أ.د/ طه جابر العلواني
إنَّ تفسير القرآن بالقرآن هو ما سنه لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من نزل القرآن المجيد على قلبه، ويعلم أكثر من أي مخلوق آخر ومن أي بشر أنَّ القرآن مبين وبيان، وأنَّ آياته بيِّنات مبيِّنات، وأنَّه تبيان لكل شيء، وأنَّه كاف للبشريَّة لو أرادت الاكتفاء به يكفيهم بآياته الكريمة في سائر مجالات الهداية والبحث عن الرشد، والموعظة الحسنة والنور المبين؛ ولذلك كان (صلوات الله وسلامه عليه) يعلِّم الناس هذا القرآن نجومًا، كلما نزلت مجموعة من الآيات يعلمهم إياها بعد تلاوتها عليهم بشكل عملي تطبيقي، فكانوا متميزين بأن تعلموا العلم والعمل معًا في وقت واحد، علم القرآن والعمل به، والعمل بالقرآن الكريم الذي قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر سنوات رسالته، ونزول القرآن على قلبه، الذي استمر اثنين وعشرين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا، عبر هذه المسافة ورسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) يفسر القرآن تفسيرًا عمليًّا تطبيقيًّا؛ ليجعل من سنته ومن التأسي به أهم وسيلة من وسائل فهم القرآن الكريم، وتطبيقه، والعمل به، والاهتداء بأنواره، واتخاذه ذكرًا وموعظة وهدى ورحمة دائمة مستمرة.
وحينما حضرته الوفاة (صلوات الله وسلامه عليه) وأذن الله بأن يسترد أمانته، ويلحقه بالرفيق الأعلى بعد أن قام بأداء الأمانة، وتبليغ الرسالة، وتطبيق القرآن الكريم، الذي صار تطبيقه هو سنته (عليه الصلاة والسلام) التحق بالرفيق الأعلى وهو يوصي من يأتي بعده بالتشبث بهذا الكتاب، والالتزام به، وعدم الخروج عنه، فكانت النتيجة أن تركنا على المحجة البيضاء، فلما سألوه أن يكتب لهم كتابًا قال: “لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لا تضلوا بعدي أبدا كتاب الله”، فكتاب الله هو المخرج من الفتن، والمنقذ من الضلال، والهادي إلى سواء السبيل، الهادي دائمًا للتي هي أقوم، الذي لا يأتي الناس بمثل أو تفسير أو بيان لشيء إلا جاءهم هذا القرآن بالحق وأحسن تفسيرًا، فلا يحتاجون شيئًا سواه؛ ولذلك قال (جل شأنه): ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت:51)، فالكتاب يتلى، والرسول ينفذ ويبلغ ويتلو ويعلم ويزكي بالكتاب، ويطبِّق، ويفعِّل آياته في واقعهم، حتى حوَّل ذلك الواقع كله إلى واقع قرآني، واقع يعيش القرآن.
والله (تبارك وتعالى) أراد أن يجعل من ذلك الجيل نموذجًا ومثالًا، نموذجًا لما يمكن للقرآن أن يبنيه من مجتمعات وأمم، ومثالًا للبشريَّة كافَّة في كيفيَّة التعامل مع آيات الله، وما ينزله الله (سبحانه وتعالى) من كتب وصحف، كأنَّه يحذر بذلك مما فعله من سبقنا حين حمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ولم يفهموها إلا بطريقتهم التي أحب أن أسميها الفهم البقري، أو الفقه البقري، أي القائم على السؤال وتوليد سؤال من السؤال وهكذا تستمر الأسئلة ولا ينتفع الإنسان بالأجوبة، فلو انتفع بالجواب لما احتاج إلا إلى جواب واحد، ولكن فهم أولئك كان فهمًا ضعيفًا سقيمًا، فواصلوا الأسئلة ولم ينتفعوا بالجواب حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون.
سنبدأ برنامجنا هذا (تفسير القرآن بالقرآن) بسورة الفاتحة، فسورة الفاتحة هي مقدمة هذا الكتاب الكريم وفاتحته، والمنبهة إلى مقاصده العليا، وأهدافه الكبرى؛ ولذلك فإنَّها بجملتها قد وضعت مداخل لتصور مبدئي وعام للكتاب كله؛ ولذلك جعلت آية الصلاة.
فكأنَّها المقصوده بقوله (تعالى): ﴿.. فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ..﴾ (المزمل:20)، فهي بالإضافة إلى سائر ما ورد من أسماء لها مأثورة هي المفتاح الذي يحمل المداخل الأساسيَّة للقرآن الكريم، وينبه إلى ما سيجده القارئ في بقيَّة السور، ابتداءً منها وانتهاءً بسورة الناس، وقد أخذت هذا الموقع، موقع المقدمة بعد أن أذن الله (سبحانه وتعالى) بأن يقرأ جبريل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن مرتين، ويضعان كل شيء في موضعه بأمر الله وتوجيهه، وبذلك تنقطع الصلة بين مناسبات النزول، وما سماه بعض أهل التفسير بأسباب النزول، وبين آيات الكتاب الكريم، فينقطع الطريق على أولئك الذين يريدون أن يقولوا: بأنَّ هذا الخطاب خطاب خاص بجيل التلقي، وأنَّه لا يمتد في الزمان والمكان، بل هو خطاب لذلك الجيل يقف عنده ولا يتجاوزه. وهذا ما يطلق عليه بعض من عميت قلوبهم عن حقيقة القرآن فيطلقون ذلك القول المستهجن بوصف القرآن بالتاريخانيَّة، أي الارتباط بفترة محددة من الزمن أو من التاريخ، فسورة الفاتحة صارت مقدمة، وجاءت السور بعد ذلك متتالية؛ ليبقى هذا الكتاب الخالد كتابًا مطلقًا، وخطابًا موجهًا للبشريَّة كافَّة في كل أزمانها وأماكنها.
وسنوالي تأملاتنا في هذا القرآن المجيد ابتداءً من هذه السورة إلى أن نبلغ سورة الناس، إن نسأ الله في الأجل، وأمد في العمر، ومكن من العمل، وهيأ الوسائل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل القرآن نورًا لأبصارنا وبصائرنا، وشفاء لصدورنا، وطمأنينة لقلوبنا، ويعلمنا منه ما جهلنا، ويذكرنا منه ما نسينا، ويرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وبالشكل الذي يرضيه عنا، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.