Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الاختلاف والخلاف وعلم الخلاف

أ.د/ طه جابر العلواني

الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقًا مغايرًا للآخر في حاله أو في قوله، والخلاف أعم من «الضد» لأنّ كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى تنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال (تعالى) ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ …﴾(مريم:37) ﴿ …وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (هود:118)  ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ (الذاريات:8) ، ﴿…إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (يونس:93).

وعلى هذا يمكن القول بأن «الخلاف والاختلاف» يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.

وأمّا مَا يعرف لدى أهل الاختصاص بـ«علم الخلاف» فهو علم يمكن من حفظ الأشياء التي استنبطها إمام من الأئمة، وهدم مَا خالفها دون الاستناد إلى دليل مخصوص، إذ لو استند إلى الدليل، واستدل به لأصبح مجتهدًا وأصوليًّا، والمفروض في الخلافيّ ألا يكون باحثًا عن أحوال أدلة الفقه؛ بل حسبه أن يكون متمسكًا بقول إمامه لوجود مقتضيات الحكم -إجمالا- عند إمامه كما يظن هو، وهذا يكفي عنده لإثبات الحكم، كما يكون قول إمامه حجة لديه لنفي الحكم المخالف لما توصل إليه إمامه كذلك.

الشقاق:

فإذا اشتدت خصومة المتجادلين، وآثر كل منهما الغلبة بدل الحرص على ظهور الحق ووضوح الصواب، وتعذر أن يقوم بينهما تفاهم أو اتفاق سميت تلك الحالة بـ«الشقاق»؛ و«الشقاق» أصله: أن يكون كل واحد في شق من الأرض؛ أي: نصف أو جانب منها، فكأنّ أرضًا واحدة لا تتسع لهما معًا، وفي التنزيل ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا  …﴾)النساء:35) أي: خلافًا حادًا يعقبه نزاع يجعل كل واحد منهما في شق غير شق صاحبه، ومثله قوله )تعالى( ﴿..فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ..﴾( البقرة: 137).

 

المقبول والمردود من الاختلاف:

خلق الله (تبارك وتعالى) الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائلها، وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله (تبارك وتعالى)، فإنّ اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله (تبارك وتعالى) كذلك، ودليل من أدلة قدرته البالغة، وإن إعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أيّ منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أمّة وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾( هود:118-119).

إنّ الاختلاف الَّذِي وقع في سلف هذه الأمّة -ولا يزال واقعًا- جزء من هذه الظاهرة الطبيعيّة، فإن لم يتجاوز الاختلاف حدوده بل التزمت آدابه كان ظاهرة إيجابيّة كثيرة الفوائد.

بعض فوائد الاختلاف المقبول:

وكما أسلفنا فإنّه إذا التزمت حدود الاختلاف، وتأدب الناس بآدابه كان له بعض الإيجابيّات منها:

1- أنّه يتيح -إذا صدقت النوايا- التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة.

2- وفي الاختلاف -بالوصف الَّذِي ذكرناه- رياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها.

3- تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الَّذِي هُوَ فيه بما يتناسب ويسر هذا الدين الَّذِي يتعامل مع الناس من واقع حياتهم.

تلك الفوائد وغيرها يمكن أن تتحقق إذا بقى الاختلاف ضمن الحدود والآداب التي يجب الحرص عليها ومراعاتها، ولكنه إذا جاوز حدوده، ولم تراع آدابه فتحول إلى جدال وشقاق كان ظاهرة سلبيّة سيئة العواقب تحدث شرخًا في الأمة- وفيها مَا يكفيها- فيتحول الاختلاف من ظاهرة بناء إلى معاول للهدم.

خاتمة:

ها نحن قد بلغنا الحلقة الخاتمة أو الحلقة الثلاثين من حلقات هذا البرنامج “القرآن والحياة” وأرجو أن نكون قد أثبتنا لكل المتابعين لهذا البرنامج أن القرآن كتاب للحياة والأحياء أُنزل لجعل الإنسان قادرًا على أن يحيا حياة طيبة ويجزى في الآخرة الجزاء الأوفى فهو كتاب استخلاف وتعليم وهداية للتي هي أقوم وبيان لكيفية بناء الأمم والحضارات والقوانين التي تحكم تراجعها وتخلفها والسنن التي تعيد النعم بعد استيلاء النقم، وتعيد الناس إلى الهداية وإلى صراط مستقيم، وأن هذا الكتاب الكريم هو خلاصة الوحي الإلهيّ لأمة الأنبياء كافة وجماع رسالات النبيين فهو تبيان لكل شيء، من أتقن قراءته وتدبره هُدي إلى التي هي أقوم في أي شأن من شئون الحياة، وإتقان القراءة والتدبر لا يتم إلا بتلاوته مع الكون، فإذا كان القرآن كتاب الله المقروء فإن الكون كتاب الله المنثور فهو الكتاب الهادي والقائد للبشرية لكيفية السلوك الأقوم في تحقيق غاية الحق من الخلق في تجنيب الأرض العبث ﴿..أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا..﴾ (المؤمنون:115).

والنأي بالإنسان أن يتوهم أنه خُلق سدى، فهو لم يُخلق سدى ولعل متابعي هذه الحلقات القليلة المعدودة التي تناولنا فيها مختارات من مشكلات حياتنا المعاصرة وتبينا بلطف شديد واختصار نرجو أن لا يكون مخلاً، كيف يعالج القرآن المشكلات ويحول دون وقوعها قبل أن تقع إذا ما تمسك الناس به وتدبروه حق التدبر وتلوه حق التلاوة، لعل الذي قدمناه يكون نموذجًا ومفتاحًا لنا ولغيرنا لتتبع مشكلات مجتمعاتنا وأزمات أمتنا والبحث لها عن حلول في هداية القرآن ونور آياته فنواصل الاتصال بالقرآن واللجوء إليه بحثًا عن تلك الحلول ونضع حدًّا نهائيًّا لحالة الهجر -هجرنا لكتاب ربنا وانشغالنا بكل ما عداه-.

فهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم المخرج من الفتن لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن تمسك به هُدي إلى الصراط المستقيم.

إن تدبرنا للقرآن وتدربنا عليه وملازمتنا له سوف تفتح لنا آفاقًا لا يمكن لغير القرآن أن ينتجها وتزودنا برؤى لمعالجة مشكلاتنا وحلول لتجاوز أزماتنا لا يمكن أن نحصل عليها من سواها.

وتدبر القرآن ليس وقفًا على المتخصصين في المعارف النقليَّة ولا على من درسوا ما سمّي بعلوم القرآن فهو مع ضرورة الاستعداد له وإعداد العدة للقيام به وتهيئة الوسائل اللازمة لحسن قراءته لكنه ميسر للذكر للجميع وينادي المتذكرين والقارئين والتالين أن هلموا إليّ وأن كرمه لن يتوقف عن إعطاء كل ملتمس ما يستطيع استيعابه واستفادته منه؛ ولذلك فإنني أدعو الجميع من المؤمنين بالقرآن والمحبين له والمدركين لعظمته أن يتدبروا القرآن الكريم وأن يذهبوا إليه بأزماتهم ومشاكلهم وأن يبحثوا فيها عن العلاج الشافي لتلك المشكلات وسيجدون ولا شك -إن شاء الله- ما تطمئن به قلوبهم وتقرّ به أعينهم وتهدأ به نفوسهم إن شاء الله (تعالى).

 فإلى القرآن من جديد ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *