أ.د/ طه جابر العلواني
- إن القرآن المجيد ذو «وحدة بنائيَّة» جعلته عندما تستحضر عيوب «الخطاب» أيّ خطاب يبدو كأنّه جملة واحدة ينغلق عن أيّ عيب من عيوب الخطاب أيًّا كانت: فلا تختلف ولا يتناقض ولا يضطرب ولا يغمض، ولا يوجز حتى يُخل، ولا يُطنب حتى يملّ، ولا يَضِنُّ بمعانيه ولا يتجاوز أفهام مخاطبيه على كثافة أنواره وطاقات هدايته ونصاعة الحق الَّذِي كونته ويتسامى على سائر عمليّات الاختزال والتحجيم التي أجريت عليه، وشاركت فيها الأديان المحرّفة، والنظريات العلميَّة الضالَّة والمنحرفة. ويخرجه من أتون الصراع مع الطبيعة الَّذِي أدى إلى مشاكل البيئة ومصائب التدمير وأزمات التلوث إلى دائرة الجدل الودي معها، والإحساس بأمومتها، إذ بغير هذا لا تقوم حضارة حقيقية ولا ينشأ عمران، بهدايته ويشملها بأنواره ويهيمن على أزماتها بمنهجيَّته.
- فإذا استجاب الإنسان لهذا القرآن الكريم قاده لما يحييه، بل نقله إلى الحياة وأثنى عطفه إلى أرحامه، ودفعه إلى أبويه: آدم وحواء ليمسحا عنه دموعه وآلامه، وأسكنه الأرض بيتًا متسعًا لكل شعوبه وأقوامه، مهما اختلفت ألوانهم، وتعددت ألسنتهم وتنوعت شعوبهم وقبائلهم، فالقرآن الكريم ولا شيء غيره سوف يدخلهم في السِّلم كافّة. ويظلّهم بالأمن قاطبة بما أودع الله (تعالى) فيه من بصائر، وحمّل مكنونه من نذارات وبصائر. ثم أنساقه وثقافاته، وتناقضت واصطرعت حضاراته وتعالت وتجبّرت طواغيته، واحتربت واصطرعت دويلاته؛ فالقرآن المجيد ولا شيء غيره قادر على أن يذكِّر هذا الإنسان مَا نسي، ويجدّد له ما رث وبلى، ويجمع منه مَا تفرّق، ويعيد إلى الصدق مَا تحرّف وينهض مَا انتكس، ويقوَّم مَا أعوج، فيدرك القوم أنّ هذا الخطاب كان واستمر وبقى خالدًا باعتباره أجل نعم الله (تعالى) على عباد الله لا تساويه نعمة ولا ترقى إلى سماء عليائه فضيلة.
فهل يمكن بعد هذا -كله- أن يقال: «إنّ هذا القرآن حمّال أوجه فدعوه» أو «أنّه قابل للنسخ والتناسخ فاحذروه» أو «أنّ غيره يقضي عليه فتأوّلوه»، حتى الجنة إذا فتحت له أبوابها، وقال لهم خزنتها: ﴿ ..سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ (الزمر:73).
يبدأ ذلك الكتاب بهذا الإنسان به مرحلة أخرى فيظل يرقى به وترقى حتى يجلسه مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين؛ فإذا تجلى منزِّله (تبارك وتعالى) لهذه الصفوة وأخرج وجهه الكريم لتلك النخبة، وبدل النبيّون والصديقون والشهداء وأهل القرآن أبصارًا غير أبصارهم، وبصائر قادرة على استقبال تلك التجليّات بإذن ربهم صار خطاب الله (تعالى) بهذا القرآن المجيد يأخذ بيديه إلى حيث المستقبل الفسيح: فيمنحه انطلاقًا من إطلاقه و قبسات من أنواره، وشفاءً لما في صدره ليصعَّد في آفاق المستقبل قريبة وبعيدة، مغالبًا ظلماته، مقتحمًا عقباته، نائبًا بمداركه عن دركاته، يحمل من ماضيه الموعظة ومن حاضره الدوافع ويظل القرآن الكريم قائدها المنير، «وأنّه يحتاج لغيره فألفوه» أو «أنّه يجري على سنن خطابكم فبدلالات ألسنتكم افهموه»؟؟!! لا. لا إنّه القرآن والفرقان والذكر والكتاب فتشبثوا به ولا تفارقوه، وبوحدته البنائيَّة وبنائيَّته الكونيَّة تعلّموه. وباسم منزّله، وبمعيَّته اتِّلوه. فلا تتوهموا فيه حرفًا يمكن أن ينفصل عن حرف، ولا كلمة يمكن أن تنفك عن كلمة، ولا آية يمكن أن تبدَّل بآية، ولا سورة يمكن أن يغيّر موقعها إلى غيره فكل مَا فيه ثابت ثبات كواكب السماء ونجومها، بل إنّه أشد من ذلك ثباتًا ورسوخًا فالسماء ستنفطر والكواكب ستنتثر أمام نجوم القرآن المجيد وكواكب آياته وشموس سوره، وأقمار أجزائه وأحزابه فلن يعتريها انفطار ولن يطرأ عليها انتثار فهو إذن أثبت منها وأمكن في كل شيء. إنّه القرآن. فلنتكشف «خصائص بنائيّته، ولنجاهد في الوصول إلى محدّدات منهجيّته»، ولنعمل على إدراك «كونيَّته» لنجعل من ذلك جلاء همومنا وأحزاننا، ودواء أزماتنا وإشكاليّاتنا في القرآن المجيد من جديد، وتحت راية القرآن المجيد يطيب الوقوف وبقيادة القرآن المجيد يحلو الإقدام والاقتحام.
والله من وراء القصد.