أ.د. طه جابر العلواني
رئيس التحرير
هذا العدد الذي نضعه بين أيدي القرَّاء اليوم عدد رأى الإخوة في المجلة أن يجعلوه في غالبه في قضيَّة “إسلاميَّة المعرفة” أو “التكامل المعرفي” أو “التأصيل الإسلامي للمعرفة” أو “توجيه المعرفة وجهة إسلاميَّة … أو … أو.
ومنذ أن تأسَّس المعهد وأعلن مبادئه وخطة عمله، والجدل لم ينقطع حول المصطلح أو المفهوم المراد به “أسلمة المعرفة أو إسلامها أو إسلاميَّتها … إلخ”. لقد كان هناك اتفاق بين كل المعنيين بالشأن المعرفي من منظوره الإسلامي من أبناء هذه الأمَّة على أنَّ أنظمة التعليم –على مستوى الأمَّة قد فشلت فشلًا ذريعًا في إيجاد الإنسان المسلم الصالح الذي رسم القرآن المجيد –بوضوح شديد- معالم شخصيَّته في هذه الآيات من سورة النحل: ﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل:74-79).
ولم يعد الإحساس بهذا الفشل منحصرًا في محيط الأمَّة المسلمة –وحدها- بل تجاوزها –الآن- إلى النظام العولمي وقيادته حتى أصبح الشغل الشاغل لمراكز البحوث ومراكز The Think Tank الغربيَّة هو التعليم الإسلاميّ أو التعليم في بلاد المسلمين بصفة عامَّة باعتباره عقبة كؤودًا في وجه الديمقراطيَّة والحداثة والتنمية والتعدديَّة وقبول الآخر، فضلًا عن كونه –في نظرهم- يشجع على الكراهية والإرهاب ويكرس التخلُّف والتعصب، بل ويهدد السلام العالمي. وكأنَّ العالم يسوده السلام فعلًا!! ولا يهدده إلا المسلمون الذين يمثلون الضحايا في الغالب.
وكان الأمل كبيرًا عند انطلاقة المعهد التي مر عليها ربع قرن من الزمن أو يزيد أن يتمكن المعهد من تقديم رؤية في هذا الميدان “إسلاميَّة” سديدة قادرة على بناء الشخصيَّة المسلمة المعاصرة وفق ذلك النموذج القرآني البيِّن، وقد استطاع المعهد خلال ربع قرن من الزمان أن يتصل بمئات من الأساتذة والباحثين المسلمين في مختلف نواحي المعمورة.
بينهم عدد لا يستهان به من التربويين المتخصصين في سائر جوانب العلوم والمعارف السلوكيَّة والاجتماعيَّة بصفة عامَّة، وعقدت عشرات الندوات والمؤتمرات وقدّمت أفكار قيِّمة في بعض المناحي. لكنَّنا لا نستطيع القول إلى هذا اليوم أنَّنا قد بنينا “نظرة تربويَّة إسلاميَّة متكاملة” بالرغم من كثير من المحاولات الجادة في هذا السبيل. كما لا نستطيع الادّعاء بأنَّنا قد بنينا برامج تعليميَّة وتربويَّة فعَّالة تستطيع الاستجابة لتحديات البرامج التعليميَّة والتربويَّة العالميَّة، وتقدم البدائل الإسلاميَّة سواء على مستوى المناهج أم على مستوى الكتب المدرسيَّة في المعارف والعلوم المتداولة.
فهناك في كل بلد عربيّ مسلم ما يقرب من مائة كتاب مدرسي عليها الكثير من الملاحظات، وتحتاج إلى بدائل قبل أن تقرر البدائل من الآخر، وتفرض بضغوط أو بقوة الاقتصاد أو بأي قوة أخرى.
أمَّا التغيير في السياسات التربويَّة والتعليميَّة فهو يجري على قدم وساق وتحت ضغوط لا تخفى.
إنَّ السياسات التعليميَّة التي فرضت على العالم الإسلامي بعد الحرب العالميَّة الأولى التي أفرزت النظام العالميّ القديم قد أحدثت في المجتمعات الإسلاميَّة ما أحدثته من تمزقات وشروخ، وأوجدت أجيالًا هجينًا أو مهجنة من أنصاف المتعلمين، وأحدثت انقسامات بين متعلمي الأمَّة حالت دون نجاح أي مشروع للنهوض حتى يومنا هذا، وأوجدت أجيالًا قلقة في هُويَّتها، مضطربة في اتجاهاتها يغلب على الكثيرين منها الأميَّة المقنعة. وأسَّست لازدواجيَّة التعليم وأصَّلت لها. وإذا أريد تحديد مسئول عن حرمان الأقطار الإسلاميَّة من النهوض والبعث والتجديد ودخول العصر فإنَّ “ازدواجيَّة التعليم” و “غموض الأهداف التربويَّة” و “ضعف البرامج التعليميَّة” وانعدام النظريَّة التربويَّة الإسلاميَّة” و “تبني اتجاهات التقليد والتبعية” في التربية والتعليم تعد المسئول الأول عن تخلُّف الأمَّة عن دخول العصر، وإعادة بناء حضارتها، واستئناف شهودها العمراني. وإذا أردنا استخدام مصطلحات “الليبراليين” فإنَّنا نقول: إنَّ تلك النظم التربويَّة والتعليميَّة التي زرعت في أقطارنا بقهر أو تبعية “النظام العالمي القديم” وبحجة كونها الوصفة الناجعة “للتحديث وتحقيق الحداثة” هي التي حالت بين أقطارنا وشعوبنا وبين تحقيق “التحديث على جميع المستويات إلا مستوى التبعيَّة المرة.
ولا يمكن لأحد أن يطمئن إلى أنَّ ما يريد النظام العالمي الجديد، وما انبثق عنه من “عولمة” تحقيقه في بلاد المسلمين ستكون نتائجه أفضل من نتائج ما سبقه.
ولذلك فإنَّ مفكري الأمَّة وبخاصَّة الملتزمين بقضاياها مطالبون بوقفة صادقة يجمعون فيها أمرهم ويقفون فيها مثنى وفرادى ثم يتفكروا إلى أين تتجه الأمَّة؟ وإلى أين هي ذاهبة؟ وما مصير هُويَّتها وشخصيَّتها؟! إنَّ انتصارات “الإسلام السياسيّ” هنا وهناك لن تستطيع أن تقدم الكثير في هذه الميادين، فالنظام العالميّ القائم يعمل على حصر أدوارها في ميادين أخرى، واستنزاف طاقاتها في العمليَّات السياسيَّة الفوقيَّة بحيث لا يدع لها ما يسمح بأن تأخذ فرصة كافية للنظر في ميادين التربية والتعليم وصناعة الإنسان، وإعادة بناء “الشخصيَّة المسلمة” و “الهُويَّة الإسلاميَّة” للأمَّة. ولذلك فإنَّ أدوار المفكرين المسلمين عربًا وسواهم في المرابطة على هذه الثغور صارت أكثر من ضروريَّة.
إنَّ “المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ” قد نبَّه مع بعض المؤسَّسات التربويَّة والفكريَّة الأخرى إلى هذه الثغرة الخطيرة منذ ثلاثة عقود أو أكثر، ومازال يواصل جهوده في تنبيه الأمَّة، والقيام بدوره المتواضع في تجنيد بعض الطاقات لتقديم النماذج وأدلة العمل في هذا الميدان. وما زالت آماله وآمال رجاله في الأمَّة كبيرة.
وقد كنا نظن أنَّنا قد تجاوزنا مرحلة مناقشة “العنوان الأساس” لقضيَّة المعهد، وهو: “أسلمة المعرفة أو إسلاميَّة المعرفة أو ما اختار بعض إخواننا تسميته بالتأصيل الإسلامي للمعرفة أو توجيه المعارف وجهة إسلاميَّة أو التكامل المعرفيّ”. ويبدو أنَّ عجز البعض عن الإنتاج في القضايا الأساسيَّة، والإشكاليَّات الحقيقيَّة لقضايا المعرفة والمنهج يجعلهم يعودون دائمًا إلى أسئلة شكليَّة تقودهم وكثيرًا من الباحثين للدوران حول القضيَّة، وتحول بينهم وبين التوغل في إشكاليَّاتها الحقيقيَّة التي أشرنا إلى بعضها فيما سلف من بلورة النظريَّات المطلوبة وما أكثرها، وإنتاج المنهج المعرفي وإعداد الكتب المدرسيَّة والدراسيَّة وفقًا لفلسفة هذه القضيَّة كما، أنَّنا نجد الحديث يكثر حول: من هو أول من فكر “بإسلاميَّة المعرفة” أهو العطّاس أم سيد حسن نصر أم حسن حنفي، أو إسماعيل الفاروقي أو عبد الحميد أبو سليمان أو .. أو وهذا التساؤل يتجاهل تاريخ “أزمة المعرفة” الذي يمكن أن نجد جذوره بعد انقراض “جيل التلقي”. وولادة “جيل الرواية” في هذه الأمَّة ولا يمكن أن تجد انعكاسات لهذه الأزمة ظاهرة في “جيل الفقه”، وهو الجيل الثالث الذي ظهرت بهذه “أجيال التقليد والتبعيَّة” التي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا. ولو أنَّ الذين يطرحون مثل هذه التساؤلات أدركوا أنَّ تاريخ هذه الأمَّة أقدم من جميع الأشخاص المذكورين، وأنَّ تاريخ “الأزمة الفكريَّة والمعرفيَّة” لم يبدأ في عصرنا، وإن ظهرت نتائجه الفاقعة الصارخة فيه –إنَّهم لو أدركوا ذلك: لما استطاعوا أن يجدوا ما يسوِّغ هذا التساؤل الشكلي، فتاريخ الأمَّة بدأ بنزول الوحي، وبه تكونت. وبذور الأزمة بدأت تظهر بعد التحاق النبي الأمين –صلى الله عليه وآله وسلم- بالرفيق الأعلى. والتنبه إلى بعض مظاهرها قديم.
ولذلك كتب الإمام الشافعي وجمع “أصول الفقه ليكون منهجًا ومنطقًا ضابطاً من وجهة نظره لقضايا المعرفة، ورسالة ابن المهدي إلى الشافعي صرَّحت بوجود هذه الأزمة الفكريَّة والمعرفيَّة لدى الأمَّة، وكتب أبو حنيفة “الفقه الأكبر”، وجمعوا الأحاديث، وكتبوا في التفسير، وتعددت مناهجهم بتعدد المعارف التي بين أيديهم. من تفسير وحديث وأصول وتوحيد وفقه وغيرها. ومع ذلك نجد الإمام أباحامد الغزالي مثلًا (ت:505هـ) يكتب مجموعة كبيرة من الدراسات في الدعوة إلى الخروج من أزمة المعرفة، فكتب في المنهج والمنطق “معيار العلم” و “القسطاس المستقيم”، وفي نقد المعارف النقليَّة “الاقتصاد في الاعتقاد” و “المنقذ من الضلال”، وفي المعارف السلوكيَّة والفقهيَّة “إحياء علوم الدين”، وفي الفلسفة “تهافت الفلاسفة”، وفي الدعوة للتعامل مع القرآن المجيد باعتباره مصدرًا للمعارف: “جواهر القرآن”، فقد تناول بعض القضايا التربويَّة والتوجيهيَّة، كما عمل على لفت الأنظار إلى المقاصد والعلل والحكم وضرورة الالتفات إليها والاهتمام بها كتابه الهام: “شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل”.
وشيخه الجويني لم يكن أقل منه اهتمامًا بذلك، فقد عمل في كتابيه الهامين “البرهان” و “الغياثي” على تقديم نظريَّة معرفيَّة إسلاميَّة كاملة. ونحا ابن رشد وابن العربي وابن خلدون وابن تيمية وتلامذتهم نحو ذلك. و “إسلاميَّة المعرفة” حلقة من تلك السلسلة الطويلة من محاولات “الإصلاح التربويّ والمعرفيّ والمنهاجيّ” في تاريخ هذه الأمَّة، ودليل على حيويَّة هذه الأمَّة وإمكانات التجدد الكامنة فيها بقطع النظر عن المصطلح وصياغته، ومن استعمله أولًا، ومن استعمله ثانيًا … إلخ.
وأذكر للحقيقة والتاريخ أنَّه بعد أن استقر بي المقام في أمريكا أن لاحظت جفاءًا بين عالمين من أهم العلماء المسلمين في أمريكا وبين المعهد، هما الأستاذ الدكتور الشيخ/ سيد حسين نصر. أمد الله في عمره. والأستاذ الدكتور الشيخ فضل الرحمن، فسألت أخانا الكبير الأستاذ الدكتور الشيخ الشهيد/ إسماعيل الفاروقي[1] عن ذلك الجفاء وضرورة وضع حد له. فأجاب –رحمه الله-: “بأنَّ سيد حسن يرى أنَّ فكرة وخطة “إسلاميَّة المعرفة” كانت خطته وفكرته، وأنَّنا (أي: الشهيد إسماعيل) قد سرقناها منه، وانتحلناها ونسبناها لأنفسنا. ولا دليل لديه على هذا إلا أنَّنا كنا معًا ندرس في “جامعة تمبل” وكنا نتناقش باعتبارنا زميلين في قضايا التعليم في الغرب وفي العالم الإسلاميّ، أزمة ومشاكل وطرق إصلاح، فقلت للشهيد: أنا نائب الرئيس، ولا علاقة لي بهذا التاريخ، فما رأيك لو دعوت د.سيد حسين لتقديم محاضرة حول الموضوع ونناقشه فيها، وقد يساعد ذلك على كسر هذا الحاجز بيننا وبينه، فغضب الرجل وقال: لو فعلت فاعلم أنَّني سأقطع علاقتي بك وبالمعهد.
وقد التمست لأخي الشهيد عذرًا في ذلك. وأدبيَّات تراثنا حافلة بالأحاديث والقصص التي تناولت علاقات العلماء، وما يوجد بينهم نوعًا من الغيرة، وقد نقل علماء الجرح والتعديل كثيرًا من تلك القصص، منها ما نقل عن ابن عباس أنَّه قال: “خذوا علم العلماء ولا تسمعوا قول بعضهم في بعض، تالله لهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها” وفي النفس من نسبة هذا القول لابن عباس شيء. ولكن القول في ذاته له في الواقع انعكاس ما.
ولذلك كان العلماء يحرصون أن يدرسوا العلم في المساجد والجوامع للتذكير بالتقوى، وبأنَّ الله (تبارك وتعالى) هو مصدر العلم والمعرفة، وهو من علَّم الإنسان ما لم يعلم، وهو الذي خلق الإنسان علّمه البيان وهو القائل (سبحانه): ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:282). ولذلك لم تعرف لدى أسلافنا تلك الظواهر السلبيَّة التي عرفت بين الأدباء والشعراء من اتهام بعضهم لبعض بانتحال شعر سواهم، أو معاني الشعر ونسبته إلى أنفسهم. بل عرف العكس، فكثيرًا ماكان العلماء يضعون الكتب، وينسبونها إلى مشايخهم أو كبار العلماء ومشاهيرهم في زمانهم طلبًا لنشر العلم والفكر، بقطع النظر عما إذا كانوا سوف يعرفون أو لا يعرفون؛ لأنَّ الهدف كان نشر العلم والمعرفة ابتغاء وجه الله (تعالى) في ذلك. وعرف تراثنا أنواعًا كثيرة من وسائل نسبة العلم والانتساب إليه. وقد ألقت د.منى أبو الفضل -منَّ الله تعالى عليها بالعفو والعافية- محاضرة لعلَّها تطورها إلى كتاب في “جينيولوجيا النخب والأفكار” والعناية بتتبع أنساب الأفكار، وتكون النخب بها والمراحل التي يقطعها المفكر في حياته متنقلًا بين مواقع الأفكار المختلفة وأفكار المحاضرة –دراسة- تصلح مدخلًا تفسيريًّا هامًّا لكثير من الظواهر المتعلقة بأنساب الأفكار، ونسبة المراحل الفكريَّة التي يمر المفكر بها، وعلاقات الأفكار بالزمان والمكان والمتغيِّرات العديدة التي تحيط بالمفكر، وتؤثر في فكره أو توليده للأفكار.
وبعد استشهاد الفاروقي –يرحمه الله- سارعت لدعوة د.سيد حسين نصر إلى المعهد لتقديم ما لديه، قال: “لكنَّني أخالف المعهد ورجاله في أساس الفكرة والإجراءات المتبناة، والسياسات التي تتبعونها، فهل ستتسع صدوركم لذلك كله؟ قلت: مرحبًا وبكل ما سوف تتقدم، وستجدنا -إن شاء الله- آذانًا صاغية وقلوبًا واعية، وأذهانًا متفتحة. وسوف نناقش ما تقول إذا ما اتسع صدرك لذلك، ولم تر في ذلك إخلالًا بواجب الضيافة!! قال: لا مانع. وسوف أدعو من تلامذتي ما يقرب من خمس وعشرين، فأرجو أن تتسع قاعة لجمهوركم ولهم!! قلت له: أنت وهم ستكونون ضيوفنا على العشاء بعد المحاضرة -الندوة. وتمت المحاضرة، وعرض الرجل ما عنده، ونوقش فيه، وأخذنا منه وتركنا. وبدأت مرحلة صداقة وتعاون، لا مع المعهد وحده- بل مع المعهد “وجمعيَّة علماء الاجتماعيَّات المسلمين” و G.s.i.s.s وصار الرجل كثيرًا ما يقوم بإلقاء المحاضرة الرئيسة في ذكرى الفاروقي في المؤتمرات السنويَّة لـ “A.M.s.s” ثم وجهت الدعوة للشيخ فضل الرحمن، وكلمته بنفسي، فقال: لكنَّني أحمل توجهًا آخر، وهو “أسلمة العلماء، لا أسلمة المعرفة أو العلم” قلت: “توجهك هذا سوف يشكل إضافة نوعيَّة لقضيَّتنا فمرحبًا بك، وحضر الرجل وألقى محاضرة نشرت مثلما نشرت محاضرة الشيخ سيد حسين نصر في مجلة المعهد، وتحول إلى صديق حميم، لم يبخل –بعد ذلك- بالتعاون وتقديم المشورة والنصيحة، وإن أنسى لا أنسى أنَّني تحدثت إليه يومًا، وسألني بكل تواضع العالم –عن بعض المسائل في “أصول الفقه” وقضايا الاجتهاد فأجبته، وإذا بالرجل يجهش بالبكاء ويقول: أخي طه، كم أنا آسف على تلك السنوات التي لم أعرفك فيها، ولم أتصل بالمعهد فيها. وبقيت سبل الحوار مفتوحة بيننا إلى أن توفاه الله (سبحانه). ولم يكن أسفي أقل من أسفه على عدم استفادتنا بعلم الرجل وفكره كل تلك الفترة، ومثل ذلك يمكن أن نقول عن د. فتحي عثمان، وعدد آخر كبير من علماء الأمَّة ومفكريها.
وحين انتقل الأخ د.عبد الحميد أبو سليمان إلى كوالالامبور لإدارة الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة رأى المعهد في ذلك فرصة لتحويل قضيَّة “إسلاميَّة المعرفة” إلى برنامج تعليميّ يطبق ويدخل التجربة العمليَّة، والخروج بقضيَّة “إسلاميَّة المعرفة” من أطرها النظريَّة إلى مجالات التطبيق. وقد حققت إنجازات مهمة في تلك التجربة المتميزة وثق الكثير منها د. عبد الحميد و د.كمال حسن ود. جمال برزنجي، وآخرون.
وما تزال كثير من جوانب التجربة في حاجة إلى استكمال. لكن الذي وددت أن أسلط الضوء عليه –في هذه الافتتاحيَّة- هو ما أكثر بعض الباحثين الحديث عنه من موقف الدكتور نقيب العطاس، والأستاذ العطاس واحد من المفكرين الماليزيين المشاهير وله تلامذته ومحبّوه، وله عطاؤه الفكري. وقد كتب الرجل في مقدمة أحد كتبه أنَّ فكرة المعهد و “إسلاميَّة المعرفة” هي فكرته، وأنَّه كتب في ذلك مقال أرسلها إلى إسماعيل الفاروقي للنشر، ولكن الفاروقي لم يعدها إليه، ولم يكن يعرف سبب حرص الفاروقي على عدم إعادتها إليه مع مطالبته بذلك إلا بعد أن أعلن عن تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، وبعد أن أصدر الفاروقي كتاب “أسلمة المعرفة” فأدرك العطاس- آنذاك أنَّ الفاروقي وإخوانه قد أعجبتهم الفكرة فلطشوها منه، وأقاموا معهدهم عليها. وقد أقام داتو سري أنور إبراهيم له معهد فخمًا أطلق يده في بنائه وتصميمه معماريًا وأكاديميًا، ولم تظهر في سياسات “إستاك” (Institute of Islamic) تلك الأفكار أو البرامج التي أكد الأستاذ العطاس أنَّها سرقت منه، لأنَّه لو صح ذلك فلِمَ لم يطبق وينفذ تلك الأفكار والسياسات في معهد يملك فيه حريَّة مطلقة ماديًا ومعنويًا وأكاديميًا؟ ومع الأدب الجم والخلق العالي والصبر الذي كان الأخ د. عبد الحميد يتحلى به بقيت هذه القضية شوكة في جنب الجامعة كثيرًا ما أساءت لسمعتها.
وهناك ظاهرة سلبيَّة أخرى برزت في إطار المعوقات، وهي ظاهرة لوحظت- بوضوح- في الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة في ماليزيا. لقد كان داتو سري أنور إبراهيم رئيسًا للجامعة، وقد كان نائبًا لرئيس الوزراء في الوقت نفسه، ومعروف أنَّه كان من أعضاء مجلس أمناء المعهد العالمي لفكر الإسلامي المؤسسين. وكان مدير الجامعة أ.د/ عبد الحميد أبوسليمان رئيس مجلس أمناء المعهد. واعتبر البعض أنَّ المعهد هو المسيطر على الجامعة، وبتعبير “البعض”: الخاطف للجامعة. حتى بلغ من غيظ وحقد البعض أن عمدوا إلى إحراق مكتب المعهد في الجامعة، وانقسم الناس داخل الجامعة وخارجها إلى فريقين: فريق ناقم رافض للمعهد ولقضيَّته “إسلاميَّة المعرفة” ولرجاله ولكل ما يتعلق به، وفريق –وكان نادرًا وقليلًا- وجد في قضيَّة المعهد “إسلاميَّة المعرفة” خشبة نجاة، ووسيلة فعَّالة لانطلاق مشروع ينهض بهذه الأمَّة ولو بعد حين.
وفريق ثالث من أولئك الانتهازيين الذين يتحينون الفرص لركوب أيَّة موجة يظنون أنَّها قد تجلب لهم نفعًا. وهؤلاء لا يهمهم إلا أن يظهروا التأييد لمن يتوقعون منه جلب نفع أو دفع ضرر، وحين يجدون مسئولين على مستوى داتو سري أنور ود. داتو عبد الحميد أبو سليمان فإنَّهم لن يترددوا بإظهار تبنيهم للتوجه الذي يتبنيانه، وتحويل “الأفكار” التي يناديان بها إلى نوع من “الأيديولوجي” وآنذاك يتكرس الانقسام والتمايز بين الناس، ويصبحون فريقين: فريق مؤيد وفريق معارض، ولكن لا على مستوى تبني الأفكار أو رفضها، بل على مستوى سطحي مشابه لمستويات التأييد والمعارضة الرسميَّة في بلدان عالمنا!! ولذلك فإنَّ هذا الفريق بمجرد أن غاب المسئولان الكبيران عن الجامعة، وجاء آخرون أظهروا ما كانوا يخفون من قبل، وتعالى منهم اللغط، بل الشغب على قضيَّة “إسلاميَّة المعرفة” بأشكال مختلفة. ولم يتردد البعض في تشجيع بعض صغار الباحثين لإعداد بحوث نقديَّة في ظاهر الأمر، لكنَّها لم تمارس النقد المعرفيّ، بل مارست معارضة أضيفت عليها عناوين النقد وما هي بذاك.
وهنا تبدو أهميَّة فكرة د.منى أبو الفضل في “جينيولوجيا النخب والأفكار والثقافات” وتعني بذلك: عمليَّات معرفيَّة تستهدف الكشف عن أنساب الأفكار في سياقاتها المختلفة لعمليَّات وتطورات أفكار النخب ونشأة ونمو الثقافات. فالأفكار كائنات حيَّة يمكن الكشف عن نشأتها ضمن الأنساب والسياقات وولادتها وكيفيَّة تلك الولادة وتطورها ونموها، وعن علاقة كل من تلك الأمور في الزمكان والإنسان ومكونات الواقع موضع المعاينة والبيئة الحضاريَّة الاجتماعيَّة المعنيَّة ضمن سياقاتها.
وحين تدرك “أنساب الأفكار” ضمن سياقاتها فإنَّ ذلك سوف يوضح الكثير من القضايا المعرفيَّة التي يختلف الناس فيها وعليها. وفي الوقت نفسه فإنَّ “أنساب الأفكار” هذه سوف تكون مدخلًا تفسيريًّا هامًا يساعد على كشف المؤثرات والنماذج المعرفيَّة الكامنة والجوانب المتنوعة للبيئات الثقافيَّة التي برزت تلك الأفكار فيها. وما الذي يمكن إدراجه في إطار الكليَّات، وما الذي يندرج في الجزئيَّات وما الذي يمكن اعتباره نوعًا من التفكير الفلسفي القابل للتعميم، وما الذي ينحصر في دوائر الجزئيَّات وأدوات الاستنباط.
بيد أنَّ “أنساب الأفكار” هنا لا ينبغي النظر من خلالها إلى الفكرة على أنَّها مثل نتاج الإنسان والحيوان يولد في لحظة محددة وموقع محدد؛ لأنَّ للأفكار فترات حضانة ونمو تختلف عن قضايا الحمل والولادة بالنسبة للإنسان والحيوان. وكثير من الأفكار تولد بطريق التوليد من أفكار أخرى. وفترات حضانة الأفكار فترات تختلف في طبيعتها وطولها وقصرها عن فترات توالد البشر والحيوان التي لها ضوابط صارمة ومحددة ومعروفة؛ ولذلك فلابد من النظر إليها في إطار الأنساق.
وحين نسير مع هذا الفكرة فإنَّنا قد نجد نسب الفكرة ممتدًا أحيانًا بحيث يتصل بفكرة ولدت قبل أجيال، وحملت في طياتها بذور الفكرة الجديدة التي لم تولد إلا عندما وجدت البيئة المناسبة والمحرك أو المفاعل، وهو ما اصطلح عليه “بروح العصر”، الذي يراد به الاستعدادت التي تعجل باستدعاء الفكرة الكامنة، وكأنَّها إخبار بأنَّ لحظة تجليها وبلورتها قد حلَّت استجابة لمتغيرات ومعطيات الواقع والتاريخ. أو “اللحظة الفارقة” ضمن منظور معرفيّ حضاريّ تتولَّد عنه أنساق معرفيَّة متقابلة تقدم أطرًا مرجعيَّة في عمليَّات “تنسيب الأفكار” وتحقيق “المتون”. والمراد “بالمتون” هنا النصوص سواء أكانت مكتوبة أم مشاهدة، أم مشخصة بما في ذلك المساحات البينيَّة.
[1] استعملت لقب “الشيخ” لمعرفتي بحب كل من هؤلاء الأفاضل لهذا اللقب ورغبة كل منهم في حمله بدلًا من “د”.