أ.د/ طه جابر العلواني
يتداول البعض دون نقد قصة ذهاب سيدتنا خديجة بسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند بدء نزول الوحي عليه إلى ورقة بن نوفل؛ ليطمئنه على نفسه بعد نزول الآيات الخمس الأولى من القرآن الكريم عليه، وهذه القصة قد يكون فيها إيحاء غير مباشر بأنَّ الآيات الخمس الأولى نزلت عليه وأنَّه لم يكن يدري أنَّه نبي؛ ولذلك فقد حاولت أن أتفهم هذا الأمر، ووصلت فيه إلى هذا، وودت أن أشرك قرائي به ليناقشوه، ويعرفوا أثر الأحاديث التي تنشر ويجري تداولها دون نقد أو التفات لآثارها السلبيَّة.
الأمر بالقراءتين:
لقد أمر الله (تعالى) نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) – في مفتتح نزول القرآن وبداية إعلامه بنبوَّته ورسالته – بقراءتين، بدأ نزول الوحي على قلبه بهما فقال (جلّ شأنه): ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق:1-5)، فكان ذلك إبلاغًا له (صلى الله عليه وآله وسلم) برسالته ونبوَّته فالخطاب موجه له، وفي القراءة تنبيه إلى أنَّ اختياره للنبوَّة والرسالة الخاتمة قد تم لأنَّ في الأمر بالقراءة إنباء وإخبار وإيماء إلى أنَّه سيقرأه على آخرين بعد أن يستقر في قلبه وضميره ووجدانه، وهذا الإيماء بإشارة قوله (تبارك وتعالى) فيما بعد: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾ (الأعلى:6) ونستطيع أن نلاحظ الفرق بين بدء نبوَّة موسى -عليه السلام- ونبوة سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونلاحظ الفرق بين بدء الوحي إلى كل منهما، فبدأ الوحي إلى رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر بقراءة الخلق وباسمه (تعالى)، وثنى ذلك بأمر آخر بقراءة ما سطَّرت الأقلام وعلَّمه الله الخلق، وهو: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ من وحيه والعلوم التي أنزل وبثها في الأرض، وجعلها متاحة للإنسان، وكلا الأمرين بالقراءتين بدأ بتنبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للقراءة الأولى بأنَّه سيقرأ باسم ربه الذي خلق، سيقرأ في الإنسان وخلقه وتكليفه، فهي المنطلق وهي البداية، وفي الأمر بالقراءة الثانية التي تراكمت بالأقلام والكتب وتراث البشريَّة، وفيها ما أوحي إلى أنبياء ورسل، وفيها ما بث في الكون والطبيعة إذ إنَّ كل شيء في الكون أصله كلمة بما في ذلك الإنسان: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ (الإنسان:1) فكلمة “كن” جعلت منه شيئًا مذكورًا، يذكره الله ويذكره الخلق، والأمر المباشر بالقراءة ينبِّه إلى أنَّه لم يكن بحاجة إلى أن يعرِّف الله رسوله بنفسه كما حدث بالنسبة لموسى، فقد أمره بالقراءة وذكر نفسه (جلّ شأنه) مكتفيا بأنَّ المخاطب سيقرأ باسم ربه في الأولى، وستصحبه معونة الله (جلّ شأنه) وعنايته في الثانية، أمَّا في حالة سيدنا موسى فقد كان هناك نوع من التمهيد، فكأنَّ موسى أدخل البلاط أولًا: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ (طه:12) ثم نبيء باختياره، فكان بمثابة من يقدم اختبارًا أو طلبًا في ذلك البلاط وينتظر النتيجة، فأُعلم بها، وقال له (جلّ شأنه): ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ (طه:13) ولم يقل له أقرأ، فهو يستمع ويرفع صوته بما يسمع وبعد إعلانه بالاختيار وأنَّ الوحي سوف ينزل عليه، وعليه أن يستمع له أُعلن بأنَّ ما يوحى إليه وما يستمع إليه إنَّما هو من الله (جلّ شأنه) ليسمع الشعب.
والفرق بين الأمر بالاستماع والأمر بالقراءة: أنَّ الاستماع ينبِّه إلى عدد محصور أو جهة مختصة محدودة هي المقصودة بتلك الرسالة؛ وذلك لانحصار ومحدوديَّة ما يسمعه، فيكون فيها إشارة إلى انحصار الرسالة في شعب أو قبيل من الناس، فليست بعامَّة ولا عالميَّة، فهي كما أوضحت النصوص بعد ذلك رسالة إلى بني إسرائيل؛ لجعلهم نموذجًا للعباد الذين يحررهم الله (جل شأنه) بوحيه وأنبيائه من استعباد البشر إلى الدخول في عبوديَّته، فتحريرهم من فرعون وملأه تحرير لبني إسرائيل، واختبار لفرعون وقومه في عمليَّة الاستجابة لله ولرسوله، فإذا استجاب فرعون بالتسليم بحق بني إسرائيل في البقاء والرحيل فذلك يعني أنَّه سيسلم بعبوديَّته لله (تعالى)، ويخرج وقومه من العبوديَّة للبشر، ولكنَّه لم يفعل وأنكر على موسى وهارون ما جاءا به من الوحي والرسالة.
أمَّا في الأمر بالقراءة التي أُمر بها محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ففيها إيماء إلى عالميَّة الرسالة، فهي رسالة مقروءة، كل من يقرأها أو يطلع عليها أو تُقرأ عليه أو يستمع إليها مخاطب بها، ومطالب بالإيمان بها، والمقروء قد يستمر مدى الحياة؛ لاتساع المقروء من الظواهر الكونيَّة وتجددها، وما يسطَّر بالأقلام، ففيها معنى الدوام والاستمرار والعالميَّة، وعدم الانحصار في قوم أو عصر أو محيط جغرافيّ.
ويقول الله (جلّ شأنه) لموسى -عليه السلام- معرفًا بنفسه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه:14)، ثم يأتي دور أول آية من الآيات التسع التي أوتيها فيقول له: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (النمل:7-12)، ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾ (طه:17-23) وفي سورة أخرى ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾ (طه:67-68) ﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى﴾ (طه:21-22) وتلك آيته الثانية التي أوتيها ووعد بآيات أخرى: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (طه:23-24).
وفي حالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنَّ ربنا (جل شانه) قد عرَّفه الأمر بالقراءتين وأنَّه اختاره خاتمًا للنبيّين وإمامًا للمرسلين، وأنَّه سيقرأ على البشريَّة باسم ربه وبمعيَّته وعنايته ما أُمر بقراءته عليهم، فإعلان النبي والرسول بأنَّه وقع عليه الاختيار ليكون نبيًا رسولًا يبدأ مع أو قبل نزول أي حرف من الوحي على قلبه، فيعلم أنَّه قد تم اختياره، لكن بدء نزول الوحي للمرة الأولى على بشر رسول لم تفارقه صفات بشريَّته ولم ينفصل أو ينفك عن إنسانيَّته يجعله عند المفاجأة الأولى يخاف ويتهيَّب إلى أن تهدأ نفسه ويستقر خاطره، ويدرك أنَّ هناك مرحلة جديدة في حياته قد بدأت لا تخرجه عن بشريَّته ولا تفصله عنها، لكنَّه سيتلقى قولًا ثقيلًا. وفي مثال موسى –عليه السلام- خاف أول مرة من تحول العصا إلى ثعبان ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ (النمل:10)، وخاف بعد علمه بنبوَّته مرة أخرى عند اختبار سحرة فرعون: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾ (طه:67-68) فخوفه لا يؤثر على مدى إيمانه وصدقه فيما هو عليه من حق وإنَّما هو عارض بشريّ.
ولئلا يغتر أحد بنبوَّات الأنبياء فيتخذهم آلهة، فإنَّ الله (سبحانه وتعالى) لا ينزع عنهم عوارض الصفات البشريَّة بشكل كامل، فتبقى هذه العوارض مصاحبة لهم والوحي ينزل عليهم، وقد يفتن بعض البشر بذلك إذا زاد عندهم إحساسهم ببشريَّة النبي ليستنكر نزول الرسالة عليه فيطالبهم بالخوارق الكثيرة، ويستعجب ويقول: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ (الفرقان:7-8)، وقوله (تعالى): ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً﴾ (الإسراء:90-95) فما كانت البشريَّة لهم إلا لتسهيل الطريق للتواصل مع أمثالهم من البشر، وما كانت النبوَّة إلا إضافة على بشريَّتهم التي تبقى بعد النبوَّة، فالعقدة لدى منكري النبوَّات في كيفيَّة الجمع بين البشريَّة والرسالة، فهي الأمر الذي يستغربونه، ويأنفون من تصديق الأنبياء، وقبول ما يأتونهم به من آيات، والتصديق بأنَّهم رسل الله وأنبياؤه.
ولذلك فإنَّ لدينا تحفظًا على قصة بحيرى الراهب، وقصة ورقة بن نوفل، فالاستشراق المعاصر طرح فرية وصدقها تلك هي: أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بدأ نزول القرآن عليه ونزلت الآيات الخمس الأولى، وفيها الأمر بالقراءتين لم يكن يدرك أنَّه رسول إلى أن زار ورقة بن نوفل بصحبة زوجته خديجة.
فالقصتان أراد الاستشراق القديم والحديث أن يكرس فيها الأكذوبة القائلة: بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من الكرادلة، وكان كردينال لكنيسة الجزيرة العربيَّة، وتمرد عليها، وأسَّس دينًا جديد بما كان، وقد جازت هذه الفرية على بعض الكاتبين من المسلمين ولم يلتفتوا إلى أنَّهم بذلك يسقطون في مأزق نفي قرآنيَّة الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وهذه التهمة اتهم بها أبوه إبراهيم (عليه السلام) ونفاه الله عنه فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 67-68).