Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

صحوة التوحيد

برنامج الشريعة والحياة

أ.د: طه جابر العلواني

الأحد: 9/9/2012م.

المحور الأول: سقوط الخلافة وأفكار الوحدة.

لماذا لم يستطع الوجدان الإسلاميّ تجاوز مسألة سقوط الخلافة، بالرغم من أنَّها كانت ضعيفة ورمزيَّة في مراحلها المتأخرة؟

إنَّ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- كما صنعه الله –تعالى- على عينه ليحمِّله القول الثقيل والرسالة الخاتمة أعانه على بناء أمَّته وصناعتها، وإعداد “جيل التلقي” الذي تلقى عنه بوسائل ثلاثة، من شأنها أن تصوغ العقليَّة والنفسيَّة وتتغلغل في الوجدان والشخصيَّة بحيث تصبح لازمة لا انفصام لها، وهذه الوسائل الثلاثة هي:

الأول: إرساء دعائم التوحيد الخالص لله –سبحانه وتعالى- ليكون قاعدة ينطلق المسلم منها في كل ما يأخذ وما يدع، ومنه يصدر وإليه يرد ويعود.

الثاني: بناء أمّة، تحمل مواصفات محددة لتكون الأمَّة القطب الجامعة الحاملة للرسالة الخاتمة والمنادية بالخطاب العالميّ، وهذه المواصفات في مقدمتها الشهادة على الناس بعد انتقال الرسول الشاهد إلى الرفيق الأعلى ثم الخيريَّة والوسطيَّة والخروج إلى الناس انطلاقًا من الحرم، بدعوة التوحيد وتمارس دورها في الشهادة والحضور بحيث لا تغيب عن أي ركن من أركان الأرض أو قضيَّة من قضايا البشريَّة، فهي شاهدة حاضرة على الدوام.

والهدف الثالث: بناء مؤسسة دعوة –إن صح التعبير- تجعل من الأمَّة كلها أمَّة دعوة: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فإذا استقامت على ذلك وحققت كل ما ذكر أصبحت أمَّة إجابة تنظر إلى الأسرة البشريَّة كلَّها بعد ذلك على أنَّها أمَّة دعوة، عليها أن تبذل كل جهودها لإخراجها من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد والأوثان  إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فوحدة الأمَّة قائمة على التوحيد ومشتقة منه، فلا غرابة إذا كان الوجدان المسلم يشعر بها في كل حين، ويربط حياته ووجوده وقدرته على تحقيق أهدافه بتلك الوحدة التي أحيطت بالضمانات الكافية، وفي مقدمتها الاعتصام بحبل الله -تعالى، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وكذلك التأليف الإلهيّ بين القلوب، فالله –تبارك وتعالى- هو الذي ألف بين قلوب المؤمنين، وجعل منهم أمَّة واحدة، لتحقيق غايات الحق من الخلق: ﴿… لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:63)، لذلك استقر في الوجدان المسلم أنَّ التفرقة بين أهل الإيمان واتخاذ الدين شيعًا وفرقًا إنَّما هو أمر يدل على انحراف صارخ عن قواعد التأسيس.

  • بعد سقوط الخلافة ظلت فكرة استعادتها تشغل بال الكثيرين، حتى قامت حركات ومؤتمرات عدة تهدف لذلك، ما تقويمكم لتلك التوجهات؟

لتلك الصور الورديَّة المرتسمة في أذهان ووجدان وقلوب المسلمين عن الخلافة التي نجحت في صد الحملات الصليبيَّة التي استمرت مئتي عام وصد الاجتياحات المغوليَّة وصد جميع الأخطار المعادية بل وأصبحت تهديدًا لأوروبا في عقر دارها بعد قيام الدولة العثمانيَّة بغزو وسط أوروبا ودخول فيينا؛ لتك الأسباب كلّها، وللمخاطر التي كان الناس يرونها بعد سايكس بيكو، وتمزيق المسلمين، وخداع قياداتهم، وخداع العرب بالذات من قبل الإنجليز وسواهم؛ كل هذا جعل الناس يتشبثون بإعادة الخلافة لعلّها تعيد اللحمة بين تلك القطع التي مزقت من جسم الأمَّة، وتحمي ما بقي، خاصّة وأنَّ هناك تهديدات قد برزت لابتلاع أقطار مسلمة كثيرة، فكانت فكرة الخلافة وإعادة بنائها يعد بمثابة خشبة أو طوق نجاة لتلك الأقطار، ولإعادة بناء اللحمة بين الأقاليم التي تمزقت، ناسين أو متناسين أنَّ أول الوهن كان حين شابت التوحيد شوائب شرك كثيرة، وانحرافات في الإيمان ومفاهيم العبادة والتقوى، وضعفت التزكية، وتحولت إلى مجرد رسوم وأشكال، واستبدلت الدعوة بالقتال والفتح، فتألبت الأمم كلّها على أمَّة الإجابة، وصاروا كما صورهم الحديث الشريف: يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قيل: يا رسول الله أمن قلة بنا؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم منكم ويوضع في قلوبكم الوهن، قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت” فكان ينبغي أن تكون البداية بإعادة بناء الإيمان وتنقية الدين من الشوائب وإحياء ثقافة الدعوة وما إلى ذلك؛ لكي تتهيأ الظروف لعمليَّة إعادة البناء.

إنَّ التآكل الذي حدث لفكرة الأمَّة ومبادئها قد أوجد نوعًا من التواكل والضعف وفقدان الفاعليَّة لدى أبناء الأمَّة جعل العقل المسلم يقفز إلى فكرة الدولة بحيث أصبحت فكرة الدولة بمثابة تعويض “أو تصبيرة” لدى الكثيرين، عن العمل لإعادة بناء الأمَّة بالدولة، فالدولة أسهل أن تقام وتبنى من إعادة بناء الأمَّة خاصَّة بمفاهيم الدولة التي برزت فيما بعد، ومن هنا انطلقت مؤتمرات كثيرة تدعوا إلى تجديد بناء الدولة بحيث لاحظنا وجود العديد من المؤتمرات بعضها لا يرى مانعًا من استمرار العثمانيين في موقع القيادة، وبعضهم كان يرى ضرورة إعادة القيادة -قيادة الدولة- إلى العرب، وبعضهم يرى قبول الأمر الواقع وإقرار الانقسامات التي حدثت، والبحث عن روابط قديمة وحديثة يمكن أن تشكل تعويضًا ما عن وحدة الدولة، فعقد مؤتمر مكة 1924م، ومؤتمر الخلافة بمصر 1926م، ومؤتمر العالم الإسلامي بمكة المكرمة 1926م، ومؤتمر القدس 1931م، لكن نتائج تلك المؤتمرات كافَّة كانت دون طموحات الأمَّة بكثير، وحين أعلنت دولة إسرائيل على أرض فلسطين ظن كثيرون أنَّ القدس التي حركت الجسد الخامد في عهود الزنكيين وصلاح الدين وعبد القادر الجيلاني وابن الجوزي ومن إليهم سوف تكون وسيلة بعث وإحياء حديثة تستفز الوجدان المسلم لكي يعيد بناء الأمَّة ولو من غير توحيد الدولة، أو الاقتصار في الجانب السياسيّ والاقتصاديّ على أشكال الروابط الحديثة التي عرفها العالم اليوم، وبعد حريق المسجد الأقصى بعد 21 أغسطس 1969م حدثت تحركات مباشرة في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ شكَّلت نوعًا من الضغوط على الحكَّام المسلمين أدت إلى تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي، واستمرت المؤتمرات تنعقد وتنفرط حتى يومنا هذا، فعقد الملتقى العالميّ الأول للعلماء المسلمين باستضافة وتنظيم رابطة العالم الإسلامي 2006م تحت عنوان “وحدة الأمَّة الإسلاميَّة”، ولقد ألف المسلمون منذ دخول نابليون مصر وحتى اليوم أن يجتمعوا ويتفرقوا على شعارات ونداءآت وقد يعتبرون أهم إنجاز مجموعة توصيات تصاغ بصياغات فضفاضة تنفس ما يختزنه عامَّة المسلمين، ومن آخر المؤتمرات كان مؤتمر الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، وفي إيران تعقد مؤتمرات التقريب، وأسست جامعة للتقريب بين المذاهب، وتلك قصة أخرى لكنَّها تدخل في إطار تلك الجهود، والذي استطيع أن أؤكده بكامل الطمأنينة أنَّ كل تلك الجهود -مع تقديرنا لمن قاموا بها- لن تنتهي لا إلى توحيد الأمَّة، وإعادة بناء وحدتها ولا إلى تحقيق التضامن بين الدول، فهذه أمَّة ألف الله بين قلوب أبنائها ثم نزع يده منها حين انفكت أيدي أبنائها عن الاعتصام بالكتاب، وطلبت التأليف بين قلوبها من غير الله -جل شأنه- وفرقت دينها، وصارت شيعًا وفئات وأحزاب وتيارات، بحيث برئ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- من العلاقة بهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ …﴾ (الأنعام:159) هي عبارة وجيزة تحمل من المعاني ما لا تستوعبه مجلدات، فإذا أرادت الأمَّة إعادة بناء وحدتها فلتعد إلى الكتاب وإلى التمسك به، والاعتصام بحبله، ولتصحح علاقتها بالله -جل شأنه، وتعد فهمها لدورها ومهامها وفقًا لما رسمه الله -جل شأنه- لها، فإن هي لم تفعل لا أمل لها لا بوحدة ولا اتحاد ولا تضامن بل ستبقى قصعة يتداعى عليها الآكلون الشرهون: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام:65).

  • طرحت أفكار عديدة حول الوحدة، منها الجامعة الإسلاميَّة قبل سقوط الخلافة، ما حقيقة تلك الفكرة، وهل طرحها في ظل الخلافة يعني شيئًا هنا؟

فكرة الجامعة الإسلاميَّة:

اتخذت فكرة الجامعة الإسلاميَّة مدلولات ومعاني مختلفة، وقد اتفق المؤرخون على أنَّ السيد جمال الدين الأفغاني يعتبر من أوائل من طرحوا الفكرة إن لم يكن أولهم، وقد قصد بها إيجاد شكل من أشكال التشاور والتعاون والتضامن بين الأقطار والشعوب الإسلاميَّة مع احتفاظ الوحدات السياسيَّة باستقلالها، فكأنَّ الفكرة كانت أشبه بفكرة كومنولث إسلاميّ بقيادة تركيا وتحت راية الخليفة العثمانيّ، وبعد أن بذل كثير من العلماء والمفكرين جهودهم في محاولة التأسيس لهذه الجامعة والتشبث بها نجد أقرب الناس إلى الأفغاني –آنذاك- الشيخ محمد عبده يستبد به اليأس فيقول كلمته المشهورة: “السعي إلى توحيد كلمة المسلمين وهم كما هو هم” وأشار على أستاذه أن يعتزل الاثنان السياسة ويتفرغا للعمل العلميّ، لكنَّ هناك آخرين في مقدمتهم الكواكبي أعطوا لمفهوم الجامعة أنَّها: رابطة دينيَّة مركزيَّة يمثلها خليفة المسلمين ويشرف على الإدارة والسياسة هيئة للشورى تنسق بين جميع الحكومات المسلمة مع الاعتراف بضرورة احتفاظ كل إقليم باستقلاله.

فهي تهدف بصفة عامَّة إلى نوع من الإصلاح والتجديد الدينيّ والمحافظة على رمزيَّة الدولة العثمانيَّة، والعمل على إيجاد تنسيق بين الحكومات والأقطار المسلمة لا يسمح بأن يحتل أو يقتطع قطر منها في غفلة من الآخرين، ويعاد بناء العلاقات بين العالم الإسلاميّ والعالم الغربيّ وسواه، وتحرير ثروات العالم الإسلاميّ وحمايتها من النهب الاستعماريّ.

وبشكل أوضح لأهداف الجامعة الإسلاميَّة يمكن تلخيصها في الآتي:

1- الإصلاح الدينى: من منطلق العقلانيَّة الإسلاميَّة التى توازن بين “الرأى” و” الأثر”.
2- المحافظة على الدولة العثمانيَّة، باعتبارها الدولة الإسلاميَّة الجامعة.
3- تجديد الصلات الحضاريَّة مع الغرب، واقتباس المناسب من حضارتها وعلومها، من واقع التمايز الثقافيّ والاستقلال الحضاريّ.

 4- تحرير ثروات العالم الإسلاميّ من النهب الاستعماريّ والسيطرة الغربيَّة.   

لكن هذه الدعوة قوبلت بالشك من الدولة العثمانيَّة لاختلاط صوتها بكثير من الأصوات الانفصاليَّة التي كانت ترتفع –آنذاك- في أرجاء مختلفة بهدف إضاف الدولة العثمانيَّة والتعجيل بتمزيقها، وإرث الرجل المريض.   

تصور الكواكبي مؤتمرًا إسلاميًّا جامعًا، يعقد في أم القرى مكة، وحاول التنظير لفكرة الوحدة على المستوى النظريّ، كيف كان تصوره؟ وما دواعيه مع وجود الخلافة أيضًا؟ وهل كانت الخلافة غير مؤدية للغرض؟

تصور الكواكبي:

استطاع الكواكبي من خلال ذلك المؤتمر المتخيَّل أن يسرب أفكاره الأساسيَّة التي لم يكن من السهل المجاهرة بها في تلك المرحلة، فتعرض لفكرة نقل الخلافة إلى العرب من خلال الدور الذي أعطاه للفراتي وهو نفسه، والمطالبة بالشورى، وإيجاد نوع من المشاركة السياسيَّة لجميع الشعوب المنضوية تحت راية الدولة العثمانيَّة، ووضع ذلك كلّه في إطار حوارات تدور في ذلك اللقاء المتخيَّل، وبتلك الطريقة استطاع أن يعبر عن مطالب الناس وتطلعاتهم باتجاه الحريَّة، والإصلاح الدينيّ، والإصلاح الاجتماعيّ، ووضع نوع من فقه الأولويَّات، وذكر بعض العيوب الشائعة في كيان الأمَّة آنذاك، والتحذير منها، كل ذلك قد استطاع من خلال ذلك التصور معالجته ومناقشته، ويُعد الكواكبي فيما طرحه في “أم القرى” وفي كتابه الآخر “طبائع الاستبداد” قد وضع مشروع إصلاح وتجديد للأمَّة المسلمة وللروابط بين المسلمين، ورصد كل ما هو متداول ومعروف من انحرافات سياسيَّة واقتصاديَّة وتمييز بين الجماعات المشكِّلة للأمَّة، وتفرقة بين شعوبها، وأمراض طائفيَّة، ومذهبية، وتعصب يحول بينها وبين الوصول إلى ما تريد.  

دواعي تصوره هذا مع وجود الخلافة: هذا التصور كان محاولة إصلاح من الداخل يعبر عنها مفكر بمثل قامة الكواكبي وقلمه وآثاره في الصحافة، باعتبار ذلك جزء من نداءآت الإصلاح التي كانت تنطلق في تلك الفترة، ووجود الخلافة لم يحل دون ظهور تلك الأمراض في المجتمع، ففي تناول الكواكبي ومن إليه لهذه الأمور محاولة للاستعانة بدولة الخلافة نفسها على معالجة بعض تلك الأمراض، وتنبيه لها في الوقت نفسه على معالجة الجانب الذي يخصها من تلك السلبيَّات، فالمصلحون والعقلاء كانوا مع انتقادهم لدولة الخلافة العثمانيَّة وعدم رضاهم التام عنها لكنَّهم كانوا يحتفظون لها بكثير من التقدير والاحترام لسوابقها وماضي انتصاراتها وجمعها لشمل العالم الإسلاميّ بعد أن تعرض للغزو المغوليّ، وهم في الوقت نفسه يخافون أنَّه لو انفرط العقد وتفرق الشمل أن لا أحد يستطيع بعد ذلك أن يجمع هذه الأقطار من جديد، فكانوا يعملون على الإصلاح، ويحاول كثيرون منهم أن لا يندفعوا في معاداة الخلافة حتى بعد أن تسلم قيادتها والتأثير فيها القوميون الترك، والمتتبع لشعراء العرب يجد تلك النزعة بوضوح شديد في شعر شوقي وفي شعر محمد رضى الشبيبي، وعلي الشرقي، ومعروف الرصافي وغيرهم.

سقوط الخلافة أثار جدلًا حول كونها شرعيَّة أو تاريخيَّة، وخاصَّة مع كتاب علي عبد الرازق، والردود عليه، حول ماذا كان ينصب الجدل حقيقة؟ أي هل كان للأمر علاقة بمسألة الوحدة الإسلاميَّة؟

فكرة الدولة في الإسلام الأصل فيها قسمة بين الاستجابة لحاجات الأمَّة المتنوعة وتنظيم شئونها إذ لا يصلح الناس فوضى لا سرات لهم، وبين تطبيق الشريعة وأحكامها، فإذا لاحظ الملاحظ أنَّ الدولة هي المسئول الأول أمام الأمَّة عن تطبيق الشريعة وإقامة الحدود وحماية الثغور تغلبت الرؤية الدينيَّة وانطلقت المشاعر لتحف الدولة بسياج من العناية الدينيَّة، وإذا لوحظت المصالح لدنيويَّة وتنظيم معايش الناس والعدالة في توزيع الموارد وإنمائها غلبت الصورة البشريَّة، والحقيقة أنَّ الدولة باعتبارها كيانًا ينبثق عن الأمَّة تحكمها اتجاهات الأمَّة، وتحدد وظائفها أهداف الأمَّة وصفاتها وخصائصها فإنَّ الدولة مزيج من هذا وذاك، وقد نجد أنفسنا أحيانًا في وضع نشعر فيه بأنَّ هناك استغلالًا من الدولة للدعوة أو للدين يؤدي إلى التضييق على الناس وتيسير اتهام من يخالف إرادة الدولة بالمروق أو الكفر والنفاق أو ما إلى ذلك، فيلجأ الناس إلى إعلان أنَّ الدولة تنظيم اجتماعيّ تتوافق الأمَّة عليه، وكتاب علي عبد الرازق كتاب صدر في وقت كان الملك فؤاد يتمنى أن يطرح اسمه خليفة للمسلمين، ويعيد تشكيل الخلافة وتأسيسها في القاهرة بدلًا من استنبول، علي عبد الرازق في كثير من المنتمين إلى النخبة خافوا أن يؤدي ذلك الطموح أو المغامرة إلى تدمير مصر أو المخاطرة بمستقبلها، ورؤوا أنَّ الملك فؤاد في ذلك التوجه لم يكن يريد تحقيق أهداف إسلاميَّة عليا، بقدر ما كان يريد أن يوجد فرصًا لامتداد نفوذه ونفوذ أسرته، فرأوا أن ينزعوا منه هذا السلاح، وتطرف علي عبد الرزاق في ذلك وآخرون، فنفوا وجود أي علاقة للدين بالسياسة، وأنَّ السياسة شأن دنيويّ، مرجعيَّته بيدي الأمَّة التي لها أن تختار نظامها وحكَّامها والسياسات المناسبة لها وذلك ما حدث.

بعد سقوط الخلافة ورحيل الاستعمار استتب الأمر لما سمي بالدولة الوطنيَّة أو القطريَّة، واضطرب موقف الحركات الإسلاميَّة من الدولة، حتى آل لاحقًا إلى الاعتراف بها والاندماج فيها وصولًا للقول بدولة إسلاميَّة، هل أضعف ذلك مسألة الوحدة الإسلاميَّة؟

تركيز الأنظار على السلطة نمى المشاعر القطريَّة إذ أنَّ كل حركة من الحركات التي كانت تتوثب للوصول إلى السلطة كانت تحاول أن تكرس دورها في الإقليم الذي تنتمي إليه، وتجعل من برامجها برامج قطريَّة، وحجتها في ذلك أنَّنا سوف نجعل من القطر وإصلاحه منطلقًا باتجاه إصلاح الأمَّة، وهي بذلك لم تقدم الكثير لإحياء فكرة الأمَّة، لكنَّها قدمت بعض الدعم للأفكار الإقليميَّة والقطريَّة، والواقع يؤكد هذا الذي ذكرناه ولاحظتموه.

طرحت فكرة “الكومنولث الإسلاميَّ” كعلاج لغياب الخلافة، ونشأة الدول، ما دواعي طرح الفكرة في ذلك الوقت؟ ولماذا لم يكتب لها النجاح؟

ينطلق مالك بن نبي من منطلق الحضارة وبناء الحضارة، وهو منطلق أعتبره متقدمًا فرسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- لم يبدأ بتأسيس حضارة أو استحياء حضارة، فالحضارة تالية للرؤية وللإصلاح الإيمانيّ وإقامة عقيدة التوحيد وإرساء دعائم بناء الأمَّة عليها وبالتالي فإنَّ القفز على ذلك كلّه يجعلنا نأخذ بأضعف ما يمكن تقليده إلا وهو فكرة الكومنولث، وإذا كان لابد من التقليد وأنَّ فلسفتنا لا تسمح لنا بتقديم مشروع نعيد به بناء أمَّتنا ففي هذه الحالة يكون تقليد النموذج الأمريكيّ وتأسيس (UNITED STATES) ثم الجماعة الأوروبيَّة أكثر عمليَّة من تلك الفكرة الغائمة فكرة الكومنولث الإسلاميّ، على أنَّ هذه الأمَّة أمَّة لا يمكن أن يعاد بناؤها بما لم يدخل في عمليَّة التأسيس والتكوين، ألا وهو اعتصام بكتاب الله ونبذ الفرقة والتخلص من تفريق الدين وجعله شيعًا، والاعتماد على الله –تعالى- في تأليف القلوب.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *