أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئآت أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
ثم أمَّا بعد:
القرآن المجيد والتفسير
منذ القدم والناس مختلفون هل يحتاج القرآن المجيد الذي وصفه الله (تعالى) وهو منزله بأنَّه مبين وأنَّ آياته جميعًا بينات ومبينات، هل يحتاج خطاب مثل هذا إلى تفسير وشرح وبيان، بعد أن وصف بذلك كله من الله (جل شأنه)؟
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنَّ القرآن لا يحتاج إلى تفسير، وأنَّ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلقه وسائر تصرفاته هي تفسير عملي له، فهو (صلوات الله وسلامه عليه) حين تلى القرآن على الناس وعلمهم إياه كان يعلمهم القرآن كما نزل، ويعلمهم طرائق العمل به، وكيف يجعلون من آياته حياة يحيونها، وعملًا يمارسونه، فكان لا يعلمهم عشر آيات إلا ويعلمهم كيف يعملون بها، ويعمل بها أمامهم، ويأمرهم أن يتبعوه ويتأسوا به وهو يعيش القرآن ويحياه.
وقال فريق: إنَّ القرآن جاء بلغة متحدية للخلق كافة، فهي لغة متعالية، لا يسهل على كثير من البشر فهمها ومعرفتها إذا لم تفسر لهم وتشرح، وأنَّ الشرح والتفسير لا ينافي كونه مبينًا وبينًا، وكون آياته بينات ومبينات.
ولكن سلوك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم قيامه بوضع تفسير للقرآن خارج عن عمله به يؤيد ما ذهب إليه الأولون، وإذا ذهبنا إلى كتاب التفسير لدى البخاري لا نجد فيه أحاديث مرفوعة في التفسير إلا حوالي ثمانية وثمانين حديثًا، ولا شك أنَّه لو فسر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن تفسيرًا بالمعنى الاصطلاحي لاحتجنا إلى أن نرى ما لا يقل عن ستة آلاف ومائتين وثمانية وثلاثين حديثًا في التفسير، إذا فسر كل آية بما يماثلها في عدد الكلمات والألفاظ، وإذ لم نجد شيئًا كهذا فذلك يدل على أنَّ عمله بالقرآن ومنهجه (صلى الله عليه وآله وسلم) في تعليم الناس القرآن والعمل به معًا أغناهم عن التفسير والمفسرين.
وإذا كان المتأخرون قد أقبلوا على ممارسة التفسير وتفننوا في أنواعه ففسروا بالمأثور والمعقول واللغات، وبرزت أنواع من تفاسير الفرق والمذاهب والتفاسير الباطنية وما إليها، فذلك عمل الخلف لا يحتج به فيقوم دليلًا على ضرورة التفسير أو حاجة القرآن إليه، فالقرآن لا يحتاج إلى التفسير بالمعنى الاصطلاحي، ويكفي للأجيال التي جاءت بعد جيل التلقي تفسير القرآن بالقرآن، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، والذين تابعوا منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجدوه دائمًا يفسر القرآن بالقرآن، ويعين الناس على فهمه أدق فهم وأحسنه وأصلحه بهاتين الوسيلتين، تعليمهم العمل به، ولفت أنظارهم إلى أنَّ بعضه يبين بعضه، وآياته يفسر كل منها الآخر.
وحين اضطربت السبل في زماننا هذا، وتشتت الأمَّة، وفرق الناس دينهم وصاروا شيعًا، ويئس كثيرون من إمكان إعادة بناء هذه الأمَّة ولم شملها والقضاء على فرقتها صار لابد من حسم هذا الأمر، وتقديم بيان شاف للناس حوله، فاخترنا منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا وهو تفسير القرآن بالقرآن، وربط سلوك وعمل سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن المجيد؛ ليعلم الناس أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلو على الناس الكتاب ويعلمهم العمل بآياته، وتطبيق ما جاء به، وتحويله إلى ممارسة حياتيَّة؛ ولذلك عدنا إلى إحياء ذلك المنهج النبوي، وبذل كل الجهد والطاقة لبيان القرآن بالقرآن؛ لنحيي منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنعلم الناس الكتاب بعد أن نتلوه عليهم حق التلاوة، ونزكيهم به، فذلك المنهج هو المنهج الذي بنيت هذه الأمَّة به، وعلى دعائمه قام عمرانها.
سائلين العلي القدير التوفيق في هذه المهمة الشاقة والسداد، راجين أن تتضافر جهود أهل العلم والمخلصين من أبناء هذه الأمَّة على إحياء هذا المنهج، ورد المسلمين إليه ردًا جميلًا، فهو وحده المنهج الكفيل بحماية المقاصد، وتحقيق الأهداف، وتمكين خلف هذه الأمَّة من سلوك ما كان عليه سلفها وجيل التلقي الخير من أبنائها، والله ولي التوفيق.