أ.د: طه جابر العلواني
اختلف الناس قديمًا وما يزالون مختلفين في بيان المراد بعلوم القرآن أهي العلوم التي يمكن أن تُستقى من الكتاب الكريم، أو هي العلوم التي تساعد على فهم الكتاب، أو هي سائر العلوم التي وصلت البشريَّة إليها ويمكن للمفسرين أن يستعينوا بها، فتوصَّل أولئك العلماء إلى إجابات مختلفة عن تلك التساؤلات يمكن تلخيصها بأنَّ غالبيَّة المتقدمين منهم ذهب إلى أنَّ المراد بعلوم القرآن مجموعة المعارف التي يحتاجها المفسر ليقوم بتفسير القرآن أو تأويله باعتبار أنَّ التفسير هو الجامع في نظر أولئك المتقدمين لما يحتاجه المسلم من القرآن، ومع ذلك فلم يتفق هؤلاء على مفهوم محدد للتفسير يضم أشتاته فبرز ما عرف بالتفسير الأثاري والتفسير العقلي والتفسير البياني أو البلاغي والإشاري وزاد على ذلك المتأخرون ما عُرف بالتفسير العلمي والموضوعي والفلسفي واللغوي إلخ، واعتبروا كل ما يخدم أي نوع من أنواع هذه التفاسير جزءا من علوم القرآن؛ فلذلك رأينا المتقدمين يتكلمون في علوم القرآن عن تاريخ النزول وعن فضائل القرآن وعن التسوير والتحزيب وفواصل الآيات والسجدات والسكتات والوقوف والتجويد بصفة عامَّة، كما يتحدثون عن أسباب النزول والقصص القرآني وأمثال القرآن وأحكام القرآن وما إلى ذلك. وما خلى عصر من العصور بعد عصر التدوين من مناقشات في هذا المجال وأخذ ورد فيه، وطرح تساؤل عما إذا كان المراد العلوم الخادمة للقرآن كالتي ذكرنا أو العلوم المستقاة من القرآن الكريم مثل الفقه والأصول والكلام وما إلى ذلك.
والناظر في مقدمات وفهارس الكتب التي كتبها المتقدمون وما كتب على طريقتهم يجد فيها كثيرًا من العناوين التي ضمت مباحث هامَّة وعناوين أخرى إلى جانبها لا ترقى إلى أن تسمى علومًا أو فنونًا مستقلة بل هي مباحث في مسائل جزئيَّة قليلة الأثر في كثير من الأحيان([1]) .
وقد نقل الزركشي عن الحسن البصري كلامًا طويلًا جاء فيه: “وكل علم من العلوم منتزع من القرآن وإلا فليس له برهان”. وقال ابن مسعود: “من أراد العلم فليثور القرآن فإنَّ فيه علم الأولين والآخرين” رواه البيهقي في المدخل وقال: أراد به أصول العلم. ويقول سهل بن عبد الله: لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه لأنَّه كلام الله وكلامه صفته وكما أنَّه ليس لله نهاية فكذلك لا نهاية لفهم كلامه وإنَّما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله عليه وكلام الله غير مخلوق ولا تبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة([2]).
ويذكر ابن عاشور نقلًا عن ابن العربي في العواصم أنَّه ذهب إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفيَّة والمعاني القرآنيَّة ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقاديَّة وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.
وأنا أقول: إنَّ علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب: الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيأة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا ، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي([3]).
قلت وهذا الجدل لا يخدم ما نحن فيه في كثير ولا قليل فالذي تشتد حاجتنا إليه اليوم هو كيفية تحقيق الاتصال بين القرآن وأمَّة القرآن من جديد، وإنهاء حالة الهجر التي سقط المسلمون فيها حين هجروا القرآن المجيد وتخلوا عنه وذلك يمكن أن يتم بما يلي:
الأمر الأول: إعادة الوعي بالقرآن المجيد لأبناء الأمة وتعريفهم به وذلك بفهم صفاته التي وصفه الله بها. وأسمائه التي أطلقها الله عليه، ومعرفة ما اشتمل عليه من وسائل الهداية ومناهجها والحكمة وما يؤدي إليها وقدرته الفائقة على بناء الأمم والشعوب وإصلاحها وما أودعه الله فيه من وسائل الحياة للنفس البشريَّة ومعرفة أهم مقاصده وغاياته وكيفيَّات إصلاحه للحياة الإنسانيَّة وجعلها حياة طيبة، فهو كتاب أنزله الله لصلاح أمر الناس كافَّة وأنزله تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فهو يحقق الصلاح الفرديّ بالإيمان بالله وتوحيده وتهذيب النفس الإنسانيَّة وتزكيتها وإصلاح السريرة البشريَّة وتطهيرها وإصلاح العقل الإنسانيّ بملكات التفكير البرهانيّ والإبداعيّ وصلاح السرائر بالعبادات الظاهرة والباطنة وتحقيق الصلاح الجماعيّ والأمميّ وتقديم الضوابط التي تحقق الحياة الطيبة، وتوجد أفضل الروابط بين عناصر المجتمعات الإنسانيَّة وضبط سائر أنواع السلوك والتصرف الإنسانيّ والحكم عليها بمقاييس الحكمة والانضباط وعدم الخضوع لدوافع الانحراف وشهوات الاستعلاء والاستبداد، وضبط تصرف الشعوب والجماعات لتستقيم الحياة البشريَّة كلّها وتتحقق غاية الحق من الخلق، وتمكين الإنسان من تحقيق الصلاح والعمران والابتعاد عن أن يفسد في الأرض أو يهلك الحرث والنسل وحماية عقول البشر وقلوبهم وأعراضهم وأموالهم وأديانهم ووضع القواعد الكفيلة بذلك إذا التزم الناس بها، وإذا نزل القرآن بلغة قوم أو وافق لسانه لسانهم بعد استيعابه وتجاوزه فإنَّ ذلك لا يعني أنَّهم وحدهم المخاطبون به، أو أنَّ شريعته قاصرة عليهم، مراعية لأحوالهم فقط، بل هم المخاطبون بذلك ليكون النواة الأولى لأمَّة الإجابة الحاملة للدعوة إلى أمَّة الدعوة حتى يغمر الهدى والحق الأرض كلها ويظهر دينه على الدين كله، ولذلك فإنَّ الوعي بالقرآن المجيد من خلال صفاته وأسمائه وآثاره ونظمه وأسليبه ومقاصده هي التي ستجعل الرابطة وثيقة جدًا بين القرآن والإنسان بحيث تصبح رابطة لا تنفصم.
والأمر الثاني: الوعي بمقاصد القرآن المجيد وهي مقاصد واسعة شاملة تجمعها قواعد ثلاثة: “التوحيد، والتزكية، والعمران” فالتوحيد حق الله على العباد، والتزكية هي التي تؤهل الإنسان الموحد للقيام بمتطلبات الوفاء بالعهد الإلهي والقيام بحق الاستخلاف وأداء الأمانة والقدرة على النجاح في امتحان الابتلاء والعودة إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبوينا منها.
وهنا لابد لمساعد الأستاذ الذي يتابع مع الطلاب أن يتأكد من قراءتهم لخطاب القرآن العالمي وما شرحنا فيه من أسماء الله تعالى وصفاته وما بيناها من مقاصده فذلك هو الذي سيحقق أهداف هذه المحاضرة وتوصيل مضمونها الأساس إلى عقول الطلبة وقلوبهم.
كما أنَّنا سنسلك في تقديم محاضراتنا التالية سبيلًا آخر غير الذي درج عليه المدرسون لعلوم القرآن والكاتبون فيها لأنَّنا سوف نركز على مجموعة من الموضوعات الأساسيَّة التي تزيد في وعينا بالقرآن وعليه وتعين على حسن الفهم فيه والفقه في رسالته وأهدافه ولذلك فإنَّنا سنتناول الموضوعات التالية:
- لسان القرآن.
- الوحدة البنائيَّة.
- ما ادعي من وجود متشابه في القرآن.
- ما ادعي من وجود نسخ في القرآن.
والقسم الثاني سنتاول فيه:
- الجمع بين القراءتين.
- التدبر وتطبيقاته.
- تفسير القرآن بالقرآن.
[1] انظر في مقدمة كتاب البرهان للزركشي وفهارسه، وانظر في مقدمة الاتقان للسيوطي وفهارسه، وكذلك مناهل العرفان للزرقاني مقدمته وفهارسه سوف تجد مصداق ما ذكرنا وأنت تستعرض موضوعات تلك التي أطلقوا عليه مجتمعة (علوم القرآن).
[2] نقل هذا الزركشي في كتابه البرهان، في المقدمة.
[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور (الدار التونسية للنشر 1984م) ج1، ص45.