أ.د/ طه جابر العلواني
القرآن المجيد المعجزة الدائمة الباقية الخالدة التي تحدى الله (تبارك وتعالى) بها الإنس والجن أن يأتوا بمثلها؛ ولقد تدرج التحدي بهذه المعجزة العظمى من التحدي بسورة واحدة كما في قوله (تعالى): ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 23) إلى التحدي بعشر سور مثله، فقال (تعالى): ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (هود: 13) كما تحدَّى الإنس والجن بجملة مَا كان قد نزل حتى نزول هذه الآية ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (الاسراء:88) ويمكن القول بأنّ القرآن المجيد قد تنزَّل في تحديه من التحدي بجملة مَا كان قد نزل وبعد ثبوت العجز جرى التحدي بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات وبعد ثبوت العجز عن ذلك، جرى التحدي بالإتيان ولو بسورة واحدة من مثله وقد ثبت العجز عن ذلك. وبذلك أثبت القرآن المجيد أنه كتاب الله وكلامه ليس فيه حرف واحد من كلام غيره (تبارك وتعالى).
وحين طالب العرب بآيات ومعاجز وخوارق مماثلة لتلك التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل رد القرآن الكريم عليهم بقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت: 50-51)، وإذا كانت معجزة القرآن الكريم رحمة وذكرى ونورًا وبشرى فإنّ المعجزات والخوارق الماديَّة إن لم يؤمن بها المرسل إليهم بعد ظهورها على أيدي أنبيائهم فإنّها تتحول إلى نقمة؛ فالذين منحوا الخوارق الحسِّيَّة كثيرًا مَا صاحبتها التشريعات التي تتسم بالإصر وقد يتحول إلى أغلال، فهم قد اخضعوا أنبيائهم ورسلهم للاختبار فمن العدل أن يخضعوا للفتنة والاختيار كذلك ففي طلب قوم موسى –عليه السلام- للآيات الحسيَّة وللحاكميّة الإلهية ابتلوا بالتشريعات المشدّدة. وحين طلب الحواريون من عيسى –عليه السلام- إنزال المائدة وقالوا: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة:112-115). وقال (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ﴾ (الإسراء:59). ومع ذلك فقد استمرت مطالبة قريش والعرب بمطالبته -صلى الله عليه وآله وسلم- بالخوارق الحسيَّة وتجاوز القرآن المجيد ولذلك تنادوا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ (فصلت:26). و﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا﴾ (الإسراء:90-94) ولم يستجب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يدع الله (تبارك وتعالى) للاستجابة لما طلبوا، بل أمر بالاستمرار في تحديهم بالقرآن الكريم وإعجازهم به: ﴿فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ (الفرقان:52) واستمروا في مطالبهم تلك، واستمر رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- بتحديهم بالقرآن الكريم وإعجازهم به: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ (الفرقان:4-10). فخصوم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كانوا يحاولون إحراجه في أمرين لعلهم اقتبسوها من جيرانهم من الكتابيِّين:
الأول: إخراجهم له عن بشريَّته حيث قالت اليهود: عزيز ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله؛ بل إن قومهم من بني إسرائيل زعموا أنّهم أبناء الله وأحباؤه فكان الجواب: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا﴾ (الإسراء:93). فلا مجال في هذا الدين لأي شيء يمكن أن ينال من التوحيد نيلا مَّا.
والأمر الثاني: هُوَ الخوارق الحسيِّة التي تبهر الحواسَّ، فهم يريدون خوارق ملموسة حسيَّة، لا معجزة تتحدَّى عقولهم وقلوبهم وأفئدتهم وتسلك وسائل الوعي الثلاثة السمع والبصر والفؤاد لتبعث الوعي في تلك القلوب والعقول التي تردت على الاستقالة وتقليد الآباء، والخلود إلى التبعيَّة فأوضح القرآن المجيد لهم أنّه المعجزة الوحيدة التي تتحداهم وأكد لهم بشريّته وآدميته -صلى الله عليه وآله وسلم- وعبوديته له (تبارك وتعالى). وأنّهم مدعوون للإيمان بإله واحد ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: 3-4)، ثم بعد ذلك: ﴿.. فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ .. ﴾ (الكهف:29).
والقرآن المجيد إذا كان معجزة خاصَّة لرسول الله مُحَمَّد -صلوات الله وسلامه عليه- فهو معجزة عامّة للأنبياء والرسل كافة فهو الَّذِي نقى وطهر تراث النبيّين وصدق عليه وهيمن. وهو الَّذِي حفظ تاريخ أمّة الأنبياء الواحد وصححه، وهو الَّذِي صدق على شرائعهم ورسالاتهم، وطهّر سيرهم، ونفى كل بهتان أو افتراء أو كذب.
وإعجاز القرآن المجيد كان ينبغي أن يتحكم إليه في كل مَا يتعلّق به من لغات وأقوال وآراء وآثار وتفسير وتأويل وقراءات وأحكام وإحكام وتشابه؛ فالإعجاز هُوَ المعيار الأساسي لذلك كلّه، وما دام التحدي شاملا للإنس والجن فهو تحد مطلق لا يقف عند النظم والأسلوب والفصاحة والبلاغة، ولا يخضع للسان البدو وشعرهم ونثرهم وعاداتهم وأساليبهم، بل تخضع إليه كل مَا عداه. وكان ينبغي أن يعد «لسان القرآن» لسانًا قائمًا بذاته تستنبط كل أحكامه ومحدّداته ومناهجه وقواعده منه لا من خارج عنه، فلا يقاس على سجع العرب ولا على نثرهم ولا على شعرهم في شيء من ذلك، بل إليه يقاس ذلك كله. خلافًا لما جرى عليه المفسِّرون واللغويّون بأنواعهم والأصوليّون وعلماء القرآن ومن إليهم حتى يومنا هذا!!
فالإعجاز قد جعل القرآن المجيد ذا «وحدة بنائيَّة» جعلته عندما تستحضر عيوب الخطاب -أيّ خطاب- يبدو وكأنّه جملة واحدة، بل كلمة واحدة لينغلق عن أيّ عيب من عيوب الخطاب أيًّا كان ذلك العيب: فلا يختلف ولا يتناقض ولا يضطرب ولا يغمض، ولا يوجز حتى يخل، ولا يطنب حتى يملّ، ولا يَضنُّ بمعانيه، ولا يتجاوز أفهام مخاطبيه على كثافة أنواره، وتنوع طاقات هدايته، ونصاعة الحق الَّذِي يحمله، وثقل القول الَّذِي ينقله، واتساع العلم الَّذِي يفصّله فذلك -كلّه- ينطوي عليه في الكنانة ومكنونه، يتكشَّف عنه عبر العصور فيستوعبها بهدايته، ويشملها بأنواره، ويهيمن على أزماتها وسائر قضاياها بمنهجيَّته، إنّه كون في كتاب، وكتاب يهيمن على الكون لا يحده زمان فيبلى، ولا يحيط بأنواره مكان؛ بل يستوعب الزمان الماضي حتى يتجاوز قرونه ودهوره ليربط الإنسان في عالم الذر حيث عاهد الإنسان ربه أشرف عهد، وعقد مع بارئه أوثق عقد- يوم قال وهو ذرات سابحة في الملكوت: ﴿..بَلَى شَهِدْنَا..﴾ (الأعراف:172).