذلك الكتاب الكريم الصورة المثلى للإنسان القادر على أن يكون مستخلفًا ومؤتمنًا، وقادرًا على الوفاء بما عاهد الله عليه، وعلى القيام بمهام الاستخلاف التي رشحه الله (جل شأنه) لها، وكلفه بها، وقدمه على ملائكته الذين يسبحون بحمده ويقدسون له، وليس بعمران ولا حضارة ولا تمدن: ذلك الذي يهمل الإنسان ويتجاوزه إلى البنيان: ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(النحل:75-76) في هاتين الآيتين يرسم الله (جل شأنه) للناس صفة للإنسان الحر الذي يكون عبدًا لله يرزقه منه رزقًا حسنًا، ويعطيه مطلق الحريَّة في الإنفاق منه على نفسه وعلى غيره سرًا وجهرًا، أمَّا عُبَّاد العباد فإنَّهم إن كسبوا شيئًا فإنَّما يكسبونه لأسيادهم، وعبد الله إنسان حر، لا أحد يستطيع أن يصادر حريته في التعبير، فهو ليس بأبكم، وما هو بِكَلٍّ على مولاه، أينما يتجه في الحياة إنَّما يحمل الخير ويقدم الخير ويدافع عنه، ويأمر بالعدل والقسط وهو على صراط مستقيم، يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، يفي بعهد الله إذا عاهد ولا ينقض الأيمان بعد توكيدها، ولا يخرب ولا يهدم، ولا يقوم بما قامت به التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(النحل:92)، لا يتخذ أيمانه وعهوده ومواثيقه وسيلة لاصطياد الناس والاستيلاء على ما في أيديهم، ذلك الإنسان هو الذي تقوم على أكتافه الحضارات، ويتحقق بيديه وعليه العمران.
إنَّنا حين نقول بأنَّ حضارتنا هي حضارة إنسانيَّة لا نستهدف أن ننتقص من شؤون الحضارات الأخرى، بل نريد أن نبيِّن مزايا الحضارة والعمران القائم على دعائم القرآن. والحضارات الأخرى القائمة على الدعائم الأخرى سريعة الزوال لقيامها على الدعائم الأخرى الواهيَّة. إنَّ دليلنا العمرانيّ ومرشدنا الحضاريّ القرآن الكريم وجه للبشريَّة دعوة مشيَّدة على أساس راسخ ومتين، دعوة اعتبرت الإنسان بوصفه إنسانًا مجردًا عن كل وصف لاحق لإنسانيَّته جوهر العمران وغايته. إنَّنا لا ننتقص بهذا من الحضارات الأخرى، بل نبيِّن ما لهذه الحضارة الإسلاميَّة من خصائص، لقد بنيت على دعوة موجهة، وشيدت على أساس ثابت جعل الإنسان، مدعوًا لأن يشارك أبناء الأسرة البشريَّة في تأليف مجتمع تربط بين مكوناته كلها بعقد اجتماعيّ مفتوح، ونسق عمرانيّ لا ينغلق بوجه إنسان لا يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا، بل يريد الإصلاح ما استطاع ﴿.. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود:88)