كان أول لقاء مع الشيخ/ طه جابر العلواني هو قرائتي لافتتاحية العدد 13 من إسلامية المعرفة. حيث سمعت صوتا يجمع بين شموخ النهضة العربية بإشارته إلى الفلسفة وعلوم الدنيا وطموح الصحوة الإسلامية بتلويحاته إلى الحكمة وعلوم الدين. وقد شدني إلى سيرة الرجل العلمية والعملية دوره في مجال إحياء الحضارة الإسلامية بالتأليف والعليم الجامعي حيث ينبض قلب العالم لحظة العولمة التي عادت بالإنسانية إلى طغيان قانون التاريخ الطبيعي.
أدرك هو وثلة من المفكريم الملتزمين بالرسالة الخاتمة أن الرهانات الأساسية التي تترتب على سعي المسلمين لاستئناف دورهم التاريخي الكوني لها صلة وطيدة بالمعركة الثقافية في البلد الذي بيده مقاليد العالم حاليا قيل أن يؤيد التاريخ الموالي صحة هذا الحدس: فلا يمكن للأمة الشاهدة التي بشر دينها بالأخوة البشرية ألا تعتبر العولمة من حيث هو فرض لقانون التاريخ الطبيعي تحديًا للسمو بالإنسانية نحو قانون التاريخ الخلقي.
ثم صادف أن شرفني بالدعوة إلى بيته مع صديقنا المشترك الأستاذ/ فتحي الملكاوي فأكتشفت معنى المشيخة العلمية كيف تكون. فقد كان داعيا بالكلمة الطيبة ومستمعًا أكثر مما هو متكلم. ولعلي لن أجد وصفًأ أدق لاجتهاده وجهاده أكثر مما يمكن أن أحاول استنتاجه من مطابقة اسمه بمفرداته الثلاثة لمسماه كما يتبين من الوصلين بين مبتداها ووسطها ثم بينه وبين منتهاها: الواصل بين طه وجابر والواصل بين جابر وعلواني يكفيان لتضمين التحية أجمل المعاني.
فلعل والديه سمياه طه تبركا بما بات في الفهم العام يعد اسما الرسول الخاتم لكنه جعل التبرك تكليفًا ووعيًا حادًا فوهب نفسه لخدمة رسالة طه اجتهادًا بالمشاركة في إحياء علوم الرسالة وجهادًا بنشرها وتحديث طرقها جبرًا للكسر بين ماضيها الزاهر واستءنافتها الحالية التي ستخرجها من عصر الانحطاط. لكن هذه الخدمة يسرها الله له بقرائن فيض تشي به الوصلة الثانية. فلكأن مصادفات التسمية صارت شبه إشارات خفية من العناية السماوية لحفيد الفياض: فأحسن خدمة كانت الرسالة بحاجة إليها تقبل التحديد بالعلاقة بين الجبر والعلو.
فقد كادت الأمة تفقد الإحساس بالعلو. وإذن فلابد من جبر هذا الإحساس الذي من دونه تفقد الأمة كل أساس. ولا يكون الجبر إلا من أعلى علو تأسست عليه الحضارة الإسلامية. ولم تكن النسبة إلى العلو المجرد بل هي نسبة إلى أكثر صيغ المبالغة منه فصاحة: “علو+ان+ي”. والمعلوم أن لا يوجد شيء في الوجود عامة وفي الحضارة الإنسانية خاصة أعلى من القرآن الكريم وسنة النبي العظيم. لذلك فإنه لم يكن بد من أن يسخر الشيخ طه جابر العلواني نفسه لرسالة طه فيخدمها كل حياته بخدمة مبدأي حياتها: فكان مدار اجتهاده وجهاده القرآن والسنة.
في آخر لقاء لي معه من خلال ندوة الحكم والسياق في رباط المغرب الإسلامي كان الماثل أمام ناظري التعين الفعلي للمجتهد والمجاهد بحماس يحسده عليه الشباب، لم يقدم محاضرة. كان ما قدمه مرافعة أقنعت الحضور بما يقتضيه الظرف من ثورة اجتهادية وجهادية تحقق شروط الرسالة المحمدية. عندها تأكد لي أن بعض الموفقات الاسمية قد لا تكون من المصادفات بل هي من التسديدات الإلهية.