أ.د/ طه جابر العلواني
إن أية أمة ذات خصائص ذاتية متميزة شكلت تلك الخصائص جزءًا من عناصر تكوينها إذا أصابها الضعف والتغيّر والانحلال بعوامل طول الأمد وقسوة القلوب فإنها تحتاج أول ما تحتاج إلى أن تستذكر تلك الخصائص الذاتيَّة التي شكلت أساس عناصر التكوين، إلى أن تتفقد تلك الخصائص واحدة بعد أخرى لتعرف كيف تصوغ خطاب النهوض وكيف تتجاوز حالة الانحلال، وكيف تحقُّق حالة التجدُّد؟!
والخصائص الذاتية للأمة المسلمة خصائص تتسم بكثير من الوضوح الذي يجعل عملية رصدها ليست بالعملية الصعبة، ولكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى تحليل ودراسة وإعادة بناء لمعرفة كيفية إعادة الفاعليَّة إلى الأمة بها.
وأول الخصائص الذاتية لأمتنا وأبرزها أنها أمة صنعها كتاب، هو الذي أرسى دعائم رؤيتها الكلية وعقيدتها وتصورها لذاتها ولغيرها، وبني لها عالم غيبها وميدان فعلها وشهودها العمرانيّ وقادها في ذلك الطريق حتى استوت على سوقها. ولذلك قال )تبارك وتعالى (﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ…﴾ (فاطر:32) وهذه الآية الكريمة إذ بينت اصطفاء الله لهذه الأمة لم تنف انقسامها إلى ظالم لنفسه وإلى مقتصد وإلى سابق بالخيرات. فظهور الانحرافات الفردية أمر لا ينافي عملية الاصطفاء الكليّ للأمة، ولا يبطل ذلك الاصطفاء؛ إن المهم أن تكون الأمة- بوصفها أمة- وارثة للكتاب ومدركة لأهميَّة ذلك الإرث. وما يتطلبه ويقتضيه حفظه والقيام بحقه من جهود في مختلف المجالات وعلى سائر المستويات. وفي الآية ما يشير إلى أن الانحلال بالنسبة لهذه الأمم المصطفاة، إنما يقع إذا ما تجاوزت الأمة- بوصفها أمة- مصدر تكوينها هذا وغفلت عنه وبدأت تتساهل في اقتباس الحلول لمشكلاتها وأزماتها وتوجد لها مرجعيّات بديلة تستقي منها أفكارها وخططها وبرامجها لإحداث حالة التجديد أو التجدد.
والأمة المسلمة- بحكم ولادتها في الحرم- وبداية تكوينها فيه معصومة من الوقوع في الانحراف الشامل أو التعرض لحالة الاستئصال كما أن كونها أمّة خاتم النبييّن يحفظها من التعرض لسُّنة الاستبدال إلا في حالة وقوع الردة العامة- لا سمح الله- كما حدث لبني إسرائيل في عبادة العجل. وهي محفوظة إلهيًا من الاجتماع على الضلال أو الخطأ. ولعلّ قوله –صلى الله عليه وآله وسلم-: “لا تجتمع أمتي على ضلالة” وفي رواية أخرى “لا تجتمع على خطأ” يشير إلى هذا الأمر، فهي لا تجتمع- كلها بإطلاق- على تجاوز مرجعيّتها. ولعل انقسام فصائل الأمة على مستوى ما يمكن تسميته بالنخبة إلى: إسلاميين بمختلف فصائلهم وعلمانييّن وحداثييّن وتقليدييّن ورجعييّن أو ماضوييّن مع حرص الجميع على الانتماء للأمة يبين أنه لا يمكن أن يحدث ذلك التجاوز الكامل حيث لابد أن تبقى فصائل من هذه الأمة ترتبط بهذه المرجعية والفصائل الأخرى التي يمكن إدراجها تحت الظالم لنفسه والمقتصد هي فصائل تمثل تحديًا للفصيل السابق بالخيرات والملتزم بمرجعيَّة القرآن الكريم. الذي سوف يجد في حرصها على الانتماء للأمة، وإصرارها عليه مدخلاً لاستعادتها. ورسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- في وصيته التي هي خطبة حجة الوداع قال: “لقد تركتكم على الحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك كتاب الله”. أردا أن يبين للمسلمين أن مرجعيتهم مستمرة باقية دائمة مادام هذا القرآن يتلى. ومادام موجودًا بين أيديهم فمقام القرآن فيهم مقام النبي العظيم وكل ما يحتاجونه هو أن يتعلموا كيفية الرجوع إليه وقراءته واستخلاص محدّداته التي يمكن أن تقدم للأمَّة دليلاً هاديًا لكيفيّة إعادة البناء بناء الأمة وتجديدها، وإيجاد شبكة الاتصالات والمواصلات بين تلك الواحات الباقية من كيان الأمة المصاب، لتعيد بناء فصيل السابقين بالخيرات الذي سيكون الواجهة الأساسيَّة في عملية إعادة البناء وإعادة التكوين، والذي ينتظر منه أن يهيمن ويقود بالتالي فصائل الظالم لنفسه والمقتصد ووضعهم- جميعًا- في طاقات إعادة البناء والتجديد كل بحسبه. كما حدث في كل فترات تاريخ الأمة بما فيها فترة التلقي في عهد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- حين كان هناك منافقون وفاسقون وسلبيّون ولكن ذلك لم يمنع فصيل السابق بالخيرات أن يحقق كيان الأمة ويبنيه على أقوى الأسس والدعائم معطيًا للفصائل الأخرى فرص المراجعة والتراجع والتوبة.
الواقع الراهن جعل فريق الظالمين لأنفسهم والمقتصدين في المقدمة وأوجد مرجعيات وهمية من خارج عناصر التكوين وبعيدًا عن الكتاب المكوِن لعمليات التجديد والإصلاح التي ما زادت الأمة إلا خبالاً وتراجعًا.
من هنا تصبح عملية إعادة قراءة القرآن الكريم باعتباره كتاب خلافة وكتاب هداية للتي هي أقوم وكتاب مرجعيَّة لا يجوز تجاوزه بحال من الأحوال في أيّ مشروع تجديد أو نهوض بل يجب أن تكون له الكلمة الفصل في ذلك كله.
من هنا تشتد الحاجة لاستجلاء معاني القرآن الكريم لبلوغ التي هي أقوم في معالجة أزمات العصر خارج مداخل التفسير الموروث الذي انصب على الفهم اللغوي للمفردات والأحكام دون انقطاع تام عنه فذلك في غاية الأهمية؛ لأن الرجوع إلى الكتاب باعتباره مرجعية أساسية للتجديد والنهوض والعمران شيء، والرجوع إليه لمعرفة المراد بألفاظه وقراءآته ولغاته وأحكامه شيء آخر ولكن لابد من معرفة ذلك والبناء عليه.
وقد تكون الأمة في حاجة إلى عشرات اللقاءات والندوات والبرامج التدريبية والتعليمية لاستجلاء معاني القرآن الكريم، من هذه الزاوية، والخروج منها ببرنامج مفصل واضح لإعادة بناء الأمة وتكوينها بالشكل الذي رسمه الله (تبارك وتعالى) لهذه الأمَّة المصطفاة.
ولذلك يجب أن ننتبه لعدة محاور، أهمها:
المحور الأول: يحسن أن تعالج فيه القضايا المتعلقة بتاريخ القرآن الكريم لإيجاد مزيد من المعرفة به مثل نزوله وجمعه وتدوينه ولغته، وإعجازه وبلاغته وأسمائه وصفاته وعلومه وما إلى ذلك من أمور تحقق معرفة تقوم على التواصل القائم على أسس معرفية بيننا وبين القرآن الكريم.
المحور الثاني: يتناول السنن الكونية والاجتماعية في القرآن الكريم وبيان ماهيتّها، وكيفية استخلاصها، وكيفية التعامل معها، وكيفية النظر إلى واقع الأمة من خلالها. مثال ذلك: سنة ﴿… إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة:51) وسنة “الاستبدال: ﴿… وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد:38)، وسنن “التغيير” إلى غير ذلك من سنن قد تبلغ عند الفهم الدقيق ما بين 200- 250 سنة اجتماعية وكونية.
المحور الثالث: الحضارة الحديثة التي صارت عالمية واحتلت عقول الكثيرين ومنها عقول مسلمة ترى في القرآن كتابًا دينيًا لاهوتيًا شأنه شأن سائر الكتب الدينيّة. مثل: العهدين القديم والجديد، وكتابي زرادشت وبوذا وما إليها، فكيف نستطيع أن نتغلب على هذه القضية ونزيلها من أمام القرآن ونثبت أنه كتاب للحياة لا للموت ونفك الحصار الفكري والمعرفي عنه لنجاهد به أنفسنا والعالم جهاداً كبيرًا.
المحور الرابع: هل يمكن معالجة مناهج النقد التي خضعت لها كتب العهدين القديم والجديد وبيان أن القرآن الكريم يستطيع بما فيه من تحدٍّ وإعجاز أن يتقبل كل ما بلغته الألسنيَّات المعاصرة. وفنون النقد التي خضع لها العهدان القديم والجديد والتي كانت لها آثارها في تغيير وإحداث ثورة في الفكر الأوروبي بعد عصر الأنوار والمفاهيم الّلاهوتية التي سوغت للإنسان الغربيّ حصر الكتابين في أضيق الزوايا، فكيف نبيّن أنّ القرآن الكريم يستطيع أن يتقبل هذا النقد كله ويتجاوزه -بإذن الله-. مع إبراز مجموعة من الأمثلة على ذلك، ولعل جهد موريس بوكاي في كتابه المعروف يصلح نموذجًا لما ذكرنا.
المحور الخامس: هناك قضايا كثيرة حفلت بها علوم القرآن الموروثة يشكل بعضها- في إطار المعالجات التراثيَّة- إشكاليات ضخمة لا تزال في حاجة إلى معالجة مثل: إشكالية المحكم والمتشابه، والقراءات السبع، والعشر، والنسخ، وأسباب النزول. فكيف نعالج هذه القضايا معالجة تجعلنا قادرين على تجاوز القراءات التجزيئية لهذه القضايا ونتلافى ما قد تركته من آثار فكريَّة حول إطلاقيَّة القرآن المجيد وعصمته وتيسيره، والله أعلم.