أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئآت أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
أقرَّ الله (جل شأنه) في كتابه العزيز أنَّ نعمه لا تعد ولا تحصى قال (تعالى): ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:34)، فالآيات التي سبقت (الآية:34) من سورة إبراهيم بدءًا من الآية 32 فيها تذكير بما خلقه الله (تبارك وتعالى) في السموات والأرض، وأنَّه أنزل من السماء ماء أخرج به من الثمرات رزقًا للعباد، وسخَّر الفلك تجري في البحر بأمره وسخر الأنهار والشمس والقمر وجعل الليل والنهار، وآتى الإنسان ممّا سأله. وكذلك هُوَ مع الآية (28) من سورة النحل تدل الآيات التي سبقت هذه الآية؛ بل السورة على كثرة نعم الله وتعددها، فهِيَ تذكير بنعم الله (جل شأنه) فهو الَّذِي خلق الأنعام لنا فيها دفء ومنافع كثيرة، وأنبت من الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، وسخَّر مَا في البحر لنأكل منه لحمًا طريًّا…
كما أنَّ نعم الله (تبارك وتعالى) منها مَا هُوَ ظاهر وباطن؛ فالظاهر نراه ونحس به وندركه، أمَّا الباطن منها فحتى لو علمنا البعض منه فلا يعلم ماهيَّته إلا الله (تبارك وتعالى) قال (تعالى): ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ (لقمان:20).
إنَّ كل مَا خلقه الله (تبارك وتعالى) في هذا الكون هُوَ نعمة منه (جل شأنه) قال (تعالى):﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ (فاطر:3)، فبمقتضى الخلق تتعدد النعم وتتكاثر فضلًا من الله (تعالى).
من هذه الآيات السالفة الذكر، وكذلك السياقات التي وردت من خلالها يتضح أنَّ كل مَا خلقه الله (تعالى) هُوَ نعمة منه على الإنسان الَّذِي سخَّر له كل مَا خلق، فالله (جل شأنه) لم يسوّ بين مخلوقاته والإنسان الَّذِي أكرمه بمهمة الخلافة في الأرض.
إلّا أنَّ الكثير من الناس يكفرون بهذه النعم وينسون فضل الله (تبارك وتعالى) عليهم، ولهذا نجد الله (جل شأنه) ينكر على بني إسرائيل في سورة البقرة وغيرها أنَّهم نسوا مَا أنعم الله (تبارك وتعالى) به عليهم، وأنَّه (عز وجل) فضَّلهم على العالمين، أعطاهم من النعم مَا لم يؤت أحدًا من العالمين، قال (تعالى): ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (البقرة:40).
قال (تعالى): ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:122)، كما أنَّ المشركين كافرون بنعم الله (تبارك وتعالى) في خلقه، جاحدون بوحدانيَّته، ونتيجة كفر الكافرين هذا بالنعم يذيقهم الله (تبارك وتعالى) أحيانًا وبال فقدان نعمه، لعلّهم يخرجون من جحودهم وعنتهم، قال (تعالى): ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ (النحل:112).
وكذلك في سورة الكهف قصَّ الله (تبارك وتعالى) علينا حوار الرجلين الَّذين آتي أحدهما جنَّة من الأعناب والنخيل… وهو كافر بما أنعم الله (تبارك وتعالى) عليه، والرجل الآخر المؤمن بالمنعم هُوَ الله (تبارك وتعالى) الناصح للكافر والمحذر له من غضب الله (تبارك وتعالى) عليه، لكنه لم يتعظ وأذاقه الله (تبارك وتعالى) وبال أمره وفقد جنته، إذ أصبحت خاوية على عروشها وكان قوله حسرة منه على مَا فات، ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (الكهف:32-46) «يا ليتني لم أشرك برب أحدًا».
إنَّ الكافرين بنعم الله (تبارك وتعالى) في الدنيا لا نعم لهم عند الله (تبارك وتعالى) في الآخرة، أمَّا الشاكرين له على نعمه، الحامدين له على مَا أعطى وأنعم فهم الفائزون في الدنيا والآخرة، ولا شك أنَّ هؤلاء على صراطه المستقيم، الَّذِي يقتضي الإيمان بالنعم، ومنها نعمة الإيمان بالله الواحد الخالق لكل شيء. وجاء الطلب والدعاء بهذا الأمر، قال (تعالى): ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ (الفاتحة:6). وهو صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهداية إلى الإيمان به وبنعمه التي أنعم على خلقه. وفي القرآن الكريم الكثير من النماذج من هؤلاء الذين أنعم الله (تبارك وتعالى) عليهم لعلّنا نقتدي بهم.
فمثلًا نبي الله سليمان (عليه السلام) لم يأخذه الغرور بما أنعم الله (تبارك وتعالى) عليه مما أتاه من الملك والحكمة والعلم؛ بل دفعه ذلك إلى الشكر لله (تبارك وتعالى) على مَا أعطاه، قال (تعالى): ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل:19)، وغيره من الأنبياء والرسل الحامدين الشاكرين لنعم الله (تبارك وتعالى).
إنَّ لفظ النعمة وما يرتبط به من ألفاظ، يدور في إطار التذكير بأنَّ كل مَا خلقه الله (تبارك وتعالى) وسخَّره للإنسان هُوَ نعمة من عنده، فنعمه لا تعد ولا تُحصى ولا يعلم الكثير منها إلّا هُوَ ولا خالق ولا منعم غيره، فالكافـرون بهذه النعم هم الجاحدون لوحدانيَّة الواحد والمشركون به.
أمَّا المؤمنون به ربًا وإلهًا واحدًا، فهم المقدّرون للنعم وللمنعم حق قدره. فبإيمانهم بنعمة الله (تبارك وتعالى) في الدنيا ينعم عليهم (جل شأنه) بنعمته في الآخرة، فأولئك على صراط الذين أنعم الله عليها في الدنيا والآخرة بإيمانهم.