أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئآت أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
ثم أمَّا بعد:
تفسير بعض نجوم سورة الفاتحة من خلال مدخل “الجمع بين القراءتين”
في تهيئة العقل لفهم سنن الكون لتحقيق مقصد العمران
لأنَّ الفاتحة هي مقدمة هذا الكتاب الخاتم المهيمن على ما سبقه، ولأنَّ الله شرع أن يرددها المسلم في كل صلاة، فهي ملازمة له، فإنَّ الله أجمل فيها الغايات والمقاصد العليا التي بثها في كتابه المجيد، وهي: (التوحيد والتزكية والعمران)، ليس فقط أجملها فيها بل إنَّه جعلها عمود هذه السورة.
وحين نتأمل هذه الآية: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة:2)، فإنَّنا نجد فيها من الإشارات ما يمثل شرط تحقيق العمران، وما يمثل أيضًا طريق تحقيق التزكية والتوحيد، ولكي ندرك هذا علينا أن نسأل: ترى ما هي هذه الشروط التي يجب توافرها من أجل تحقيق العمران؟
من أهم هذه الشروط والتي تسبق الدعوة القرآنيَّة الدائمة على قراءة الكون والتأمل فيه، داعيًا العقل الجمع بين القراءتين لتحقيق توحيد لله، هو تذليل العقبات الفكريَّة أمام ارتياد العالم والانطلاق خلاله والشغف بفهمه، هذا شرط طبيعي يسبق محاولة تعمير العالم، تحقيقًا للاستخلاف، فلا عمران دون فهم للعالم، وتأمل لسننه في البدء، ولا فهم ولا تأمل دون تذليل العقبات التي من شأنها أن تعوق ذلك، ولو فكرنا نظريًا، أو حتى تأملنا التاريخ سنجد هناك كثير جدًا من الأمور تقف كعائق فكري أمام محاولة فهم العالم.
من هذه الأمور التي تعوق الانطلاق لفهم العالم:
(1) تقسيم العالم، بحيث يتم تنحية بعض المناطق تعسفًا عن محاولة البحث فيها وفهمها، ولعل أكبر مثال على هذا هو الفكر الأرسطوطاليسي التأملي الذي كان ينظر للعالم من منظور أفكار تأمليَّة مسبقة، قضت بتقسيم العالم لما فوق فلك القمر وما تحت فلك القمر، ثم بتنحية فلك ما فوق القمر عن الدراسة باعتباره مقدسًا، وهذا كان عائق كبير للدراسة، بل إنَّ بعض الباحثين مثل سالم يفوت في كتابه “ابستمولوجي العلم الحديث” يرجع تعثر علم الفيزياء إلى هذه التحكمات الأرسطيَّة التي تقدست بتبني الكنيسة لها بعد ذلك، فلم يكن للفيزياء خصوصًا فيزياء الحركة أن تتقدم إلا بعد التخلص من فلك أرسطو هذا، أيضًا فإنَّ هذا الفكر أعاق كثيرًا حركة العلم بعدم اهتمامه بدراسة الوقائع وخضوعه للاستنباط وحده غالبًا، وابتعاده عن الاقتراب من العالم، ويُلاحَظ بنباهة محمد إقبال في كتابه “تجديد الفكر الديني” أنَّ الإسلام عن طريق تحريره الطبيعة من كل هذه التحكمات، وأنَّه كتاب احتفى بالطبيعة ولم يزدريها أو يستبعدها فإنَّه فتح أفق لدراسة العالم وفهمه كما تجلى في نشأة التجريبيَّة في العالم الإسلامي.
(2) أيضًا من تلك الأفكار التي تقف عائقًا أمام العقل في دراسته للعالم تمهيدًا لعمرانه، النظر للظواهر الطبيعيَّة نظرة فيها خوف وتقديس، فهذه النظرة تحول دون محاولة فهم العالم وعمرانه، لعل هذه النظرة واضحة في قصة ترديد الناس يوم موت إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي تزامن مع كسوف الشمس، بأنَّها كسفت لموته، وجاء الخبر من الصادق الأمين بأنَّ الشمس والقمر آيتين لله، يخوف بهما من يشاء من عباده، لا يخسفان ولا يكسفان لموت أحد أو لحياته، مصدقًا لقول الحق في سورة الرعد: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ (الرعد:13). فما قام به القرآن هنا هو رد كل هذه الظواهر من هذا التشرذم الذي يضفي عليها نظرة ذاتيَّة، إلي إرادة الإله الواحد، فهي سننه التي خلقها وله وحده التحكم فيها برحمته وعدله وقدرته، وفي هذا تحرير للعقل والشعور في مواجهة الظواهر التي حوله، حتى يستطيع فهمها وقراءتها ليستطيع تحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض وعمرانها.
(3) من أهم تلك الأفكار والتصورات التي تقف حائلًا أمام محاولة فهم العالم، النظر للعالم باعتباره خاضع لتصرف قوى أخرى غير الله، كتصور أنَّ الجن قادرين على قلب نظام الكون، وأنَّ السحرة الذين يستعينون بالشياطين يستطيعون خرق قوانين الله وسننه في الأرض، لا شك هذه عقائد كانت سائدة بكثرة في الجاهليَّة مع شيوع العرافة والكهانة والسحر، وهذه تصورات تشل العقل عن قراءة الكون، وتودي تمامًا بالثقة في غائيَّته وخيريَّته حين تخضعه لإرادات قوى شريرة، أو حتى تسمح بكون هذه الإرادات تعارض وتخرق إرادة الحق، لذا فإنَّ الإسلام حين أبطل كل هذه القوى، وأعلن أنَّه لا شيء يتم إلا بإرادة الله وحده، وأنَّ كل هذه القوى خاضعة له، فإنَّه بهذا قد ذلل عقبة أخرى أمام العقل حتى يستطيع قراءة العالم وفهم سننه.
إذا كانت هذه الأفكار تقف أمام العقل وتمنعه تحقيق مقصد العمران، وإذا القرآن الكريم قام بتذليل هذه العقبات، فطبيعي أن نجد هذا التذليل موجود في سورة الفاتحة، لما قلناه عن أهميَّتها كمقدمة للكتاب وملازمة للمسلم دومًا في صلاته، ومجمله لما فصله الله في كتابه من مقاصد عليا وغايات، ونحن بالفعل نجد هذا التذليل بوضوح جدًا في سورة الفاتحة، ففي قوله (جل وعلا): ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة:2) نجد إعلان واضح عن مربوبيَّة كل شيء لله.
العالمين وهي: جمع عالم، فعالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الجن، وعالم الجمادات، وكل الظواهر الطبيعة هي مربوبة لله وحده، خاضعة لإرادته، فالمسلم حين يقرأ هذه الآية بتدبر في صلاته، فإنَّه يذكر مربوبيَّة كل ما حوله لله، فهو خالقهم من عدم وواجدهم وممدهم وخالق سننهم وحافظها، ﴿.. وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحج:65).
﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة:3) فهو رحيم بنا وبعقولنا وفهمنا؛ لذا فهو الحافظ لسننه من الجن والشياطين والسحرة الذي يرومون قلبها وأنَّى لهم، ولعل في هذا مناسبة بين سورة الفاتحة والبقرة، فأتى في البقرة الحديث عن السحر وعن محاولته قلب سنن الله ﴿.. يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ..﴾ (البقرة:102) ليقول لنا: ﴿.. وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ..﴾ (البقرة:102). وأيضًا في البقرة تفصيل لخضوع كل الظواهر لله، في ذكره نعمه وأفضاله على بني إسرائيل ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة:57)، فمربوبيَّة كل هذه الظواهر لله الرحمن الرحيم، يطمئن العقل والشعور للانطلاق في العالم لتعميرها، وتحقيق الاستخلاف.
وهذا يعني أنَّ قراءة الكون، وهي القراءة الثانية مع قراءة القرآن، غير ممكنة إلا بعد هذه القراءة الأولى، فهذه القراءة الأولى هي التي تحرر العقل من كل أوهامه وتصوراته التي تعيقه عن فهم الكون حوله، ولهذا فهي قراءة مرتبطة ب ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة:7)، فالمنعم عليهم والذين يسيرون على الصراط المستقيم الذي يستقونه من هذا الكتاب المجيد، هم وحدهم قادرون على قراءة الكون، وليس من ضلوا فاستحقوا غضب الله، المبعدين عن توحيده وعمران كونه، والعكس أيضًا صحيح، فقراءة الكون تفضي إلي وحدة خالقه وموجده وحكمته ورحمته، فهي طريق للهداية نعمة الله، لذا فحقًا ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة:2)، الحمد له الذي بمربوبيَّته للعالمين حرر عقولنا وشعورنا وهيئنا للانطلاق لفهم العالم وعمرانه، والحمد لله بما أنعم علينا من قراءة كتابه التي هيئتنا للقراءة الثانية قراءة كونه، والحمد لله أن هيأ لنا القراءة الثانية لتزيدنا إيمانًا بوحدانيَّته.
وهذا الحمد الذي هو ثناء على الله، واعتراف بنعمته علينا، فهو الذي يهدينا الصراط المستقيم، ويحفظ عمران العالم من التدمير، فالإنسان بعد عقله وفهمه للعالم قد يتيه غرورًا، ويشتط فيعيث فسادًا، ويأتي على الأخضر واليابس، لكن القرآن وهنا في الفاتحة، حين يذكِّر الإنسان بأنَّ فهمه للعالم ليس سوى نتيجة لكونه مربوب لله وحده، وأنَّ هذه المربوبيَّة هي في معتقد من أنعم الله عليهم بقراءة القرآن وتدبره، فإنَّه يخضع لا محالة نتاج علمه وصنعه وعمرانه ليكون طريقًا للهداية ولتحقيق مقاصد رب القرآن العليا، وليس للتدمير كما هو الحال في العالم الغربي الذي انبتت صلته بالغايات جميعها فضل الطريق.