Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أسئلة عن الاجتهاد

أسئلة عن الاجتهاد: (أسئلة المقابلة)

س1: بداية، ما هو تعريفك للاجتهاد؟

(من كتاب: الاجتهاد والتقليد في الإسلام): (1)

بداية ص()، نهاية ص():

  • الاجتهاد لغة:

هو من مادة: «ج، ﻫ، د»، والجهد – بالضم في لغة أهل الحجاز، وبالفتح في لغة غيرهم: الوسع والطاقة.

وقيل: المضموم الطاقة، وبالفتح فقط: النهاية والغاية.

وهو: من باب «نفع»، يقال: «جهد في الأمر جهدًا» – إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب.

و«اجتهد في الأمر»: بذل وسعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته.([1])

و«اجتهد» على وزن «افتعل»، وهذا البناء يأتي غالبًا – للطلب ([2]) فكأن المجتهد طالب للجهد وساع له.

وفي التنزيل: ]وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ[ (التوبة:79) بالضم وبالفتح، من قولك: «اجتهد جهدك في هذا الأمر» – أي: أبلغ غايتك.

وفي الحديث «أي الصدقة أفضل»؟ قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «جهد المقل» ([3]) – أي: قدر مَا يحتمله حال قليل المال.

ومن المجاز: –«جهدت اللبن جهدًا»– أي: مخضته حتى استخرجت زبده كلّه

و«الاجتهاد» -افتعال: من الجهد والطاقة.

و«أجهد في الأمر» احتاط. ([4])

وقال الراغب الأصفهاني: «والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة، يقال: جهدت رأيي وأجهدته: أتعبته بالفكر» ([5]).

وفى حديث معاذ: «أجتهد رأيي» الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الأمر. والمراد به: رد القضيّة من طريق القياس إلى الكتاب والسنّة. وهو مجاز – كما في الأساس ([6]).

إن من الواضح -من هذا العرض المختصر جدًا لاستعمال الكلمة في اللغة ([7])- أنّه لا يقال: «اجتهد» إلا لمن بذل غاية وسعه ونهاية طاقته، بحيث لم يبق من طاقته مَا يمكن أن يضيفه.

كما أن استعمال الكلمة يدل: على أنّها تطلق أحيانًا على الجهد في الأمور المعنويّة، كما تطلق على الجهد في الأمور الحسيّة، وفي كل منهما لا بد وأن يبلغ الغاية والنهاية، فلا يقال: «اجتهد فعرف أن السماء فوق» كما لا يقال: «اجتهد في حمل القشة أو النواة».

 ولأهل كل علم أو فن -تصورهم الخاص بهم للطاقة العادية في علمهم أو فنهم، وتصور لما يحتاج إلى أكثر من الجهد المعتاد، فإذا جاوز الجهد المبذول الحد المعتاد قالوا: «جهد نفسه أو أجهدها في الأمر».

فإذا بلغ غاية الوسع ونهاية الطاقة بأن بذل من الجهد -مع القدرة والاستعداد- ما لا يمكن أن يزيد عليه لو أراد ولا يلومه لائم، ولا يتهم بتقصير مع استكمال القدرة، واستعمال الوسائل المتوفرة، قالوا: «اجتهد» فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

  • الاجتهاد في اصطلاح الأصوليّين:

تأثر الأصوليون بتنوّع استعمال كلمة «الاجتهاد» فقد استعمل باعتباره مصدرًا دالا على الحدث.

واستعمل باعتباره وصفًا قائمًا بمن وقع منه الجهد، ولذلك فقد تعددت تعاريفهم له بالنظر إلى الاعتبارين.

فبالنظر إلى الاعتبار الأول عرفة بعضهم -بأنه-: «استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم» ([8]).

وقال الإمام الغزالي: «الاجتهاد بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة» وقال -بعد ذلك-: «والاجتهاد التام»: «أن يبذل المجتهد الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب» ([9]).

وعرفة الإمام الرازي -في المحصول-: بأنه «استفراغ الوسع في النظر، فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه».([10])

والتعريف الأول -تعريف معظم الأصوليّين: من المتكلمين والحنفيّة ([11]) وإدخال كلمة «الظن» في التعريف -إشارة إلى أن الإحكام التي يتوصل إليها بطريق الاجتهاد- هِيَ أحكام ظنيّة الثبوت وليست بقطعيّة.

وبعض الكاتبين أهمل قيد «الظن»([12]) أمّا باعتبار أنّه يمكن أن يفهم من التعريف([13]) وأما ليدخل فيه مَا يوصل الاجتهاد فيه إلى العلم ([14])، ليتناول تعريفه المسائل الكلاميّة والأصوليّة أيضًا.

وأما تعريف الإمام الغزالي -فقد أخذ «العلم» قيدًا فيه، حيث قال: «.. في طلب العلم بأحكام الشريعة» ([15]). وهو صريح في أنّه -رحمه الله- يرى أن الأحكام المستفادة بطريق الاجتهاد -هي أحكام علميّة، لا ظنيّة.

والإمام الغزالي -في هذا موافق لشيخه أمام الحرمين الجويني- حيث عرفه بأنه «بذل الوسع في بلوغ الغرض المقصود من العلم ليحصل له» ([16]) أي: العلم.

ومعلوم: إنّه لا يتوقف المجتهد عن بذل الجهد إلا بعد أن يحل العلم في قلبه: بأن حكم الله -تبارك وتعالى- في المسألة هُوَ مَا توصل إليه.

أما تعريف «الاجتهاد» باعتباره وصفًا قائمًا بالمجتهد – فيمكن أن يقال فيه: «إنّه الجهد التام الَّذِي يبذله المسلم البالغ العاقل الفقيه النفس – الَّذِي له ملكه يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أدلتها التفصيليّة».([17])

من كتاب (نحو منهجية معرفية قرآنية): (7)
بداية ص(308)، نهاية ص(309)

وأما الاجتهاد – فالأدلّة على مشروعيّته والأخذ به في هذا العصر كثيرة جدًا، منها حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قال: “كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟، قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإن لم يكن في سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال معاذ قلت: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى الله ورسوله”([18])، واجتهاد الرأي في حديث معاذ يفسّره ما في عهد عمر رضي الله عنه لأبي موسى حين ولاه القضاء فقد جاء في قوله: “القضاء فريضة محكمة، أو سنّة متّبعة”، ثم قال: “الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنّة، فاعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق”([19]).

ولذلك فسّر الإمام الشافعي الرأي بالاجتهاد، ثم فسّر الاجتهاد بالقياس، وقال: “هما اسمان لمعنى واحد”([20]).

أما أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه قال: “… إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصيبًا فإن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلّف”([21]).

ويمكن القول بأن مفهوم “الاجتهاد” أو “الرأي” في هذا الدور لا يعدو أن يكون واحدًا من الأمور التالية:

(أ) حمل ما يحتمل من الكلام محملين أو أكثر كما في أمره صلى الله عليه وآله وسلم هم بالصلاة في بني قريظة.

(ب) قياس تمثيلي تلحق فيه واقعة وقعت وحدثت بواقعة مماثلة لها تعرّض لها الكتاب أو السنّة، كما في قياس عمار التيمّم من الجنابة على الاغتسال منها وتمعكه بالتراب([22]).

(ج) الاجتهاد في ملاحظة مصلحة، أو سد ذريعة، أو تخصيص عموم أو أخذ بمفهوم أو نحو ذلك.

ولقد بلغ من حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حملهم على ممارسة الاجتهاد، والدربة عليه أن قال: “الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر”.

ولقد بلغ من دقّة اجتهاد الكثيرين منهم أن القرآن العظيم كان كثيرًا ما ينزل موافقًا لاجتهاداتهم، ويوافقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أن صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاحت لهم من الاطلاع على مقاصد الشارع الحكيم والإدراك لأسرار التشريع والمعرفة بمعاني النصوص ما لم يتح لسواهم ممن جاء بعدهم.

من كتاب (ابن رشد الحفيد الفقيه الفيلسوف):(11)

من ص6:ص6:
وإذا اخترنا من تعريفات “الاجتهاد” تعريف ابن السبكي, وهو “بذل الفقيه الوسع بحيث تحس النفس بالعجز عن بذل المزيد”([23]) فـ”الفقيه” وإن فسروه بأنه من صار الفقه له سجية أو ملكة أو نحو ذلك؛ بيد أنه ترجمة لنحو قولنا: بذل الفقيه (الذي تؤهله مداركه وقدراته الذهنيَّة وتجاربه وطاقاته ومؤهلاته) الوسع للوصول إلى معرفة حكم فقهي”. وهو ما يفيد قول الإمام الشافعي في “تفاوت المدارك العلميَّة عند المجتهدين”.

س2: هل المسلمون في العالم اليوم بحاجة إلى الاجتهاد؟ لماذا؟

ج2: من كتاب (الاجتهاد والتقليد في الإسلام):1

بداية من ص71 إلى ص77

لقد تقدم أن الاجتهاد فرض من أهم الفرائض التي افترضها الله -تبارك وتعالى- على الأمّة، وأنّ الأمّة آثمة كلها إذا لم يكن فيها مجتهدون قائمون بحجج الله -تبارك وتعالى- يبينون للناس أحكامه، ويوقفونهم على حدوده، ويبشرون وينذرون.

ويجب أن يكون منهم عدد كاف منتشرون في أقطار الإسلام يرجع إليهم سواد المسلمين في معرفة أمور دينهم وأسرار شريعة ربهم.

والذي عليه أكثر العلماء: إنّه لا يسقط هذا الفرض عن الأمّة بوجود المجتهد المنتسب أو المقيد؛ بل لا بد لذلك من وجود المجتهد المطلق، مع اعتراف معظمهم بأن الزمان قد خلا منذ مَا قبل القرن الخامس الهجري من المجتهد المطلق. ([24])

لأن علمائنا تداركوا أن التخلي عن فرض الاجتهاد يؤدّي بالناس –حتمًا– إلى الاحتكام إلى غير شريعة الله -تبارك وتعالى. إنّ التخلي عن الجهاد يؤدّي إلى أن يذل المسلمون لغيرهم ويحكموا من قبل أعدائهم، فكان الجهاد فرض كفاية على المسلمين ويتعين عندما تغزى ديارهم، وتنتهك حرماتهم ففرض على الأمّة أن تعد المجاهدين بتشكيل الجيوش وإمدادها بكل مَا تحتاج إليه.

وكذلك على الأمّة أن تبذل جهدها، وتضع من المناهج العلميّة مَا يكفل لها إيجاد المجتهدين الذين يقومون على شريعة الله -تبارك وتعالى- ويبينون للناس أحكام دين الله -تبارك وتعالى- وتعاليمه، لكيلا تخلو واقعة من الوقائع عن حكم شرعيّ. أو يفتي فيها الجهّال بجهلهم فيَضلون ويُضلون، ويَهلكون ويُهلكون.

المسألة الثالثة:

في بيان نوع المجتهد – الَّذِي اختلف العلماء في جواز خلو العصر عنه وعدم جوازه. وبيان معنى الجواز، وهل المراد به الجواز أم الشرعيّ؟

وبيان المراد بالعصر هل هُوَ عصر معين أم هُوَ مطلق عصر؟!!

  • أمّا المراد بالمجتهد – فقد صرح بعضهم بأن الخلاف أهم من أن يكون في المجتهد المطلق أو غيره.

وأومأ إليه بعضهم الآخر.([25])

2- وأما المراد بالجواز – فقد صرح صاحب «مسلم الثبوت» وشارحه: بأن المراد به الجواز الشرعيّ. ([26])، حيث لا يتأتي لعاقل إحالة خلو العصر عن المجتهد عقلا.([27])

وقال صاحب التحرير: بأن مراد الحنابلة من عدم جواز خلو العصر عن المجتهد عدم الوقوع. بدليل قولهم: وإن لم يتحقق الاجتهاد في عصر من العصور – لزم الكذب في خبر رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – أي: بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك». ([28])

وقال الشربيني: اختلف العلماء في جواز خلو بعض العصور عن المجتهد – في الجواز العقليّ أولا، ثم نشأ بعد الخلاف فيه، ومن الاستدلال بالأحاديث خلاف في وقوعه. ([29])

وهذا مستبعد فكل هؤلاء العلماء – الذين اختلفوا في هذه المسألة هم أصوليون وفقهاء وحين يطلقون كلمة «الجواز» فإنّها تحمل على الجواز الشرعيّ؛ إلا إذا وجد صارف يصرفها إلى الجواز العقليّ.

  • وأما العصر الَّذِي اختلفوا في جوازه خلوه عن المجتهد – فهو: مَا قبل ظهور أشراط الساعة الكبرى: كخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها.

أما بعد ظهور تلك الأشراط – فلا خلاف في جواز خلو الزمان من المجتهدين القائمين لله -تبارك وتعالى- بالحجة، ولقوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس».([30])

مذاهب العلماء في أصل المسألة:

إذا اتضح مَا تقدم – فإن في أصل المسألة المذهبيّن التاليين:

1- لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد قائم بحجج الله -تبارك وتعالى- يبين للناس أحكامه وهو قول الحنابلة.([31])

2- يجوز خلو العصر عن المجتهد. وهو قول الأكثريّن. وبه جزم الفخر الرازي ونقل بعضهم الاتفاق على ذلك. ([32])

أدلة الحنابلة:

احتج الحنابلة ومن وافقهم لما ذهبوا إليه بما يلي:

(أ) قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون». وفي بعض الروايات:.. «حتى تقوم الساعة». وفي بعضها: «.. وحتى يظهر الدجال». ([33])

( ب) قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- : «وا شوقاه إلى إخواني؛ قالوا: يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابيّ، إخواني: قوم يأتون بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق، ويصلحون إذا فسد الناس». ([34])

(جـ) قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ([35]) والاجتهاد فرض على الأمّة لو تركته كلها – لاجتمعت على ضلالة.

(د) واستدلوا –عقلا: بأن طريق معرفة الأحكام الشرعيّة – هُوَ الاجتهاد، فلو خلا العصر عن مجتهد يلزم تعطيل الشريعة واندراس الأحكام. ([36])

واحتج الجمهور بما يأتي:

(أ) إنّ خلو العصر من المجتهد -لا يترتب على فرض وقوعه– محال، فهو جائز عقلا.

(ب) وجوازه شرعًا – يدل عليه:

أولا: قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ». ([37])

ثانيا: قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا، ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». ([38])

المذهب الراجح:

الراجح من المذهبيّن –والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم– مَا ذهب إليه الحنابلة، ووافقهم عليه بعض علماء المذاهب الأخرى، فلا يجوز خلو عصر من العصور – شرعا عن مجتهدا قائم لله -تبارك وتعالى- بالحجة، وإذا وقع فالمسملون –جميعا– آثمون.

أما أدلة المجوزين – فقال في مناقشتها:

  • أما الدليل العقليّ – فإنّنا لم ندع المنع العقليّ ليحتج علينا بالجواز العقليّ إذ هُوَ مسلم اتفاقًا، ولكن المدعى أن السمع – هُوَ المانع من خلو العصر عن المجتهد.

وأما الأحاديث – التي استدلوا بها، فقوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- «بدأ الإسلام غريبًا…» لا يستلزم تجويز عدم الاجتهاد، كما أن قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- : «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرها الصلاة». ([39]) لا يقتضي جواز نقض تلك العرى، وإنّما هُوَ إخبار عن أمور مستقبلة، وهذه الأحاديث ونحوها جزء من معجزات النبوة وبراهينها.

على أن في بعض طرق الحديث زيادة تنفي أن يكون المراد بالحديث مَا ذهب إليه المجوزون – فقد رواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني بلفظ: «وإن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعفلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريبا، ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون مَا أفسد بعدي من سنتي»، ويمثله رواه الطبراني وأبو نصر في الإبانة عن عبد الرحمن بن سنة. ([40])

فهذه الزيادة تدل على استمرار وجود أولئك المجتهدين المجددين – الذين يصلحون مَا يفسد الناس من السنّة.

وأما قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم: «إن الله لا يقبض العلم… الحديث» فهو الآخر من معجزات النبوة وبراهينها، وليس فيه مَا يدل على الجواز الشرعيّ لخلو العصر عن المجتهد، ووقوع الشيء من الناس لا يدل على جوازه ومشروعيته فذلك مما لا يقول به عاقل.

وبهذا تتضح سلامة دعوة القائلين بدوام فرضيّة الاجتهاد على الأمّة، واستمرارها، وعدم جواز تفريط الأمّة بها في أيّ زمان أو مكان، وإن الإثم يصيبها كلها في حالة خلوها عن المجتهد، وإن الاجتهاد تتعين فرضيته على من وجد في نفسه القدرة عليه أو جزءا، واستكمل أدواته.

 

س3: هل المسلمون –خاصة في امريكا الشمالية أو الغرب- بحاجة إلى الاجتهاد؟ لماذا؟

ج3: من كتاب (نحو التجديد والاجتهاد): 17

بداية من ص124 إلى ص143

 ضرورة الاجتهاد:

لقد استوطن الإسلام في العقود الأخيرة بلدانًا كثيرة لا تدخل ضمن حيزه التاريخي، وصار وجوده ناميًا في تلك البلدان، وبدأ المسلمون يواجهون واقعًا جديدًا يثير أسئلة كثيرة جدًّا تتجاوز القضايا التقليدية ذات الطابع الفردي، المتعلقة بالطعام المباح واللحم الحلال وثبوت الهلال والزواج بغير المسلمة، إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثرًا ذات صلة بالهوية الإسلاميَّة، ورسالة المسلم في وطنه الجديد، وصلته بأمته الإسلاميَّة ومستقبل الإسلام وراء حدوده الحالية.

وربما حاول البعض الإجابة عن هذا النمط من الأسئلة بمنطق «الضروريات» و«النوازل» ناسين أنَّه منطق هش لا يتسع لأمور ذات بال وربما واجه المسلم فوضى في الإفتاء: فهذا الفقيه يُحِلُّ، وذاك يُحرِّم، وثالث يستند إلى أنَّه يجوز في «دار الحرب» ما لا يجوز في «دار الإسلام»، ورابع يقيس الواقع الحاضر على الماضي الغابر قياسًا لا يأبه بالفوارق النوعية الهائلة بين مجتمع وآخر، وبين حقبة تاريخية وأخرى، بل لا يأبه بالقواعد الأصولية القاضية بمنع قياس فرع على فرع.

فتكون النتيجة المنطقية لهذا المنطق المنهجي الخاطئ إيقاع المسلمين في البلبلة والاضطراب، وتحجيم دورهم المرتقب، والحكم عليهم بالعزلة والاغتراب، وإعاقة الحياة الإسلاميَّة، وفرض التخلف عليها، وإظهار الإسلامي بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنير في زماننا هذا، والحق أنَّ مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أنْ تُواجَه إلا باجتهاد جديد، ينطلق من كليات القرآن الكريم وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم، ويستنير بما صح من سنَّة وسيرة الرسول r في تطبيقاته للقرآن وقيمه وكلياته.

تجاوز الفقه الموروث:

أمَّا الفقه الموروث في مجال التنظير لعلاقة المسلمين بغيرهم فهو – على ثرائه وتنوعه وغناه وتشعبه – قد أصبح أغلبه جزءًا من التاريخ، لأسباب تتعلق بالمنهج، وأخرى بتحقيق المناط.

أما الأسباب المنهجية فأهمها:

أولاً: لم يُرتب بعض فقهائنا الأقدمين مصادر التشريع الترتيب الصحيح الذي يعين على حسن الاستنباط، والذي يقضي باعتبار القرآن الكريم أصل الأصول، ومنبع التشريع، والمصدر التأسيسي المهيمن على ما سواه، والمقدم عليه عند التعارض، واعتبار السنَّة النبوية مصدرًا بيانيًّا ملزمًا يُكمل القرآن ويفصله ويتبعه.

ثانيًا: لم يأخذ أكثر فقهائنا عالمية الإسلام بعين الاعتبار في تنظيرهم الفقهي لعلاقة المسلمين بغيرهم، بل عبَّروا عن نوع من الانطواء على الذات لا يتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة الشاهدة.

ثالثًا: تأثر الفقهاء بالعرف التاريخي السائد في عصرهم حول التقسيم الدولي للعالم، فضاقت نظرتهم للموضوع، وابتعدوا عن المفهوم القرآني للجغرافيا.

وأما الأسباب ذات الصلة بتحقيق المناط فأهمها:

أولاً: لم يعتد المسلمون في تاريخهم – بعد عصر الرسالة – على اللجوء إلى بلاد غير إسلاميَّة طلبًا لحق مهدَر أو هربًا من ظلم مفروض، بل كانت بلاد الإسلام في الغالب أرض عزٍّ ومَنَعة، ولم تكن تفصل بينهما حدود سياسية مانعة؟ فكلما ضاقت بمسلم أرض، أو انسدت عليه سبيل، تحول إلى ناحية أخرى من الإمبراطورية الإسلاميَّة الفسيحة، دون أنْ يحس بغربة، أو تعتريه مذلة.

ثانيًا: لم تكن فكرة المواطَنة – كما نفهمها – اليوم موجودة في العالم الذي عاش فيه فقهاؤنا الأقدمون، وإنّما كان هناك نوع من الانتماء الثقافي لحاضرة معينة، أو الانتماء السياسي إلى إمبراطورية معينة يعتمد المعيار العقائدي، ويتعامل مع المخالفين في المعتقد بشيء من التحفظ، مع اختلاف في درجة التسامح، من محاكم التفتيش الأسبانية إلى الذمة الإسلاميَّة.

ثالثًا: لم تكن الإقامة في بلد غير البلد الأصلي تُكسب حق المواطَنة بناءً على معايير ثابتة، مثل الميلاد في البلد المضيف، أو أمد الإقامة، أو الزواج، وإنّما كان الوافد يتحول تلقائيًّا إلى مواطن إذا كان يشارك أهل البلد معتقدهم وثقافتهم، أو يظل غريبًا- مهما استقر به المقام- إذا كان مخالفًا لهم في ذلك.

رابعًا: لم يكن العالم القديم يعرف شيئًا اسمه القانون الدولي أو العلاقات الدبلوماسية، اللذان يحتِّمان على كل دولة حماية رعايا الدول الأخرى المقيمين على أرضها، ومعاملتهم بنفس معاملة الرعايا الأصليين، إلا في بعض الأمور الخاصَّة التي تقتضي حق المواطنة التميز فيها.

خامسًا: كان منطق القوة هو الغالب على العلاقة بين الإمبراطوريات القديمة – بما فيها الإمبراطورية الإسلاميَّة- فكانت كل منها تعتبر أرض الأخرى «دار حرب» يجوز غزوها وضمها كليًّا أو جزئيًّا إلى الدولة الغالبة؛ إذ من طبيعة الإمبراطوريات أنَّها لا تعرف حدودًا إلا حيث تتعسر على جيوشها مواصلة الزحف.

سادسًا: لم يعش فقهاؤنا الوحدة الأرضية التي نعيشها اليوم، حيث تتداخل الثقافات، وتعيش الأمم في مكان واحد، وإنما عاشوا في عالم من جزر منفصلة، لا تعايش بينها ولا تفاهم، فكان «فقه الحرب» طاغيًا بحكم مقتضيات الواقع يوم ذاك، وما نحتاج إليه اليوم هو «فقه التعايش» في واقع مختلف كمًّا ونوعًا.

سابعًا: كان بعض الفقهاء الأقدمين والمتأخرين يعبرون بفتاواهم عن نوع من المقاومة وردة الفعل على واقع مخصوص يختلف عن واقعنا، وفي هذا الإطار يمكن أنْ ندرج كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم» وفتاوى علماء الجزائر في صدر هذا القرن بتحريم حمل الجنسية الفرنسية، فهذه الكتب والفتاوى جزء من ثقافة الصراع التي لا تحتاج إليها الأقليات الإسلاميَّة.

نحو أصول لفقه الأقليات:

لذلك نقترح على أهل العلم جملة من المحددات المنهجية أو «الأصول» التي نرى ضرورة اعتمادها من قبل المفتي في فقه الأقليات، باعتبار خصوصية هذا الفقه، وباعتبار أنَّ كل «فقه» يحتاج إلى أصول.

1- اكتشاف الوحدة البنائيَّة في القرآن، وقراءته باعتباره معادلاً للكون وحركته، واعتبار السنَّة النبوية الصادرة عن المعصوم r تطبيقًا لقيم القرآن، وتنزيلاً لها في واقع معين، والنظر إليها كوحدة في ذاتها، متحدة مع القرآن، بيانًا له وتنزيلاً لقيمه في واقع نسبي محدَّد.

2- الاعتراف بحاكمية الكتاب الكريم وأسبقيته، وأنَّه قاضٍ على ما سواه بما في ذلك الأحاديث والآثار، فإذا وضع الكتاب الكريم قاعدة عامة – مثل مبدأ «البر والقسط» في علاقة المسلمين بغيرهم – ووردت أحاديث أو آثار يتناقض ظاهرها مع هذا المبدأ: كالمزاحمة في الطريق، أو عدم رد التحية بمثلها أو أحسن منها، تعين الأخذ بما في الكتاب، وتأوُّل الأحاديث والآثار إنْ أمكن تأوُّلها، أو ردُّها إنْ لم يمكن ذلك.

3- الانتباه إلى أنَّ القرآن المجيد قد استرجع تراث النبوات، وقام بنقده وتنقيته من كل ما أصابه من تحريف، وأعاد تقديمه منقَّحا خاليًا من الشوائب، وذلك لتوحيد المرجعيَّة للبشريَّة، ذلك هو تصديق القرآن لميراث النبوَّة كلِّه وهيمنته عليه.

4- تأمل الغائية في القرآن الكريم، وهي التي تربط الواقع الإنساني المرئي باللامرئي عالم الغيب، وتزيل فكرة العبث والمصادفة، وذلك ما يمكِّن من إدراك وتفسير العلاقات بين الغيب والشهادة، وبين النص المطلق – وهو القرآن – والواقع الإنساني، وتوجِد نوعًا من الكشف عن الفارق الدقيق بين إنسانيَّة الإنسان وبين فرديتَّه، فالإنسان باعتبار فرديَّته مخلوق نسبي، وهو باعتبار إنسانيَّته مخلوق كوني مطلق.

5- الانتباه إلى أهمية البعدين الزماني والمكاني في كونيَّة الخلق الإنساني؛ ففي الجانب الزماني أكد القرآن ذلك البعد بتعقيبه على تحديد الأشهر باثني عشر شهرًا، ومنع النسيء فعدَّهما جزءًا من الدين القيِّم، وفي الجانب المكاني جعل لنا أرضًا محرَّمة وأرضًا مقدسة، وأرضًا ليست كذلك، وفي هذا الإطار يمكن أنْ تُفهم فكرة امتداد الإنسان منذ خلق آدم وحواء حتى دخول الجنة أو النار والعياذ بالله، إنَّ ذلك الامتداد هو الذي يربط بين كونيَّة القرآن وكونيَّة الإنسانيَّة.

6- الانتباه إلى وجود منطق قرآني كامن، قواعده مبثوثة في ثنايا الكتاب، وأنَّ الإنسان قادر – بتوفيق الله عز وجل- على الكشف عن قواعد ذلك المنطق؛ لتساعده في تسديد عقله الذاتي وترشيد حركته، كما أنَّ هذه القواعد ذاتها يمكن أنْ تشكل قوانين تعصم العقل الموضوعي من الشذوذ والشرود والخطأ والانحراف، وهذا المنطق القرآني يستطيع أنْ يوجد قاعدة مشتركة للتفكير بين البشر، تساعدهم على الخروج من دوائر هيمنة العقل الذاتي القائم على مسلَّمات تقليد الآباء وتراثهم، وما يتبع ذلك من مسلَّمات قبليَّة يستطيع المنطق القرآني أنْ يخرجهم منها إلى المنطق الاستدلالي أو البرهاني.

7- الالتزام بالمفهوم القرآني للجغرافيا، فالأرض لله والإسلام دينه، وكل بلد هو «دار إسلام» بالفعل في الواقع الحاضر، أو «دار إسلام» بالقوة في المستقبل الآتي، والبشرية كلَّها «أمة إسلام» فهي إمَّا «أمة ملة» قد اعتنقت هذا الدين، أو «أمة دعوة» نحن ملزمون بالتوجه إليها لدخوله.

8- اعتبار عالميَّة الخطاب القرآني، فالخطاب القرآني يخالف خطابات الأنبياء السابقين، التي كانت خطابات اصطفائيَّة موجَّهة إلى أمم مصطفاة أو قرى مختارة، أمَّا الخطاب القرآني فقد تدرَّج من الرسول r إلى عشيرته الأقربين، إلى أمِّ القرى ومن حولها، ثم إلى الشعوب الأميَّة كلِّها، ثمَّ إلى العالم كلِّه. وبذلك صار هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع أنْ يواجه الحالة العالميَّة الراهنة. إنَّ أيّ خطاب يوجه إلى عالم اليوم لا بد أنْ يقوم على قواعد مشتركة وقيم مشتركة، وأنْ يكون منهجيًّا، أيّ خطابًا قائمًا على قواعد ضابطة للتفكير الموضوعي، وليس هناك كتاب على وجه الأرض يستطيع أنْ يوفر هذه الشروط إلا القرآن المجيد ذاته.

9- التدقيق في الواقع الحياتي، بمركباته المختلفة باعتباره مصدرًا لصياغة السؤال والإشكال الفقهيِّ، أو «تنقيح المناط» كما يقول الأقدمون. وما لم يُفهم هذا الواقع بمركباته كلها فإنَّه من المتعذر صياغة الإشكال الفقهي بشكل ملائم بحيث يُمكن الذهاب به إلى رحاب القرآن الكريم لتثويره واستنطاقه الجواب، ففي العصر النبوي كان الواقع يصوغ السؤال فيتنزَّل الوحي بالجواب، أمَّا في عصرنا هذا فإنَّ الوحي بين أيدينا، ونحتاج إلى أنْ نتقن صياغة إشكالياتنا وأسئلتنا لنذهب بها إلى القرآن الكريم ونستنطقه الجواب عنها، ونستنطق من سنَّة الرسول r فقه التنزيل ومنهجيَّة الربط بين النص المطلق والواقع النسبي المتغير نوعًا وكمَّا.

10- دراسة القواعد الأصوليَّة بكل تفاصيلها، بما فيها مقاصد الشريعة، وذلك في محاولة للاستفادة بها في صياغة وبلورة مبادئ فقه الأقليات المعاصر، ولا بد من تكييف الدراسة للمقاصد، وربطها بالقيم العليا الحاكمة، وملاحظة الفروق الدقيقة بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين.

11- الإقرار بأنَّ فقهنا الموروث ليس مرجعًا للفتوى أو صياغة الحكم في مثل هذه الأمور، بل هو سوابق في الفتوى وفي القضاء يمكن الاستئناس بها واستخلاص منهجيتها والبناء على ما يصلح البناء عليه منها، فإنْ وُجد في كلام الأقدمين ما يناسب الواقع، ويقارب روح الشرع استؤنس به – تأكيدًا للتواصل والاستمرارية بين أجيال الأمة – دون أنْ يُرفع إلى مستوى النص الشرعي، أو يعتبر فتوى في القضية المتناولة، ولا غضاضة إذا كان سلفنا لا يملكون جوابًا لإشكاليات لم يعيشوها، ووقائع لم تخطر لهم على بال.

12- اختبار الفقه في الواقع العملي، فلكل حكم فقهيٍّ أثر في الواقع قد يكون إيجابيًّا إذا كان استخلاص الفتوى تم وفقًا لقواعد منهجيَّة ضابطة، وقد يحدث خلل في أيّ مستوى من المستويات، فيكون الأثر المترتب على الفتوى أو على الحكم في الواقع أثرًا سلبيًّا، فتجب مراجعته للتأكد والتحرير، وبذلك تكون عملية استنباط الأحكام وتقديم الفتاوى عبارة عن جدل متواصل بين الفقه والواقع، فالواقع مختبر يستطيع أنْ يبيِّن لنا ملاءمة الفتوى أو حرجها.

الأسئلة الكبرى:

إنَّ الفقيه الذي سيتناول فقه الأقليات، يحتاج إلى التأمل في الأسئلة الكبرى التي يثيرها هذا الموضوع؛ ليحسن تنقيح المناط، ويصيب حكم الله تعالى في الموضوع ما استطاع، ومن هذه الأسئلة:

كيف يجيب أبناء الأقليَّة بدقة تعكس الخاص بهم والمشترك مع الآخرين عن السؤالين: مَنْ نحن؟ وماذا نريد؟

ما النظم السياسية التي تعيش «الأقلية» في ظلها؟ هل هي ديمقراطية أم وراثية، أم عسكرية؟

ما طبيعة الأكثريَّة التي تعيش الأقلية بينها، أهي أكثريَّة متسلطة تستبد بها مشاعر الهيمنة والتفرد؟ أم هي أكثريَّة تعمل على تحقيق توازن متحرك تحكمه قواعد مدروسة تقدم ضمانات للأقليَّات؟ وما حجم تلك الضمانات؟ وما آليات تشغيلها؟

ما حجم هذه الأقلية التي يراد التنظير الفقهي لها على المستويات المختلفة، البشريَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة؟

ما طبيعة التداخل المعاشي بين أطراف المجتمع؟ هل تتداخل الأقليَّة مع الأكثريَّة في الموارد والصناعات والمهن والأعمال والحقوق والواجبات أو أنَّ هناك تمايزًا من خلال سياسات تسعى إلى إيجاد وتكريس الفواصل في هذه الجوانب؟

ما طبيعة الجغرافيا السكانية؟ هل هناك تداخل؟ أم أنَّ هناك فواصل وعوازل طبيعيَّة أو مصطنعة؟ وهل هناك موارد طبيعية خاصَّة بالأقليَّة أو بالأكثريَّة؟ أم أنَّ هناك مشاركة في ذلك؟

هل الأقلية تتمتع بعمق حضاري وهويَّة ثقافيَّة تؤهل – ولو في المدى البعيد – للهيمنة الثقافيَّة؟ وما أثر ذلك لدى الأكثريَّة؟

هل للأقلية امتداد خارج حدود المواطن المشترك، أم هي أقليَّة مطلقة لا امتداد لها؟ وما تأثير ذلك في الحالتين؟

هل للأقليَّة فعاليَّات وأنشطة تحرص على التميُّز بها؟ وما تلك الفعاليَّات؟

هل تستطيع ممارستها بشكل عفوي وتلقائي، أم لا بد من قادة ومؤسسات تساعدها على تنظيم ممارستها لتلك الفعاليات؟

ما الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات أو التنظيمات أو القيادات في حياة الأقلية؟ هل هو تسليط مزيد من الضوء والتركيز على هويتها الثقافية؟

هل تصبح هذه المؤسسات وسيلة لتكوين شبكة من المصالح، قد تساعد على استمرار التركيز على خصوصيات الأقلية، بأنَّ الخصوصية الثقافية هي المبرر والمسوغ لاعتبارها أقلية؟

هل ستوصل هذه المؤسسات – دون أنْ تشعر- أبناء الأقليَّة إلى طرح سؤال خطير حول مدى قيمة وأهمية هذه الخصوصيات، ولم لا نتجاوزها فنريح ونستريح، أو نعمل على إقناع الأكثرية بها؟!

إذا كانت الأقلية تمثل مزيجًا من جذور تاريخية وعرقية مختلفة، فكيف يمكن تحديد معالم هويتها الثقافية دون الوقوع في خطر دفع جمهورها إلى حالة الذوبان في الآخر أو الانكفاء على الذات؟

كيف يمكن إيجاد الوعي الضروري لتَجاوز الأقلية ما قد يحدث من ردود أفعال لدى الأكثرية، وامتصاص سلبيات هذه الأمور دون التفريط بإيجابياتها؟

كيف يمكن إنماء الفعاليات المشتركة بين الأقلية والأكثرية؟ وما المستويات التي يجب ملاحظتها في هذه المجالات؟

كيف يمكن الوصول والفصل بين مقتضيات المحافظة على الهوية الثقافية «الخاصَّة» والهوية الثقافية «المشتركة».

ماذا على الأقلية أنْ تفعل لتمييز ما يمكن أنْ يتحول إلى مشترك من أجزاء ثقافتها؟ وما الذي تستطيع أنْ تتبناه من المشترك المأخوذ من ثقافة الأكثرية؟ وما دور الأكثرية في هذا؟

وبناءً على هذه التوضيحات المتعلقة بالمنهج، وبتحقيق المناط، وبحجم الأسئلة المثارة، نستطيع التأكيد على أنَّ الكثير من الاجتهادات الفقهية القديمة التي نشأت في عصر الإمبراطوريات لن تسعفنا كثيرًا في تأسيس فقه أقليات معاصر، مع احترامنا لتلك الاجتهادات، وإقرارنا بفائدة البعض منها في حدوده الزمانية والمكانية. بل يلزمنا الرجوع إلى الوحي والتجربة الإسلاميَّة الأولى، مع الاستئناس بأقوال بعض المجتهدين الذين عبروا عن الروح الإسلاميَّة، وتحرروا من قيود التاريخ أكثر من غيرهم، دون اعتبار أقوالهم مصدرًا مؤسسًا لقاعدة شرعية.

قاعدة في علاقة المسلمين بغيرهم:

لقد تضمنت آيتان من القرآن الكريم قاعدة ذهبية في علاقة المسلمين بغيرهم، هما قول الله تعالى: ]لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ [الممتحنة:8،9].

قال ابن الجوزي: «هذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإنْ كانت الموالاة منقطعة عنهم»([41]).

وقال القرطبي: «هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم، قوله تعالى أنْ تبروهم أيَّ لا ينهاكم الله أنْ تبروا الذين لم يقاتلوكم…»([42]).

وأكد ابن جرير عموم الآية في غير المسلمين من كل الأديان والملل والنحل، فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول مَنْ قال: عني بذلك: ]لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ[ من جميع أصناف الملل والأديان أنْ تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. إنَّ الله عز وجل عمَّ بقوله: ]الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ[ جميع مَنْ كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض»([43]).

وفسر جُلُّ المفسرين «القسط» الوارد في الآية بأنَّه العدل، لكن القاضي أبو بكر بن العربي أعطاه معنى آخر، باعتبار أنَّ العدل واجب على المسلم تجاه الجميع أعداءً وأصدقاءً؛ لقوله تعالى: ]وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ [المائدة:8] أمَّا القسط في هذه الآية فهو – عند ابن العربي- الإحسان بالمال: «وتقسطوا إليهم»: أيّ تعطوهم قسطًا من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به العدل، فإنَّ العدل واجب فيمَنْ قاتل وفيمَنْ لم يقاتل، قاله ابن العربي([44]).

لقد حددت هاتان الآيتان الأساس الأخلاقي والقانوني، الذي يجب أنْ يعامل به المسلمون غيرهم، وهو البر والقسط لكل مَنْ لم يناصبهم العداء، وكل النوازل والمستجدات ينبغي محاكمتهما إلى ذلك الأساس. وما كان للعلاقة بين المسلمين وغيرهم أنْ تخرج عن الإطار العام والهدف الأسمى الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وهو قيام الناس بالقسط: ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[ [الحديد:25] فقاعدة «القيام بالقسط» قاعدة مطردة، سواء تعلق الأمر بإعطاء غير المسلمين حقوقهم، أو سعى المسلمين إلى أخذ حقوقهم.

الأمة المُخرجة:

وبينت آية من الكتاب الكريم اثنتين من خصائص أمة التوحيد هما: الخيرية والإخراج، قال تعالى: ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[ [آل عمران:110] فهذه الآية تدل على أنَّ خيرية هذه الأمة تتمثل في أنَّ الله تعالى أخرجها للناس لتُخرجهم من الظلمات إلى النور، فهي أمة مُخرَجة بفتح الراء مخرِجة بكسره، لا تنفك خيريتها عن دورها الرسالي على هذه الأرض، المتمثل في «إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى» كما لخصه ربعي بن عامر رضي الله عنه أمام كسرى.

وقد بيَّن المفسرون من السلف ومن المتأخرين على حدٍّ سواء، الارتباط بين معنى الخيرية والإخراج، عن عكرمة في تفسير الآية قال: «خير الناس للناس، كان من قبلكم لا يأمن هذا في بلاد هذا، ولا هذا في بلاد هذا، فكلما [أينما] كنتم أمن فيكم الأحمر والأسود، فأنتم خير الناس للناس»([45]) وقال ابن الجوزي: «كنتم خير الناس للناس»([46]) وقال ابن كثير «المعنى أنَّهم خير الأمم وأنفع الناس للناس»([47]) وقال النحَّاس: والتقدير على هذا: «كنتم للناس خير أمة» ([48]) ؛ وقال البغوي: «أيّ أنتم خير أمة للناس»([49]) وزاد أبو السعود الأمر توضيحًا فقال: «أيّ كنتم خير الناس للناس، فهو صريح في أنَّ الخيرية بمعنى النفع للناس، وإنْ فُهم ذلك من الإخراج لهم أيضًا، أيّ أُخرجت لأجلهم ومصلحتهم»([50]) وهو المعنى الذي استوحاه الخطيب فقال: «من رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها، ولا تستأثر به حين يقع ليدها، بل تجعل منه نصيبًا تبرُّ به الإنسانية كلّها»([51]).

إنَّ أمة هاتان أخص خصائصها لا يمكن أنْ تحدها أرض، أو يختص بها مكان، بل لا بد أنْ تخرج إلى الناس، وتبلغهم رسالة الله إلى العالمين. فأيّ كلام بعد ذلك عن «دار إسلام» أو «دار إسلام» و«دار حرب» – بالمعنى الجغرافي لهذين المصطلحين- إنّما هو ضرب من التكلف وتضييق لآفاق الرسالة.

بل إنَّ مفهوم «الأمة» في شرعنا لا يرتبط بالكم البشري أو الحيز الجغرافي أصلاً، وإنما يرتبط بالمبدأ الإسلامي، حتى إنَّ تجسد ذلك المبدأ في شخص واحد؛ ولذلك استحق إبراهيم عليه السلام وصف «الأمة» في القرآن الكريم؛ لقنوته لله وشكره لأنعمه: ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ [النحل:120، 121].

وقد أدرك بعض علمائنا الأقدمين المغزى الذي نقصد إليه هنا، فربطوا تلك التحديات بإمكان إظهار الإسلام وأمن المسلمين فقط، فليست للإسلام حدود جغرافية، ودار الإسلام هي كل أرض يأمن فيها المسلم على دينه، حتى لو عاش ضمن أكثرية غير مسلمة، ودار الكفر هي كل أرض لا يأمن فيها المؤمن على دينه، حتى لو انتمى جميع أهلها إلى عقيدة الإسلام وحضارته.

قال الكاساني: «لا خلاف بين أصحابنا [الأحناف] في أنَّ دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها»([52]). أمَّا دار الإسلام فقال القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن: «تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها»([53]) وروى ابن حجر عن الماوردي رأيًا ذهب فيه إلى أبعد من ذلك، فاعتبر أنَّ الإقامة في دار الكفر يستطيع المسلم إظهار دينه فيها أولى من الإقامة في دار الإسلام؛ لما في ذلك من القيام بوظيفة جذب الناس إلى هذا الدين وتحسينه إليهم، ولو بمجرد الاحتكاك والمعايشة: «قال الماوردي: إذا قدر [المسلم] على إظهار الدين في بلد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الراحة منها، لما يُترجى من دخول غيره في الإسلام»([54]).

الانتصار والإيجابية:

ومما امتدح الله تعالى به عباده المؤمنين الإيجابية والانتصار لحقوقهم، ورفض البغي والظلم، وعدم الرضا بالمذلة والهوان. قال تعالى: ]إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا[ [الشعراء:227]، وقال تعالى: ]وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ[ [الشورى:39]، قال ابن الجوزي معلقًا على هذه الآية الأخيرة: «ليس للمؤمن أنْ يذل نفسه»([55])، وقال ابن تيمية: «…وضد الانتصار العجز، وضد الصبر الجزع، فلا خير في العجز ولا في الجزع، كما نجده في حال كثير من الناس، حتى بعض المتدينين إذا ظُلموا أو رأوا منكرًا، فلا هم ينتصرون ولا يصبرون، بل يعجزون ويجزعون»([56]).

فأيَّ رضا من المسلمين بالدون، أو بالمواقع الخلفية، وأيّ سلبية وانسحاب من التفاعل الإيجابي مع الوسط الذي يعيشون فيه، يناقض مدلول هاتين الآيتين الداعيتين إلى الإيجابية والانتصار.

تحمل الغبش:

ولو اقتضت المشاركة الإيجابية تحمل نوع من الغبش الذي لا يمس جوهر العقيدة وأساسيات الدين، فهو أمر مغتفر إنْ شاء الله؛ لأنَّ تحقيق الخير الكثير المرجو متعذر بدونه، وليس هذا الأمر بجديد على الفقه الإسلامي، بل هو أمر قبله علماء الإسلام منذ نهاية الخلافة الراشدة وبداية الملك، فقد وضع الواقع الجديد أهل الخير أمام أحد خيارين: إمَّا المشاركة الإيجابية مع قبول تنازلات يمليها واقع الظلم المتغلب، وإمَّا السلبية والانسحاب وترك الأمة في أيدي الظلمة، فاختاروا الخيار الأول إدراكًا منهم لإيجابية الإسلام ومرونة تشريعاته.

وانسجامًا مع هذا المنطق تقبَّل ابن حجر سؤال الإمارة والحرص عليه – رغم نهي السنَّة عن ذلك – إذا كانت حقوق المسلمين ومصالحهم معرَّضةً للإهدار والضياع، فقال: «مَنْ قام بالأمر [ الإمارة ] عند خشية الضياع يكون كمَنْ أُعطي بغير سؤال، لفقد الحرص غالبًا عمّن هذا شأنه، وقد يُغتفر الحرص في حق من تعيَّن عليه لكونه يصير واجبًا عليه»([57]).

عبرة من الهجرة إلى الحبشة:

وتتضمن التجربة الإسلاميَّة الأولى مثالاً على لجوء المسلمين إلى بلاد الكفر لحماية دينهم، هو الهجرة إلى الحبشة، ولهذا المثال أهمية خاصَّة لأنَّه وقع في عصر الاستضعاف الشبيه بحال المسلمين الآن، كما أنَّه وقع في عهد التشريع، مما يضفي مغزى تأصيليًّا على الدروس والعبر المستخلصة منه.

وقد وقعت حادثة في أثناء تلك الهجرة، تحمل دلالة كبرى على ما يستطيع المسلمون المهاجرون فعله، لحماية دينهم ورعاية مصالحهم وكسب ودِّ غيرهم، واكتسابه للإسلام.

أورد الإمام أحمد بصيغ مختلفة وفي مواضع متعددة من مسنده تفاصيل هذه القصة الطويلة([58])، وخلاصتها أنَّ قريشًا أرادوا مضايقة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة محملين بهدايا للنجاشي، ورشاوى لبطارقته، في محاولة لشراء الذمم من أجل تسليم المسلمين المستضعفين إليهم.

وتكلم عمرو وعبد الله بين يدي النجاشي فقالا: «أيّها الملك: إنَّه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع ولا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فقالت بطارقته: صدقوا أيّها الملك. فأسْلِمهم إليهما فليردانهم إلى بلادهم وقومهم». لكن النجاشي كان رجلاً عادلاً، ولم يكن ليقبل الحكم غيابيًّا على مَنْ لم يسمع حجته، فأمر بإحضار المسلمين «فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا r كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ليسألهم، فقال ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت [أم سلمة راوية الحديث] فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيَّها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحِّدَه ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أنْ نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – قالت: فعدَّد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعدا علينا قومنا فعذبونا ففتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان. وأنْ نستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث. ولما قهرونا وظلمونا وشقُّوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على مَنْ سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك». وتوضح رواية أخرى أنْ جعفر لما دخل على النجاشي خالف العرف السائد الذي يقضي بالسجود للملك «فسلم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنَّا لا نسجد إلا لله U».

وانتهت المناظرة بانتصار المسلمين، واقتناع النجاشي بعدالة قضيتهم، ورجع رسولاَ قريش من عند النجاشي شرَّ مرجع «فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاء به» حسب تعبير أم المؤمنين أم سلمة.

ثم توطدت العلاقة بين المسلمين وذلك الملك المسيحي إلى درجة أنَّهم لجوا في الدعاء له بالنصر حين ظهر مَنْ ينازعه ملكه، قالت أم سلمة: «ودعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده».

وكانت النتيجة المنطقية لتلك العلاقة الوثيقة أنْ اعتنق النجاشي الإسلام في نهاية المطاف.

خـــــلاصات:

بناءً على ما اتضح من موازين الوحي، وخصائص أمة التوحيد، ومن المحددات المنهجية اللازمة ثم من تجربة المسلمين الأوائل في الحبشة، نستطيع التوصل إلى الخلاصات التالية:

1- إنَّ وجود المسلمين في أيّ بلد يجب التخطيط له باعتباره وجودًا مستمرًّا ومتناميًا، لا باعتباره وجودًا طارئًا أو إقامة مؤقتة أملتها الظروف السياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي ولا حجة في رجوع المهاجرين من الحبشة؛ لأنَّ الهجرة كانت واجبة في صدر الدعوة وبناء المجتمع الجديد، ثم سقط ذلك الوجود بالفتح. كما قال r: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»([59]) كما أنَّ رجوعهم كان مواصلة لهجرة جديدة؛ لأنَّ مكة هي موطنهم.

2- ينبغي لأبناء الأقليات المسلمة ألا يقيدوا أنفسهم باصطلاحات فقهية تاريخية لم ترد في الوحي مثل «دار الإسلام» و«دار الكفر»، وعليهم أنْْ ينطلقوا من المنظور القرآني: ]إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[ [الأعراف:128] ]وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[ [الأنبياء:105].

3- من واجب المسلمين أنْ يشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية بإيجابية، انتصارًا لحقوقهم، ودعمًا لإخوتهم في العقيدة أينما كانوا، وتبليغًا لحقائق الإسلام، وتحقيقًا لعالميته. ولقد قلنا إنَّ ذلك «من واجبهم»؛ لأنَّنا لا نعتبره مجرد «حق» يمكنهم التنازل عنه، أو «رخصة» يسعهم عدم الأخذ بها.

4- كل منصب أو ولاية حصل عليها المسلمون بأنفسهم، أو أمكنهم التأثير على مَنْ فيها من غيرهم، تُعَدُّ مكسبًا لهم من حيث تحسين أحوالهم، وتعديل النظم والقوانين التي تمس صميم وجودهم، ولا سيما التي لا تنسجم مع فلسفة الإسلام الأخلاقية، ومن حيث التأثير على القرارات السياسية ذات الصلة بالشعوب الإسلاميَّة الأخرى.

5- كل ما يعين على تحقيق هذه الغايات النبيلة من الوسائل الشرعية فهو يأخذ حكمها، ويشمل ذلك تقدم المسلم لبعض المناصب السياسية، وتبنِّي أحد المترشحين غير المسلمين – إذا كان أكثر نفعًا للمسلمين، أو أقل ضررًا عليهم – ودعمه بالمال، فقد أباح الله تعالى برهم وصلتهم دون مقابل، فكيف إذا ترتب على ذلك مردود واضح ومصلحة متحققة. وفي تفسير ابن العربي للفظ «القسط» ما يمكن الاستئناس به.

6- إنَّ انتزاع المسلمين لحقوقهم في بلد يمثلون أقلية فيه، وتفاعلهم الإيجابي مع أهل البلد الأصليين، يقتضي منهم تشاورًا وتكاتفًا واتفاقًا في الكليات، وتعاذرًا في الجزئيات والخلافيات. ولنا في سلفنا المهاجرين إلى الحبشة أسوة حين اجتمعوا وتشاوروا حول أمثل الصيغ للرد على الموقف الحرج.

7- يحتاج أبناء الأقليات المسلمة إلى ترسيخ الإيمان بالله، وتدعيم الثقة بالإسلام، حتى لا يدفعهم التفاعل مع غيرهم إلى تنازلات تمس أساس الدين مجاراة لعرف سائد، أو تيار جارف، وفي رفض جعفر السجود للنجاشي – كما فعل خصماه وكما يقضي العرف- أسوة في هذا السبيل.

8- تحتاج الأقليات المسلمة إلى حسن التعبير عن حقائق الإسلام الخالدة ونظام قيمه الإنساني الرفيع، كما فعل جعفر في خطبته البليغة التي أوجز فيها أمهات الفضائل الإسلاميَّة، وأوضح الفرق بينها وبين الحياة الجاهلية، وبذلك لا يكسب المسلمون تعاطف الناس فقط، بل يكسبون الناس أنفسهم للالتحاق بركب التوحيد.

9- إنَّ فن الإقناع وعلم العلاقات العامة لهما دور يحسن الانتباه له، فالكلام الذي ختم به جعفر خطبته يدخل في هذا السياق: «خرجنا إلى بلدك واخترناك على مَنْ سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نُظلم عندك أيّها الملك»، وبه نختم هذه الملاحظات التي نرجو أنْ يجد فيها طالب الحق ما يعينه على حسن تصور الحكم الشرعي في هذا الأمر، وتجد فيها الأقليات الإسلاميَّة ما يرفع عنها الحرج، ويدفعها إلى مزيد من الإيجابية والتضحية في خدمة الإسلام وحمله إلى العالمين.

***

 

 

 

س4: هل هناك فرق بين الاجتهاد في أمريكا الشمالية وبلاد المسلمين؟

ج4:

 

س5: هل هناك مؤهلات للمجتهد حتى يتمكن من ممارسة الاجتهاد؟ ما هي؟

ج5: من (الاجتهاد والتقليد في الإسلام):  (1)

من ص(33) إلى ص(42)

 

 شروطه

عرفوا الشروط بأنّها: مَا يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته. ([60])

والمراد بشروط الاجتهاد: تلك الأمور التي لا بد من توفرها في المكلف ليتمكن من الاستدلال بالدليل الشرعيّ على الحكم.

وهذه الأمور التي تمكنه من هذا، منها مَا يعود إلى قدرته الشخصيّة واستعداده الفطري، ومنها مَا يتعلق بالعلوم التي لا بد من توفرها له، لأنه بدونها لن يستطيع الاجتهاد، ولن يتمكن منه.

  • الشروط الشخصيّة:

أمَّا مَا يتعلق بشخصه فقد اشترطوا فيه:

أولا: البلوغ والعقل وهما شرطان عامان يشترطان باعتبارهما مناطًا للتكليف ولما كان «الاجتهاد» من الأمور التكليفيّة سواء قلنا: إنّه واجب، أو مندوب، فإن من المناسب ذكر البلوغ والعقل كشرطين لمشروعيّته ([61]).

ثانيًا: واشترط بعضهم الحريّة والذكورة، والصحيح عدم شرطيتهما، لأنّ الكثيرين من علماء التابعين كانوا يرجعون إلى فتاوى نافع مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس وكانا رقيقين ([62]). ورجوع فقهاء الصحابة إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وغيرها من أزواج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر شائع ومعروف ([63]).

ثالثًا: شدة الفهم، أو مَا عبر عنه صاحب جمع الجوامع ﺑ «فقيه النفس» وشرحه الجلال المحلي بقوله: أي: شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام.([64])

وقال الإمام الرازي: «أن يكون عارفًا بمقتضى اللفظ ومعناه».([65])

أما الماوردي فقد كان أوضح في بيان هذا الشرط حيث اشترط أن يكون له من الفطنة والذكاء مَا يصل به إلى معرفة المسكوت عنه من إمارات المنطوق به. فإن قلّت فيه الفطنة والذكاء لم يصح منه الاجتهاد.([66])

 ولعلّ المراد أن يكون فهم نصوص الشارع له ملكة يقتدر بها على فهم المعنى المراد من اللفظ. ([67]) وأن يدرك مَا إذا كان هذا اللفظ مجردًا عن القرائن، أو أنَّ له قرينه تصرفه عن ظاهرة؛ سمعيّة، أو عقليّة.

رابعًا: الإيمان هُوَ الشرط الرابع من الشروط العائدة لشخص المجتهد.

والحق؛ إنّ هذا الشرط من الشروط المعروفة بداهة، ولم يكن هناك داع لذكره لولا أن بعض الأصوليّين قد افترضوا وجود المجتهد الكافر ([68])- من ناحية.

خامسًا: العدالة، وذلك بأن يجتنب جميع المعاصي القادحة في العدالة ليمكن قبول فتواه؛ فمن لم يكن عدلا لا تقبل فتواه. وهذا الشرط كما ترى ليس شرطًا للتمكن من الاجتهاد؛ بل هُوَ شرط لقبول مَا يؤديه اجتهاده إليه عنه ([69]). وبعضهم اشترط أن يكون المجتهد عالمًا بعلم الكلام كله، مؤمنًا عن استدلال لا عن تقليد ([70]).

والحق؛ إنّ الإنسان مَا دام مؤمنا بالله -تبارك وتعالى- وصفاته وما يستحقه، ومؤمنًا برسل الله -تبارك وتعالى- وما جاءوا به، وجازمًا بضروريّات الإسلام فلا يشترط معرفة بدقائق علم الكلام وما فيه.

هذه أهم الشروط التي أطلقنا عليها تجوزًا الشروط المتعلقة بشخص المجتهد، أو الشروط الشخصيّة.

  • الشروط العلميّة:

ونعني بها: العلوم التي يشترط إتقانه لها، وتمكنه منها، ليكون مؤهلا لممارسة الاجتهاد وهي:

أولا: إتقان اللغة العربيّة:

فالكتاب والسنّة هما أصل التشريع وقد وردا بلغة العرب، أمّا القرآن الكريم فلقوله تعالى ] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ (الشعراء:192-165).

وأما السنّة فلقوله تعالى: ]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ[ (إبراهيم:4).([71]) فلا بد للمجتهد من معرفة مَا يمكنه من تفسير آيات الكتاب الكريم، والسنّة النبويّة – من النحو واللغة والتصريف والبلاغة، ليتمكن من استخراج الأحكام، ومعرفة محامل الكتاب والسنّة ومعانيهما، وما كان عاما أريد به العموم، أو عامًا أريد به الخصوص، وليعرف المشترك، والنص والظاهر والمترادف، وغير ذلك مما لا يمكن معرفته من غير معرفة اللغة العربيّة، وأساليب البيان العربيّ. وليس المراد أن يتمكن من علوم اللغة العربيّة تمكن المختصين بها، المنقطعين لدراستها وحدها؛ بل يكفيه منها مَا يمكنه مما ذكرنا ([72]).

ثانيًا: إتقان علوم القرآن:

فعلمه بالكتاب من أهم مَا يشترط له، فإن قصر في معرفة آيات الأحكام -خاصّة- أو شيء منها: فليس بأهل لممارسة «الاجتهاد».

وليس المطلوب أن يتقن كل علوم القرآن الكريم، فذلك مما تقصر دونه الأعمار وإنّما يكفيه أن يكون عالمًا بآيات القرآن الكريم المتعلقة بالأحكام الشرعيّة والدالة عليها – ليستنبط منها الأحكام.

فعليه أن يعرف معانيها اللغويّة مفردات وتراكيب، ويعرف عامها وخاصها ومجملها ومبينها، والمطلق منها والمقيد، والمتقدم نزولا والمتأخّر، ويلم بأسباب النزول، والعلل التي نيطت بها الأحكام، ومقاصد وحكم التشريع، ووجود الدلالة وأسباب اختلافها وفوائد الاختلاف وأنواع الأساليب القرآنيّة، والناسخ والمنسوخ.

الآيات الواجب معرفتها:

ولعلّ من المفيد أن نشير إلى اختلاف العلماء في تحديد عدد الآيات المطلوب من المجتهد – العلم بها على الشكل الَّذِي ذكرنا.

  • نص الإمام الغزالي وتبعه الفخر الرازي: «على أن آيات الأحكام هِيَ خمسمائة آية» ([73]).
  • ونقل عن ابن المبارك: «إن عددها تسعمائة آية» ([74]).
  • ونقل عن أبي يوسف: «إن عددها مائة وألف آية» ([75]).
  • وقيل: أكثر من ذلك ([76]).

قلت: وهذا التحديد -نفسه- لا يمكن القول به إلا بعد اجتهاد في آيات الكتاب الكريم.

قال الزركشي -بعد أن ذكر قول الغزالي ومن تابعوه-: «ولعلّ مرادهم؛ أي: بتحديد العدد الآيات المصرح بها في الحكم، وإلا فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير من الأحكام» ([77]).

وقال الشوكاني: «لعلهم قصدوا بذلك: الآيات الدالة على الأحكام دلالة أوليّة بالذات، لا بطرق التضمن والالتزام» ([78]).

وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم: «إنّ اقتصار المقتصرين على العدد المذكور – إنّما هُوَ لأنّهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف، وجعلها خمسمائة آية» ([79]).

كيفيّة معرفة آيات الأحكام:

تعرف آيات الأحكام بأحد طريقتين:

أحدهما: مَا ذكر فيه الحكم صراحة نحو قوله تعالى: ]قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[ (الأنعام:151). وقوله: ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ[ (البقرة:173). وقوله: ]وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ[ (النساء:24) ونحو ذلك.

وأحيانًا يعرف الحكم من الصيغة مباشرة: نحو مَا ورد بصيغة الأمر أو النهي وذلك كثير في سورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام.

وثانيهما: مَا يؤخذ الحكم منه بطريق الاستنباط.

وهذا ينقسم بدوره إلى قسمين:

الأول: مَا يستنبط من آية مستقلة؛ لا يحتاج إلى ضم آية أخرى إليها ليفهم الحكم من مجموعهما: كاستنباط الإمام الشافعيّ صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: ]امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ[ (التحريم:11). وقوله تعالى: ]وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ[ (المسد:4).

واستنباطه عتق الأصل والفرع بمجرد الملك من قوله تعالى: ]وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا {92} إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا[ (مريم:92-93)، فجعل العبوديّة منافية للولادة – حيث ذكرت في مقابلتها، فدل على أنهما لا يجتمعان.([80])

والثاني: مَا يستنبط منه الحكم بعد ضم آية أخرى له: كاستنباط علي وابن عباس: – رضي الله عنهما- أن أقل الحمل ستة أشهر من آيتين: قوله تعالى: ]وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا[ (الأحقاف:15). بعد ضم قوله تعالى: ]وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[ (لقمان:14).

وعليه جرى الإمام الشافعيّ.([81])

وأما الإمام أَبُو حنيفة -فقد احتج بالآيتين على أن أكثر الرضاع سنتان ونصف (ثلاثون شهرًا)، ووجهه: إن الله -تبارك وتعالى- قدر بشيئين مدة واحدة، فانصرفت المدة بكاملها إلى كل واحد منهما، فلما قام النص في أحدهما، بقى الثاني على أصله – كالأجل الواحد للدينين، فإنه مضروب بكماله لكل واحد منهما ([82]).

ومثله استنباط الأئمة الشافعيّ ومالك وأبي حنيفة تحريم الاستمناء باليد من قوله تعالى: ]إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ[ (المؤمنون:6). مع قوله تعالى: – بعدها-: ]فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[ (المؤمنون:7) ([83]).

ثالثًا: العلم بالسنَّة:

أما السنَّة – فلا بد للمجتهد من العلم بأحاديث الأحكام ولا يتأتى له ذلك إلا إذا كان عالمًا بما اشتملت عليه مجاميع السنة: كالكتب الستة وما يلحق بها مشرفًا على مَا اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة. وأن يكون قادرا على تمييز الصحيح منها والحسن والضعيف.

بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة. ولا يشترط أن يكون حافظا لكل ذلك عن ظهر قلب، بل يكفي أن تكون لديه أصول مصححة لتلك المراجع المعتبرة، وأن يكون قادرًا على الرجوع إليها عند الحاجة عالمًا بمصطلحات القوم.([84])

وقد حاول بعض العلماء تحديد عدد الأحاديث التي لا بد للمجتهد من العلم بها.

 فقال بعضهم: «هِيَ خمسمائة حديث» ([85]).

وقال ابن العربيّ: «هِيَ ثلاثة آلاف حديث» ([86]).

ونقل عن أَحْمَد بن حنبل رحمه الله- قوله: «الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي».

 ونقل عن أَحْمَد بن حنبل رحمه الله- قوله: «الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- ينبغي أن تكون ألفا ومائتين». ([87])

وأنت ترى أن كل هذه التقديرات –لم تبن على أساس متين يعتمد عليه. وأن مَا ذكرنا هُوَ الأولى والأقرب وربما أراد من حدّدوا بالأعداد التي ذكرها أو مثلوا بنحو سنن أبي داود. ([88]) ويعينه على معرفة مواقع الأحاديث من أبوابها في مراجعها المعتمدة. ولذلك أضرب الكثيرون من الأصوليّين عن ذكر عدد أحاديث الأحكام، لأنّ ذلك لا يمكن القطع به إلا عن طريق الاستقراء التام، واكتفوا بالقول باشتراط معرفة المجتهد لما تتعلق به الأحكام من الأحاديث.([89])

رابعًا: العلم بمواقع الإجماع:

الشرط الرابع –من شروط الكفاءة العلميّة- للمجتهد: أن يكون عامًا بالمسائل التي وقع عليها الإجماع لئلا يفتي بما يخالف الإجماع، وذلك حرام.([90])

خامسًا: معرفة أصول الفقه:

وقد اعتبره الإمام الرازي أهم العلوم للمجتهد([91]) وهذا العلم هُوَ عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه –الذي تقوم عليه أركان بنائه. ([92]) فعلى من يريد التصدي لشرف الاجتهاد أن يعني بهذا العلم قدر طاقته، وأن يبذل في تحصيله غاية جهده([93])وقد أطنب الإمام الرازي ومن قبله الغزالي في امتداح «أصول الفقه» وبيان أهميته للمجتهد، أكثر من سائر العلوم المشترطة.

وذلك لأنّ من علم أحوال الأدلة الإجمالية من حيث دلالتها على الأحكام يعرف أحوال جزئيّاتها وهي الأدلة التفصيليّة من هذه الجهة، فإذا وجدها أمكنه الخوص فيها، واستنباط الأحكام منها على الصواب بقدر الوسع والطاقة فمن أحاط بهذا العلم، وأتقن قواعده ومسائله وكان جامعًا لوسائل الاجتهاد الأخرى متوفرة فيه شروطه، فإنه يتمكن من استنباط الأحكام من أدلتها مباشرة وهو منشرح الصدر.

أما من لم تتوفر فيه بقيّة الشروط –من متقني هذا العلم- فإنّه سيعرف به كيف يقارن بين المذاهب في الواقعة الواحدة ويتعلم طرق استدلال أصحابها على مذاهبهم، وبذلك يحصل على ملكة الترجيح لأقوى الآراء دليلا، وأوضحها نظرا ويخرج من دائرة التقليد المذموم شرعًا.

كما أن من تطول مارسته لعلم «أصول الفقه» مع الإتقان تتكون لديه القدرة على الحصول على أحكام بعض الوقائع بطريق «التخريج» على قواعد هذا العلم. وهذه مرتبة في الفقه لا يصل إليها إلا المجيدون. ([94])


 

 

س6:ماهي مجالات الاجتهاد وحدوده؟

ج6: من (الاجتهاد والتقليد في الإسلام):  (1)

من ص(29) إلى ص(32)

للاجتهاد الأحكام التكليفيّة التالية:

  • هو فرض كفاية في حالتين:

أولًا: على كل جماعة من المسلمين منفصلة عن غيرها، أو بعيدة عن جماعة فيها مجتهدون.

ثانيًا: كما يفترض على الكفاية أيضًا إذا كان في البلد أكثر من مجتهد، وأمكن استفتاء كل واحد منهم.

  • ويكون فرض عين في أربع حالات:

أولا: على كل مسلم وجد في نفسه الأهلية لأداء «الاجتهاد» وسنأتي على شروطه.

ثانيًا: ومنه اجتهاد المجتهد في حق نفسه فيما نزل به؛ لأنّ المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره، لا في حق نفسه، ولا في حق غيره.

ثالثًا: اجتهاد المجتهد في حق غيره إذا خيف فوات الحادثة دون حكم شرعيّ، فإن تضيق الوقت: تعين على الفور، وإن اتسع فعلى التراخي.

رابعًا: كما يتعين على كل مجتهد من المجتهدين توجه إليه صاحب النازلة بالاستفتاء، أو أحيلت إليه بصفته قاضيًا. ([95])

(ﺟ) ويكون مندوبًا في حالتين:

أولا: فيما يجتهد فيه المجتهد من غير النوازل يسبق معرفة حكمها قبل حدوثها.

ثانيًا: في الجواب عن استفتاء في نوازل يتوقع نزولها، ولم تنزل بعد.([96])

(د) ويكون محرمًا فيما ورد فيه نص، أو وقع عليه «إجماع»، فلا اجتهاد في ذلك. ([97])


 

س7: ماهي معوقات أو العقبات (الفردية والاجتماعية) أمام ممارسة الاجتهاد؟

ج7: من كتاب (الازمة الفكرية ومناهج التغيير):

بداية ونهاية ص56:

قضيّة التقليد والاجتهاد:

 قضيّة أخرى من قضايانا الحادة التي تطرح في كل زمان ومكان، الاجتهاد والمذهبيّة والامذهبيّة، كسر باب الاجتهاد، غلق باب الاجتهاد، إلى غير ذلك… قضيّة تحتاج إلى معالجة؛ لأنه كانت لها آثار تربويّة خطيرة في حياة الأمة.

 مثلا؛ وصف الجاحظ أمّة المسلمين في القرن الثالث بقوله: «أمة قد أصبحت تحمل عقليّة العوام، ونفسيّة العبيد، وطبيعة القطيع»؛ في الحقيقة هذا الوصف يصلح لنا، وقد وصف الجاحظ به الأمّة في تلك الفترة، وهي أمّة كانت لا تزال سيدة أمم الأرض والدولة الأولى في العالم، ومع ذلك كان يقول: «أمّتنا اليوم هِيَ تحمل عقليّة العوام، ونفسيّة العبيد، وطبيعة القطيع».

 هذه من أين جاءت؟ جاءت من قضيّة التقليد. وقضيّة التقليد في البداية؛ أجدادنا وأسلافنا أرادوها قضيّة اختيار للأمّة مؤقت. إن الأمّة كانت تمر بأزمة، حكامها يريدون أن يفعلوا مَا يشاءون ويريدون أن يستعينوا بطائفة من علماء الدنيا، وعلماء السوء حولهم يعرفونهم بكل شيء، فأرادت الأمّة أن تدافع عن دينها؛ فقالت: لا؛ أي شيء لم يرد في الكتاب أو السنّة، ولم يرد في أقوال هذه الأئمة الأربعة الذين يعتد بعلمهم ودينهم وورعهم وتقاهم مرفوض… يريدون أن يقفلوا الباب أمّا وعاظ السلاطين بهذه الطريقة، مَا كانوا يريدونها قضيّة تصبح هِيَ الشرع اللازم وتنسى آيات الكتاب وتنسى أحاديث النبي –صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتي عالم من «كبار علماء الحنفيّة» في القرن الرابع الهجري أَبُو الْحَسَن الكرخي ليقول: «كل آية أو حديث يخالف مَا عليه أصحابنا؛ فاعلم أنّه مئول أو منسوخ» فأصبح الأصل هُوَ المذهب الحنفيّ والفرع هُوَ الكتاب والسنّة. كانت هذه قضيّة في غاية الخطورة، وأزمة من أزمات العقل المسلم الحادة، فكيف تحولت القضيّة من أمر أريد به الاحتياط إلى أمر عادي وله آثاره النفسيّة والتربويّة على هذه الأمة؟

من كتاب (الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي):

بداية ص14، نهايةص16:

إن ” التقليد ” لا يعني – معرفيًّا – مجرد ” قبول قول الغير بلا حجّة ” كما عرّفه علماء أصول الفقه – ولا يعني مجرد ” محاكاة الغير السكونيّة التي وصفنا ، ومن المؤسف أن الكاتبين العرب قد تعاملوا مع هذا المفهوم أو ” الإشكاليّة ” من هذا المنطلق التقليدي فسارع من سارع إلى استيراد الإشكاليّة واستيراد الحل كما هي في وعائها الغربي وأخذ يروج لهما معا ، ويساجل الآخرين ويزايد عليهم بهما ، وبعض الإسلاميين منهم سارعوا تحت ضغط أطروحات الآخرين إلى إضفاء اللباس الشرعي من منطلق المقاربة أو توهم المماثلة وإجراء القياس مع إلغاء الفوارق الظاهرة أو عدم التنبّه لها ، ولكي لا تكتشف عقليّة التقليد الكامنة وراء ذلك حشرت مجموعة من الآيات  والأحاديث والأصول والفروع الفقهيّة الكامنة وراء ذلك وقطعت من سياقاتها لتصبح دليلا على صحة ” التعدديّة ” بمفهومها السائد والإفتاء بمشروعيّتها والموافقة على الأخذ بها ، وقد تكون كذلك أو لا تكون لكن الذي يستطيع أن يقرر ذلك عقل تجاوز مرحلة التقليد إلى الاجتهاد والإبداع ، عقل قادر على إدراك علاقة المفاهيم بالأنساق الحضاريّة ، وجهات قد تجاوزت قضايا السجال والمزايدات السياسيّة ، والموازنات الحزبيّة والطائفيّة ، وارتقت إلى مستوى الوعي بأزمة الأمّة وحقيقة مشكلاتها وامتلكت قدرة ما على تقديم الإجابات المناسبة عليها .

وحين نحاول الاقتراب من هذه القضية معرفيًّا نجد أن هناك جملة من الأبعاد لا بد من ملاحظتها ، ومنها على سبيل الإجمال :

1- إن ” التعددية ” من المدخل المعرفي قضيّة يمكن التعامل معها بعد التسليم بعدم أولويّة أي إنسان أو جماعة بشريّة في ادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة ، حتى  لو اعتقد أو اعتقدت في قرارة نفسها امتلاكها فعلا ، ذلك لأن الحقيقة – كما هي في ذاتها – والعلم الشامل لا يحيط به إلا من أحاط بكل شيء علما وهو الله تعالى ، أما البشر فهم المخاطبون بقول العالم الخبير : ” وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ” ([98]) ويقين الإنسان بامتلاك حقيقة ما ، لا يعطيه الحق بإعلان ذلك ورفض الحوار حوله ، ولا بمحاولة فرض ذلك على الآخرين ، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبة مخالفيه من مشركين وغيرهم بقوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ([99]) فمع يقين رسول الله بأنه على الحق في اعتقاده أن الرازق هو الله ، ومع أمر الله – تعالى – له بالإعلان عن هذا الإيمان لكنه في دعوته  للآخرين أمر باستعمال صيغة الشك والتخيير (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ؛ فإذا كان الأمر في قضية إيمانيّة بديهيّة كهذه يكون الحوار من منطلق التسوية بين الفريقين في إدراك الحقيقة أو نقيضها لفتح أبواب الحوار ، فما بالنا في المسائل الاجتهاديّة ، والأشكال التنظيميّة ونحوها ؟

إن الحقيقة سواء اخترنا الذهاب إلى وحدتها وهو الصحيح ، أو اخترنا القول الضعيف بتعدّدها فإن إدراك الناس للحقيقة لا خلاف بتعدّده ونسبيّته ، فالبشر يبلغهم العلم وتأتيهم البيّنات ويختلفون لاختلاف عمليّات إدراكهم للحقائق ووجوه إدراكهم لها ، لأسباب كثيرة منها الذاتي ومنها الموضوعي ، ومنها ما هو خارج عن الذات والموضوع معا مما لا مجال لتفصيلة الآن ، والتسليم بهذا المبدأ يستلزم الاعتراف بأن لجميع البشر الحق الكامل في الحياة والكرامة الإنسانيّة والحصول على الحقوق والقيام بالتكاليف ، وتوفير ضرورياتهم وحاجاتهم وتحسيناتهم واحترام ذلك كله مع توفير حقهم في كرامة الاختيار ، ولو اختلف فريق منهم مع الآخرين في وجوده إدراكه للحقيقة أو مسالكه إليها .

2- إن الإيمان بتعدديّة إدراك الحقيقة عند البشر يستلزم أن تكون وسيلة التفاعل الأساسيّة والتدافع بين البشر إنما هي الحوار القائم على التعارف ، ثم الاحترام فالفهم فالإقناع فاتخاذ المواقف أو تغييرها ليتحقق التدافع الحضاري بين الناس ، فلا إكراه في الدين ، ولا إكراه في المعرفة والعلم .

3- إن التسليم بتعدد إدراك البشر للحقيقة يحمل على التسليم بتعدد الرؤى وتنوع المصادر والمراجع المعرفيّة ، واختلاف الثقافات والحضارات والنماذج والأنساق المعرفيّة .

4- إن من المسلّم به بداهة أن – هناك – تنوّعًا بشريًّا في سائر الأمور الفطريّة في الألسن والألوان والعروق ، وذلك يستدعي تنوّعًا لا مناص منه في الأمور الاختياريّة كالدين والمذهب والنظم السياسيّة والاقتصاديّة والتعليميّة ونحوها . ويفترض أن يكون هذا التنوع مقبولا مؤدّيًا إلى التعارف والتآلف والتعاون إذا سادت قيم الحق والعدل ولم يقع طغيان أو استبداد .

5- إن التركيز على المدخل السياسي في فهم ” التعدديّة ” أوجد كثيرا من الغبش والاضطراب ، وجعل منها في الوطن العربي خاصة شعار تجزئة وتفكيك جديدين للمنطقة العربيّة ، وإذا كانت البنى التحتيّة قد دمرت وفككت في إطار محاولات التقليد في الحداثة وإرغام الأمّة على التضحية بكثير من قدراتها وإمكاناتها وحرياتها وحقوقها ، فقد يؤدي شعار التعدديّة في الإطار المطروح به حاليًا إلى تفكيك ما بقي من الروابط الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المنطقة تفكيكًا يسمح بإعادة تركيبها وفقا لمتطلبات الدور الإسرائيلي المنتظر في إطار النظام العالمي الجديد لجعل المنطقة العربيّة منطقة ” شرق أوسطيّة ” تذوب فيها أو تذاب ” الهويّة العربيّة ” والإطار الإسلامي لها ، لتكون قابلة لإعادة التكوين والصياغة بشكل يستوعب إسرائيل ، بل تأخذ إسرائيل فيه موقع القيادة .

س8: هل تظن أن المجتمع المسلم في أمريكا الشمالية متطلع إلى الاجتهاد أو هو من أولويّاته؟

ج8:

 

س9: ما هو تعريفك للإصلاح؟ وهل هناك صلة بينه وبين الاجتهاد؟

ج9:

([1]) انظر: المصباح المنير (1/155) ومختار الصحاح (114)، وتاج العروس (2/329).

([2]) انظر مجموع مهمات المتون – متن الشافية (ص 502).

([3]) أخرجه أبو داود في باب الوتر، والنسائي في الزكاة، والدارمي في الصلاة، وأحمد في مسنده (ﺟ 3 ص 358).

([4]) راجع: التاج (2/329).

([5]) راجع: المفردات (101)، ومعجم ألفاظ القرآن (1/116).

([6]) التاج في الموضع السابق وفي الحديث كلام كثير سنورده في موضعه.

([7]) للكلمة استعمالات أخرى كثيرة تجنبت إيرادها حذر الإطالة فلنراجع في مظانها.

([8]) إذا أطلقت كلمة «الاجتهاد» من غير تقييد – فإنما يراد بها: الاجتهاد في الفروع، كما أن قولهم: «استفراغ الفقيه» – أرادوا به: إخراج غير الفقيه، فلا عبرة باستفراغه وسعه. و«الفقيه»: من صار الفقه ملكة له وسجية، وتهيأ لمعرفة الأحكام الشرعيّة من مصادرها. انظر جمع الجوامع بهامش حاشيته «الآيات البينات» (4/242) ويريدون «ببذل الوسع أو استفراغه»: أن يوقن الباذل بالعجز عن بذل المزيد. انظر كشف الاسرار (4/113)، والمستصفى (2/350) وقد نقل السيوطي عن الإمام الشافعي: أنه نص على أن المجتهد لا يقول في المسألة: «لا أعلم» حتى يجهد نفسه في النظر فيها ولم يقف، كما أنه لا يقول: «أعلم ويذكر ما علمه حتى يجهد نفسه ويعلم» انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض – مخطوطة الأزهر (1856) (أصول ورقة 70).

([9]) راجع: المستصفى (2/350).

([10]) انظر: المحصول (ﺟ 2) مخطوط.

([11]) راجع: مسلم الثبوت (2/379) بحاشية المستصفى، والتحرير (4/179)، وشروح المنار وحواشيه (823)، وشرح مختصر ابن الحاجب (2/289)، وأحكام الإحكام للآمدي (4/162 ﺟ 1) الرياض.

([12]) كالإمام الرازي في المحصول – الموضع السابق والزركشي في البحر المحيط (3/281) والأرموي في الحاصل (3/949) – لم يطبع بعد، والإبهاج على شرح المنهاج (3/168).

([13]) كمعظم من ذكرنا في (1).

([14]) كالأرموي في الحاصل، والبيضاوي في المنهاج – فإنهما عرفاه بأنه: «اسفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية»، ومطلق الإدراك الشامل لما يدرك بطريق العلم أو الظن، فانظر نفس الموضوعين.

([15]) المستصفى (2/350). ووافقه البزدوي في أخذ «العلم» قيدًا. فانظر الكشف (4/1134).

([16]) انظر الورقات بشرح ابن قاسم على شرح المحلي بهامش «تنقيح الفصول» (201-202) وممن أخذ «العلم» قيدًا في التعريف ابن قدامه في روضة الناظر، فانظر (ص 190 ط). السلفيّة في القاهرة.

([17]) انظر: الآيات البينات (4/245) وما بعدها.

[18] – في الحديث والاستدلال له وإزالة الجهالة عنه راجع كتابنا “الاجتهاد والتقليد”، القاهرة، دار الأنصار ط 1 (ص 23-24) ومباحث الاجتهاد في المحصول.

[19] – انظر الكتاب بكامله في إعلام الموقعين.

[20] – انظر الرسالة للإمام الشافعي (ص 476).

[21] – انظر إعلام الموقعين (1/54) وجامع بيان العلم (2/134).

[22] – الحديث.

([23])  انظر المحصول في علم أصول الفقه بتحقيقنا الطبعة الثانية مؤسسة الرسالة 1992 بيروت, 6/6 المتن والهامش.

([24]) قال الرافعي -من أئمة الشافعية- الخلق كالمتفقين على أنّه لا مجتهد اليوم. قال الزركشي: «لعلّه أخذه من كلام الرازي أو من قول الغزالى في الوسيط: قد خلا العصر عن المجتهد المستقل». انظر: إرشاد الفحول (223).

أمّا الرازي فقد قال: «… ليس في هذا الزمان مجتهد». انظر: المحصول (2/686) من مخطوطتنا -ومعلوم أن الغزالى توفي (سنة 505 هـ) والرازي (سنة 606).

بل قال صاحب فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: «إن الاجتهاد المطلق اختتم بالأئمة الأربعة، والاجتهاد في المذاهب بالعلامة النسفي». فانظر في (2/399).

وقال النووي: «ومن دهر طويل عدم المفتي المستقل، وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة» انظر المجموع (1/77)، والنووي توفي (سنة 676هـ).

وعن عدم سقوط فرض الكفاية عن الأمّة بوجود المجتهد المقيد؛ انظر ما قاله النووي في المجموع (1/78) وما نقله عن الآخرين.

([25]) صرح بذلك الصفي الهندي، حيث عبر بقوله: المختار عند الاكثرين: أنّه يجوز خلو عصر من العصور عن الذي يمكن تفويض الفتوى إليه سواء كان مجتهد مطلقا، أو كان مجتهدًا في مذهب المجتهد، ومنع منه الأقلون كالحنابلة. انظر الآيات البينات (4/276)، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/299) وممن أومأ إلى ذلك العضد في شرحه على مختصر ابن الحاجب (2/307)، والآمدي في الأحكام (4/233) ط الرياض .

([26]) انظر : مسلم الثبوت بشرحه (2/399).

([27]) كما صرح بذلك ابن الهمام في التحرير (4/240).

([28]) المصدر السابق.

([29]) انظر: تقريرات الشربيني على شرح وحاشية البناني على جمع الجوامع (2/389) وانظر: الآيات البينات (4/277 -278).

([30]) الحديث رواه أحمد في المسند، ومسلم عن ابن مسعود، على ما في الفتح الكبير (3/334) وانظر الآيات البينات (4/277)، وفواتح الرحموت (2/399).

([31]) انظر: تفاصيل مذهب الحنابلة في الموضوع وأدلتهم ومناقشتهم لادلة الآخرين في «أصول مذهب الإمام أحمد» للدكتور عبد الله التركيّ (636 وما بعدها، والإرشاد 222).

([32]) نقل ذلك الرافعي – على ما في (الإرشاد 222) وما بعدها، وهو أمر عجيب، فكيف يدعي الاتفاق على أمر فيه من الاختلاف كل هذا ؟! ثم إنَّ التسليم بجواز خلو العصر عن المجتهد – تسليم بجواز تفريط الأمّة كلها في فرض يأثم الجميع بتركه – إذا توافرت أدواته، وتحققت القدرة عليه ، وتيسرت سبله !!

([33]) روى هذا الحديث بطرق عدة منها البخارى ومسلم عن معاوية، وعن المغيرة وأحمد ومسلم عن جابر وأحمد عن معاوية، كما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان انظر : (الفتح 3/321).

([34]) أخرجه مسلم ومالك في الطهارة، والنسائي وابن ماجه في الزهد. انظر: (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 1/35).

([35]) أخرجه ابن ماجة وابو داود في الفتن، (المعجم 1/367)، ورواه أحمد والطبراني في الكبير، والحديث مشهور المتن وله أسانيد كثيرة. انظر: (كشف الخفا 488).

([36]) انظر : أحكام الآمدي (4/234).

([37]) أخرجه مسلم والترمذي في الإيمان، وابن ماجه في الفتن، وأبو داود في الرقان، وأحمد في المسند (جـ1 و جـ4)، على ما في المعجم المفهرس (1/148)، وأورده العجلوني في الكشف عن كثيرين؛ وقال نقلًا عن النجم: هو مشهور أو كتواتر. انظر: (333).

([38]) أخرجه البخاري في الصحيح في غير موضع، ومسلم والنسائي وأحمد والترمذي وابن ماجة، على ما في جامع بيان العلم (1/149)، ورواه الطبراني في الاوسط على ما في الفتح (1/351).

([39]) رواه أحمد في المسند، وابن حبان والحاكم، على ما في الفتح الكبير (3/10).

([40]) انظر: هامش جامع بيان العلم وفضله (2/119 و120)، وأعلام الموقعين (2/200) ط دار الجيل، وانظر: الكشف أيضا (333).

(49) ابن الجوزي، زاد المسير: 8/ 39.

(50) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 18/ 43.

(51) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 28/ 43.

(52) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 18/ 43.

(53) تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 472، وقال المحقق: إسناده صحيح.

(54) ابن الجوزي، زاد المسير: 1/ 355.

(55) الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير: 1/ 308.

(56) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 4/ 171.

(57) البغوي، معالم التنزيل: 1/ 266.

(58) أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن العظيم: 2/ 70.

(59) عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني: 4/ 548.

(60) الكاساني، بدائع الصنائع: 7/ 131.

(61) نفس المصدر والصفحة.

(62) ابن حجر، فتح الباري: 7/ 320.

(63) ابن الجوزي، زاد المسير: 7/ 122.

(64) ابن تيمية، التفسير الكبير: 6/ 59.

(65) ابن حجر، فتح الباري: 13 / 126.

(66) القصة بطولها وردت من طرق لا تصح: فبعضها يدور على مجالد بن سعيد الهمداني وهو ضعيف ليس حديثه بشيء، وبعضها يدور على ابن شهاب الزهري، وبعضها على أبي إسحاق السبيعي وكلاهما مدلس ولم يصرح بالسماع  وانظر في الأحاديث الطوال للطبراني[00014] ومستدرك الحاكم[03208] ومسند أحمد[01740] و [04400] و [22498] وإسحاق[01835](021) ومصنف ابن أبي شيبة[36629](36640) ومعجم الطبراني الكبير[01478] والمنتخب لعبد بن حميد[00550]. 

(67) لا هجرة بعد الفتح: به وبنحو لفظه روي في جامع البخاري[01834]  [02783]  [02825]  [03077]  [03078/03079]  [03189]  [03899]  [03900]  [04309]  [04310]  [04311]  [04312] ومسلم [01353/01]  [01863/04]  [01864/00] وابن حبان [03720]  [04592]  [04865]  [04867] وابن خزيمة[03050] وسنن أبي داود [02480]وابن ماجة [02116/01] والبيهقي الكبرى [09944](09724)  [17767](17545)  [17776](17554)  [17777] (17555) [19889] (19674) والترمذي [01590] والدارمي [02512] والنسائي الكبرى [07792]  [07793]  [08703]  [08704] والمجتبى [04169]  [04170] ومستدرك الحاكم [03017]  [04294] ومسند أبي عوانة [07229]  [07230] [07231]  [07232] وأبي يعلى[04931](04952) =وأحمد[01991] [02396]  [02896]  [03335]  [07012]  [11167]  [15306] [15551]  [15847]  [15849]  [15850]  [20684]  [21629] [27640] والحارث [00357]  [00700] والشهاب للقضاعي [00844]  [00845]  [00846] والطيالسي [00602](00601)  [01010](00968)  [01876](01768)  [02319](02205) ومصنف ابن أبي شيبة[36918](36929)  [36919](36930)  [36920](36931)  [36921](36932) وعبد الرزاق [09775] (09712)  [09776] (09713)  [13974] (13899) [16199] (15919)  [16231] (15951)  [18933] (18662)  [19212] (18939) ومعجم الطبراني الأوسط [06841] والكبير[03390]  [10844]  [10944]  [15333][18/0656]  [15334] [18/0657] [17494] [20/0765]  [17497] [20/0768]  [17498] [20/0769] والمنتقى لابن الجارود[01030] والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم [00780]  [01404]  [02214] والأدب المفرد للبخاري [00570].

([60]) انظر: التعريفات (110-111).

([61]) انظر جمع الجوامع بهامش الحاشية (4/244 وما بعدها).

([62]) راجع الأعلام: (1/23 و 24).

([63]) انظر: الأعلام (1/12).

([64]) انظرهما بهامش الحاشية الآيات البينات (4/245).

([65]) انظر: المحصول (ﺟ 2) مباحث الاجتهاد (ص 649) من نسختنا.

([66]) انظر: أدب القاضي (1/492).

([67]) انظر: إرشاد الفحول (220).

([68]) هو الشاطبي في الموافقات (4/111) طبع التجارية. وقد علق على هذا المرحوم الدكتور/ عبد الله دراز بقوله: «في التحرير وشرحه، ومنهاج البيضاوي شريطة الإيمان، ثم ما هي ثمرة هذا التجويز؟ هل يقلده المسلمون فيما استنبطه من الأحكام الشرعيّة؟ وهو غير معقول، أم يعمل هو بها؟

هذا لا يعنينا، ولا يعد اجتهادًا في الشريعة» انظر نفس الموضع.

([69]) انظر: المستصفى (2/350).

([70]) وهذا الشرط قد انفرد به المعتزلة، ولم يعتبره الآخرون انظر المحصول (ﺟ 2) مباحث الاجتهاد (653) من نسختنا.

([71]) انظر أدب القاضي (1/494) للاطلاع على الشبه التي أوردها بعضهم حول عربية القرآن الكريم والسنّة على اختصاص الرسالة الإسلاميّة بالعرب، وأنّها لو كانت عامّة لوجب أن تكرر كل آية بجميع اللغات، ولاحظ أيضًا ما توصل إليه بعد ذلك، من وجوب تعلم اللغة العربية على جميع المسلمين؛ أما المجتهدون فظاهر، وأما غيرهم فلاداء ما كلفوا به مما لا يصح بغير العربية عند جماهير العلماء كالشهادتين، وما تضمنته الصلاة من قراءة وأذكار. وهو مذهب الشافعي. نص عليه في الرسالة (ص 49)، ومذهب الإمام أحمد. فانظر: المغنى والشرح الكبير (1/256). وانظر: المجموع (3/380 ط الميزية، أو 3/235. ط المطيعي). وهو مذهب الإمامين مالك وداود بن على أيضًا. انظر: المجموع؛ وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة: فجوز الصلاة بأذكار مترجمة، قال: لأن الله -تبارك وتعالى- قال: ]وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[ (الأعلى:15) ولم يحدد لغة. واحتج الجمهور بحجج كثيرة. فانظر أدلتهم ومناقشاتهم في المجموع والمغنى والشرح الكبير ولم يشترط الحنفية -أيضًا- إتقان العربية للمجتهد ومذهبهم في ذلك فرع مذهبهم في الإعجاز. فانظر تفصيل مذهبهم في أصول السرخسي (1/281-282). هذا وقد اشترط الشاطبي أن يكون مجتهدًا في العربية ليحق له الاجتهاد انظر الموافقات (4/112).

([72]) انظر: المعتمد (2/929) وما بعدها، والمستصفى (2/350) ونهاية السول (3/175) والجمع بهامش الآيات (4/246)، والمحصول (2/652) مخطوطتنا، والموافقات (4/114-118)، والإرشاد (221) وكشف الأسرار (4/1135).

([73]) انظر: المستصفى (2/350) والمحصول (2/651) من مخطوطتنا، وإرشاد الفحول (220)، والتمهيد للأسنوي (ص 3)، والبرهان (2/4)، والتنقيح (194).

([74]) انظر: إيقاظ الوسنان (57) عن الاجتهاد، ومدى حاجتنا إليه (ص 180 ط أولى).

([75]) نفس المرجع.

([76]) نفس المرجع.

([77]) انظر: البرهان (2/4).

([78]) انظر: الإرشاد (220-221).

([79]) المرجع السابق. والحق أن العلماء ما عرفوا الاقتصار على عدد محدد من آيات الكتاب وإنّما جعلوا الكتاب كله مجالا للتدبر والاستنباط والتذكر والتفكير بما في ذلك آيات القصص والمواعظ، يقول الإمام الشافعي: «… نظرت ما بين دفتي المصحف فعرفت مراد الله -عز وجل- في جميع ما فيه إلا حرفين، قال راوي ذلك عنه: ذكرهما، وأنسيت أحدهما، والآخر قوله تعالى: ]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ (الشمس:10) فلم أجده في كلام العرب فقرأت لمقاتل بن سليمان: إنّها لغة السودان (يعني لهجتهم) وأن ]دساها[ (الشمس:10) : أغواها». وانظر: تفسير الطبري (30/136)، والقرطبي (20/77)، وأحكام القرآن للشافعي (2/191). أن من المؤسف أن يصل الجهل بعلوم القرآن الكريم وبلغة العرب حدًا جعل بعض الجهلة المتعاملين يزعمون أن قوله تعالى ] إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ (المائدة:90) أنه لا تفيد تحريم المذكورات حيث لم تقترن بلفظ «التحريم» صراحة، وأنه من قبيل النصح فقط. ] كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا [ (الكهف:5) إن من بديهيّات اللغة العربية أن صيغة «أفعل» إذا صدرت من الأعلى إلى الأدنى فأنها تفيد الوجوب والالزام، فقوله ] فَاجْتَنِبُوهُ[ (المائدة:90) أمر يفيد وجوب الاجتناب وهو أبلغ مما لو قال: «حرمنا عليكم الخمر..» لأن هذه الصيغة تفيد تحريم شربها فقط أما قوله: ] فَاجْتَنِبُوهُ[ (المائدة:90) فإنّه يفيد وجوب اجتنابها، وعدم الاقتراب منها بأي شكل من الأشكال، فيتناول تحريم شربها وصنعها وبيعها، وكل ما يسمى اقترابًا منها. وأمر الله -تبارك وتعالى- واجب الطاعة لقوله -تبارك وتعالى: ] أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي[ (طه:93)، وقوله -تبارك وتعالى: ] وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ[ (الجن:23).

([80]) انظر: البرهان (2/4)، وأحكام القرآن لأبي العربي (3/1241) وما بعدها.

([81]) انظر: البرهان (2/5) هذا وقد روي أنه لما هم عثمان -رضي الله تعالى عنه- برجم المرأة التي ولدت ستة أشهر استل عليه ابن عباس:، فقال: «أما أنها لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم، قال الله تعالى: ] وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [ (الأحقاف:15) وقال ] وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [(لقمان:14)، فإذا ذهب للفصال عامان – بقي للحمل ستة أشهر». انظر: أصول السرخسي (1/135).

([82]) انظر: أصول السرخسي (1/237).

([83]) وانظر: البرهان (2/4)، وأحكام القرآن لابن العربي (3/1298) وما بعدها، وقد قال الإمام الشافعي في هذا -: «… فكان بينا في ذكر ]وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ[ (المؤمنون:5-6، ) : بتحريم ما سوى الأزواج وما ملكت الأيمان.. ثم أكدها فقال عز وجل: ] فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[ (المؤمنون:7) فلا يحل العمل بالذكر إلا في الزوجة أو في ملك اليمين ولا يحل الاستمناء -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم. نظر: الأم (5/94) ط دار المعرفة لبنان.

وقد اشتهر عن الإمام أحمد أنه قال بإباحة الاستمناء باعتبار المني فضلة من فضلات الجسم: فجاز إخراجه كسائرها، ولكن ابن قدامه قد نص على تحريمه، فانظر المغني مع الشرح (3/48). فلعله -رحمه الله تعالى- قد اعتبره رخصة يرخص بها عند خوف الزنا.

([84]) انظر: المحصول مخطوطتنا (ج 2/653) وإرشاد الفحول (221).

([85]) انظر: إرشاد الفحول (221) وأدب القاضي (1/514).

([86]) انظر: إرشاد الفحول (2).

([87]) المصدر السابق؛ وقال أبو علي الضرير: «قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟ قال: لا؛ قلت: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا؛ قلت: أربعمائة ألف؟ قال: لا؛ قلت: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو». المرجع نفسه ونقلها صاحب أعلام الموقعين من رواية محمد بن عبيد الله بن المنادي وقد سمع رجلا يسأله (ولم يسم الرجل) وفيه قال: فأربعمائة ألف قال: بيده هكذا أو حركها؟ آه. فانظر (4/5:2)، يريد ما يشير به الناس عندما يريدون أن يقولوا: «ربما» أما أحمد نفسه فكان –رحمه الله تعالى- يحفظ ستمائة ألف حديث. انظر المرجع السابق، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد (36) وما بعدها.

([88]) نحو الغزالي والرافعي. انظر المستصفى (2/352-353)، والتمهيد (ص 4).

([89]) نحو ابن السبكي في جمع الجوامع والشارع المجلي والمخشى البناني في (2/383) وملا خسرو، والآمدي في الأحكام (3/139) وشرحه.

([90]) انظر جمع الجوامع بهامش الآيات البينات (4/247) والمحصول مخطوطتنا (2/652)، وإرشاد الفحول (221)، وزاد القرافي معرفة مواضع الخلاف، فانظر: تنقيح الفصول (ص 194).

([91]) انظر المحصول (2/653) من مخطوطتنا والآيات البينات لابن قاسم (4/248) وتنقيح الفصول (194).

([92]) انظر إرشاد الفحول (222) وقد عده الرازي الفن الثالث من الفنون الثلاثة التي يقوم عليها الاجتهاد. فانظر المرجع نفسه.

انظر المحصول 653 من مخطوطتنا وانظر المستصفى (1/3) لتطلع على ما قاله الغزالي في علم أصول الفقه والإبهاج (1/3) واللؤلؤ المنظوم (ص 197) والأحكام للآمدي (1/5).

([93]) المرجع السابق.

([94]) من رسالتنا –القسم الدراسي- (415) وما بعدها- هذا وقد اشترط بعضهم شروطًا أخرى ليثبت الكفاءة العلميّة للمجتهد، فاشترط السبكي الإحاطة بمعظم قواعد الشرع وممارستها بحيث يكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع، فلا يكفي أن يكون على درجة متوسطة بتلك العلوم؛ بل لا بد وأن يكون على درجة تمكنه من فقه مقصود الشارع، والوصول إلى القواعد التي تنظم الجزئيات نحو قولهم: «الأمور بمقاصدها» وقولهم: «الضرار يزال»، و«اليقين لا يزول بالشك» و«الميسور لا يسقط بالمعسور» و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». وقول الشافعيّة: «ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال». إلى غير ذلك من القواعد. فانظر ما قاله ابن السبكي نقلا عن والده، والشارح المحلي، والمحشى ابن قاسم عن اشتراط هذا الشرط في (الآيات البينات 4/246 وما بعدها) واشترط بعضهم إتقان «علم المنطق» فانظر (المستصفى 2/351)، وتبعه الإمام الرازي وأتباعه، فانظر المحصول (2/652) من مخطوطتنا.

واشترط بعضهم معرفة القياس، فانظر (إرشاد الفحول 222). واشترط آخرون معرفة الدليل العقلي أو «الراءة الأصلية» نحو الغزالي في (المستصفى 2/351)، والرازي في المحصول (2/652) من مخطوطتنا، وإرشاد الفحول (222).

والأصح عدم اشتراط شيء من ذلك على وجه الخصوص؛ لأن كل ما ذكر عائدًا إلى ما اتفقوا على اشتراطه بوجه من الوجوه؛ فعلم «قواعد الفقه» هو جزء من علم الأصول، وكذلك المنطق والقياس والدليل العقلي.

([95]) هذه الأحكام هي ملخص ما أورده الأصوليون عن حكم الاجتهاد. انظر على سبيل المثال المحصول (2/650) من مخطوطتنا، والحاصل (3/983) مخطوط، والمستصفى (2/384)، والمعتمد (2/766-767)، وكشف الأسرار (4/1134)، والأحكام (4/204-233)، والمسلم (2/362)، وأدب القاضي (1/506)، والتيسير (4/179).

([96]) ولاحظ ما أوردناه في (ص 25) من هذا البحث عن كراهة الصحابة -رضي الله تعالى عنه- للإفتاء في الأمور التي لم تقع، وكذلك التابعون، فمن قال بكراهته فقد عمل بالنصوص الواردة في النهي المحمول على التنزيه، ومن قال بندبه فقد لاحظ الأحوط.

([97]) تلاحظ نفس المراجع السابقة:

هذا وقد اعتاد الأصوليون أن يبحثوا مسألتين في هذا الموضع بين مباحث الاجتهاد هما: تعبد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالاجتهاد، وجواز الاجتهاد في عصره، ويطيلون الكلام والجدل في كل منهما. وملخص المسألة الأولى هو:

اختلف الأئمة في جواز تعبد الأنبياء بالاجتهاد على أربعة مذاهب:

المذهب الأول: الجواز مطلقًا. وهو: مذهب مالك والشافعي وأحمد والقاضيين: أبي يوسف وعبد الجبار، وأبي الحسين البصري. قال ابن السبكي: وهو (مذهب أكثر الأصحاب). وقال الأسنوي: (وهو مذهب الجمهور) وقد اختاره الغزالي، والآمدي، والفخر الرازي، والبيضاوي وابن الحاجب، وابن السبكي، وهو مذهب الحنفية، إلا أنّهم قد اشترطوا في وقوع التعبد بالاجتهاد، أن يكون بعد انتظار الوحي واليأس من نزوله.

 المذهب الثاني: المنع مطلقًا… وهو: مذهب أبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، كما في الأسنوي؛ وقال القاضي في التقريب: «كل من معنى القياس أحال تعبد النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- بالاجتهاد». قال الزركشي: «وهو ظاهر اختيار ابن حزم».

المذهب الثالث: إنّه يجوز فيما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا دون غيرها.

المذهب الرابع: التوقف في هذه الثلاثة أ ﻫ. ملخصًا من رسالة شيخنا الأستاذ عبد الغني عبد الخالق في حجيّة السنّة (ص 136-139) وهي الرسالة التي نال بها درجة (الأستاذيّة) الدكتوراه (سنة 1942) والتي لا تزال مخطوطة، أما وقوع تعبدهم بالاجتهاد فقد اختلف فيه القائلون بجواز تعبدهم فيه على خمسة مذاهب:

المذهب الأول: الوقوع مطلقًا. ذهب إليه الجمهور، ونسبه القرافي إلى الشافعي، ونسبه الآمدي إلى أحمد وأبي يوسف، واختاره هو وابن الحاجب على ما يظهر من تقريرها للخلاف والمذاهب فيه. قال الأسنوي: «وهو مقتضى اختيار الإمام وأتباعه؛ فإنّ الأدلة التي ذكروها تدل عليه».

المذهب الثاني: الوقوع: إذا انتظروا الوحي ولم ينزل، فعليهم أولا: أن ينتظروه، فإذا انتظروه ولم ينزل، كانوا مأمورين بالاجتهاد.

وهذا مذهب أكثر المتقدمين من الحنفيّة، واختاره المتأخرون منهم، ثم اختلفوا في تقدير مدة انتظار الوحي، فقيل: هي ثلاثة أيام. وقيل: هي مقدرة: بانقطاع رجاء وحي في الحادثة وخوف فواتها بلا حكم، وذلك يختلف بحسب الحوادث. وهذا هو الصحيح عندهم؛ إذ لا دليل على خصوص الثلاثة.

المذهب الثالث: عدم الوقوع مطلقًا.

المذهب الرابع: التفصيل. وهؤلاء المفصلون قد اختلفت عباراتهم: (فمنهم) من قال: إنّه كان متعبدًا به في أمور الحرب، دون الأحكام الشرعية (كما في منتهى السول للآمدي)، ومثل أمور الحرب، سائر أمور الدنيا على ما يفهم في حاشية السعد على المختصر. (ومنهم) من يفصل بين حقوق الآدميين، وحقوق الله -تبارك وتعالى- فيوجب الاجتهاد في القسم الأول، دون الثاني.

المذهب الخامس: التوقف بين الوقوع وعدمه.

وهو: الأصح عند الغزالي.

قال شيخنا: والمختار من هذه المذاهب: وقوع التعبد بالاجتهاد مطلقًا، فيجب عليهم نفس الاجتهاد، ويجب عليهم العمل بالحكم الذي أدى إليه اجتهادهم . أ. ﻫ. ملخصًا من نفس المصدر الصحائف (157-164).

(وفي وقوع نفس الاجتهاد منهم) قال حفظه الله -تبارك وتعالى: الذي يفهم من كلام أكثر القائلين بوقوع تعبد الأنبياء بالاجتهاد؛ أنّهم يقولون أيضًا بوقوع نفس الاجتهاد منهم، حيث استدلوا على وقوع التعبد بنحو قوله تعالى: ]عَفَا اللَّهُ عَنْكَ[ (التوبة:43)، وقوله -تبارك وتعالى: ]مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى[ (الأنفال:67). وبقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى» وقوله تبارك تعالى: ] وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ[ (الأنبياء:78) الآيتين؛ ونحو ذلك: كحديث القضاء في المواريث.. ثم قال: بعد أن بين أن هذه الأدلة دلالة فيها على وقوع التعبد الاجتهاد، ولا على وقوعه في حق نبينا -صلى الله عليه وآله وسلّم: ومن هذا يعلم: أنه لا يوجد نص قاطع على وقوع نفس الاجتهاد منهم، فإن قلت: إنك قد ذهبت فيما سبق: إلى القول بوقوع التعبد بالاجتهاد، وهذا يستلزم وقوع نفس الاجتهاد منهم: حيث إنّهم كلفوا به، وهم ] لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[ (التحريم:6).

قلت: هذا الاستلزام إنما يكون فيما إذا كان الخطاب الموجه إليه، غير معلق على عدم نزول النص. كأن يقول الله له: «اجتهد». فإما إذا كان معلقًا على ما ذكر؛ كان يقول له: «اجتهد إذا لم ينزل عليك نص»، فلا يستلزم ذلك وقوع المأمور به لاحتمال أن الشرط المعلق عليه لم يتحقق وإنّه كان ينزل عليه النص في كل حادثة. كما إذا قيل: للمكلف «زك إذا ملكت النصاب، وحال عليه الحول». فإنه لا يكون مكلفًا بالزكاة إلا بعد ملك النصاب، ومضى الحول. ولما كان التعبد بالاجتهاد الذي قد أثبتناه فيما سبق محتملا؛ لأن يكون بخطاب غير معلق، ولأن يكون بخطاب معلق ولم نجد ما يعين أحد الاحتمالين لم يلزم من هذا التعبد وقوع نفس الاجتهاد لقيام الاحتمال الثاني .أ.ﻫ.

راجع: نفس المصدر (203-204).

المسألة الثانية:

اختلف الأصوليون في جواز اجتهاد غير الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في حضره، والمختار أن ذلك جائز سواء في حضرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلّم- وفي غيبته، والدليل على ذلك وقوعه كما ورد في حديث معاذ الذي اشتهر بين الأمة وتلقته الأمّة بالقبول، ووقع أيضًا في حضرته، فقد حصل في غزوة حنين أن أبا قتادة قتل قتيلا فاستحق سلبه بمقتضى قوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- من قتل قتيلا فله سلبه، فقال رجل من القوم لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- سلب القتيل عندي فارضة عني فقال أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- لاها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال -صلى الله عليه وآله وسلّم- صدق. والظاهر أن هذا من أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- اجتهاد وهو بحضرته وقد صوبه -صلى الله عليه وآله وسلّم- بتصديقه له. وقال لعمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- «احكم في بعض القضايا؛ فقال: اجتهد وأنت حاضر. فقال: نعم؛ إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر». وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة -رضي الله تعالى عنهما: «اجتهدا فان أصبتما لفكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما حسنة». وقد حكّم -صلى الله عليه وآله وسلّم- سعدًا في بني قريظة.

وإذا حصل من غيره الاجتهاد فعلمه -صلى الله عليه وآله وسلّم- وإقراره صار من السنّة فلا يجوز خلافه. (أصول الخضري 448-449).

([98]) سورة الإسراء : الآية 85.

([99]) سورة سبأ : الآية 24.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *