Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

تأمُّلات في الحج والمناسك 2

 

د.طه جابر العلواني

كنت قد تناولت في الخطبة الأولى من تأمُّلاتي في الحج والمناسك ارتباط الحج ومناسكه بتجارب الأنبياء على سبيل الإجمال، وأوضحت أنَّ الحج هو الركن الذي يذكِّر «الأمَّة المسلمة» بعالميَّة الرسالة، وختم النبوَّة، و«شهادة الأمَّة» الوارثة لتراث النبوَّات كافَّة، بمهامِّها الأساسيَّة في بناء الإسلام القائم على إسلام البشر وجوههم لله، ووقوف البشريَّة صفًّا واحدًا للوفاء بالعهد الإلهيِّ، والقيام بمهام الاستخلاف في الأرض، وحمل الأمانة الإلهيَّة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب:72)، واجتياز اختبار الابتلاء للعودة إلى الجنَّة التي أخرج الشيطان أبوينا آدم وحواء منها.

إنَّ المناسك تبدأ بالإحرام، وأبرز ما في الإحرام تخلِّي الإنسان عن جميع ملابسه المعهودة، واستبدالها بما يستر العورة، على أن يكون غير مخيط. أشار الإمام أبو حامد الغزالي إلى أنَّ من شأن ذلك أن يذكِّر الإنسان بالموت ورحلة الإنسان إلى الدار الآخرة بثياب هي الأقرب إلى الأكفان، ومنطلق الإمام الغزاليِّ هو منطلق «التزكية»، والنظر إلى مناسكه على أنَّها من وسائل التزكية، وهو معنى كبير الأهميَّة، ومقصد من المقاصد القرآنيَّة العليا الحاكمة لا نخالفه فيه، ولكن المعنى لا يقتصر على ذلك وحده، ولعلّ لنا أن نضيف لما ذكره أبو حامد أن «نسك الإحرام» يذكِّرنا بقصَّة «خروج أبوينا من الجنّة»: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى*فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه:120-121)، ففي «نسك الإحرام» تذكير بالعداء الدائم بين الإنسان والشيطان، وتحذير من أيّة غفلة أو تجاهل لهذا العدوِّ، وتذكير بأبشع النتائج التي تؤدي الاستجابة إلى وسوسته إليها، وهذا جانب لابد للحاج من الوعي به وفهمه في شموليَّته وعمومه.

وهناك جانب ثالث يستدعيه «نسك الإحرام» وهو ظاهرة الصراع بين الرسول النبيِّ موسى المحرِّر لشعبه وأمَّته وبين فرعون رمز الطغيان والغرور، واستعباد المستضعفين وإذلالهم. ففي بدء الوحي إليه أُمر موسى أن يخلع نعليه لأنَّه دخل الوادي المقدس طوىٰ، الذي سيتلقَّىٰ فيه بدايات الوحي إليه، وأول لحظة من لحظات تكليم الله له، والدخول إلى الحرم أعظم وأهم من الدخول إلى الوادي المقدَّس، فالقداسة والتقديس ترتبطان باللَّحظة التي تقع فيها لحظة «المعيَّة الإلهيَّة، وتهيئة النبيِّ الرسول لاستقبال الوحي والتكليف بحمله»، فيحتفظ المكان بذكرى لحظة القداسة، كما أنَّ اللَّحظة الزمانيَّة التي كانت ظرفًا لذلك تنقضي وتبقى ذكراها.

أمَّا «التحريم» وجعل مكة حرمًا فهو أمر خالد لا ينقضي؛ ولذلك ارتبط الحج ومناسكه بـ«الأرض المحرَّمة» لا بالأرض المقدَّسة، كما اختصت الأرض المحرَّمة بخصائص لا تشمل الأرض المقدَّسة، فلا يتخلَّىٰ خلاها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا يسمح بإدخال الخوف إليها مهما كانت الأسباب؛ ولذلك فإنَّ على مريد الإحرام بالحج أو بالعمرة أن يُسيطر على قوى وعيه كلِّها، وأن يستدعي سائر النبيِّين الذين نودوا ولبوا النداء لكي يكون مهيئًا بكل قلبه ونفسه وعقله وجوارحه لتذكر تلك المواقف والإصغاء إلى نداء رب العزَّة لآدم بالتوبة، وكيف تلقَّى كلمات الله، وناداه بها: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:37)، وكيف نادىٰ نوح: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ (الصافات:75)، وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود وغيرهم.

فهؤلاء -جميعًا- كانوا يصيخون السمع وتخبت جوارحهم -كلُّها- حتى لتكاد أجسادهم بجميع جوارحها تصبح سمعًا، فإذا جاء النداء الإلهيُّ صدرت التلبية بذلك الشكل المعبِّر عن الإسلام التام، والاستسلام الكامل، والطاعة المطلقة، والإقبال الذي لا نظير له.

والنداء الإلهيُّ لنا هو القرآن المجيد، فكيف ينبغي لنا أن تُعدَّ أنفسنا للإنصات إليه، والاستماع له، وتلبية كل نداء من نداءاته، وتجاوز كل ما يمكن أن يؤدي لهجره لفظًا أو معنى، قولاً أو فعلاً، حتى لا نجد في أنفسنا حرجًا في أي أمر أو نداء يوجَّه إلينا، ونسلِّم تسليمًا تامًّا.

وقبل الإهلال بالتلبية نتذكر سيدنا محمدًا خاتم النبيِّين وتلقيه «الأمر بالقراءتين» لأول مرَّة، ثم ما تلا ذلك من نداء الله له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾ (المدثر:1-4)، ثم تتابعت النداءات الإلهيَّة له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ (المزمل:1)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، فما تردَّد مرة ولا لحظة في المسارعة إلى تلبية نداء ربه عبر «اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا»، فإذا أهلَّ بالتلبية، وقال: «لبَّيك اللَّهم لبَّيك…» استحضر في ذهنه كل تلك الأمَّة «أمَّة الأنبياء الواحدة»، واتَّخذ مكانه في أتباعها، وملأ قلبه اعتزازًا بالانتماء إليها، وواصل التلبية، وهو يسمع أصوات النبيِّين والمرسلين كافَّة وهم يصدعون بالتلبية، وما أجمله من شعور، وما أرقَّه من إحساس أن يشعر الإنسان بالانتهاء إلى أمَّة الأنبياء ومشاركتهم التلبية، وضمِّ صوته إلى تلك الأصوات الصادقة الطاهرة.

فإذا دخل حدود الحرم فليُعط المحرم لنفسه فرصة التنفُّس بملأ رئتيه شهيقًا وزفيرًا، كأنَّه يريد أن يستشفى ليطهِّر الصدر وما حوى، والقلب وما وعى من سائر ما علق بكل عضو من أعضائه، وإعادة تنظيم دورة دم جديد في عروقه وشرايينه، فيها عبق النبوة وأريج الوحي والرسالة، وحداثة العهد بالله، وليقل إن شاء الله:

هذه دارُهُم وأنتَ محبٌّ   ما بقاءُ الدموع في الآماق؟

وليغتسل بدموعه إنْ استطاع، فدموع اللِّقاء بعد الاغتراب تغسل القلوب، وتطهِّر النفوس، وتطفئ لهيب الشوق، وتبدِّله بقطر ندى اللُّقيا، وسعادة الوصال والاتصال بعد الهجر والانقطاع؛ وبذلك يتهيَّأ المحرم لتكحيل عيني بصيرته، ثم بصره، برؤية بطن مكة والحرم.

فإذا صار على مقربة من البيت ذاته انطق لسانه وجوارحه بتلك الكلمات النبويَّة، ليُهيء القلب والعقل والوجدان وسائر الجوارح لاستقبال النفحات الإلهيَّة، التي هي نور للمحبِّين المخبتين، ونار للعصاة والمعاندين، إنَّه قد صار على مقربة من بلاط بيت رب العرش العظيم، فليدخل مع قوافل النبيِّين والمرسلين بتواضع وهدوء واستكانة وخشوع، وكل شيء فيه ينطق بشكر الذي أدناه، وقرَّبه، وأعده للمناجاة، ثم لِيشر إلى الحجر الأسود، أو لِيستلمه إنْ استطاع ليبدأ «سباعيَّة الطواف».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *