(الحلقة الأولى)
أ.د/ طه جابر العلواني
عقد الإمام الشاطبي في الموافقات في بحث الدليل الثاني (السُنَّة النبويَّة المطهرة) مسائل عدَّة، تعرَّض في المسألة الثالثة منها إلى أنَّ السنَّة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، قال: “وذلك لأنَّها بيان له”، وهو الذي دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿.. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44). وأضاف، قوله: “فلا تجد في السنَّة أمرًا إلا والقرآن قد دلَّ على معناه دلالة إجماليَّة أو تفصيليَّة”. وقال: “وأيضًا فكل ما دلَّ على أنَّ القرآن كليَّة الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك؛ لأنَّ الله قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم:4)”، وفسرت عائشة ذلك بأنَّ خلقه القرآن، واقتصرت في خلقه على ذلك، فدلَّ على أنَّ قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن؛ لأنَّ الخلق محصور في هذه الأشياء؛ ولأنَّ الله جعل القرآن تبيانًا لكل شيء، فيلزم أن تكون السنَّة حاصلة فيه في الجملة؛ لأنَّ الأمر والنهي أول ما في الكتاب، ومثله قوله: ﴿.. مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ..﴾ (الأنعام:38)، وقوله: ﴿.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ..﴾ (المائدة:3)، وهو يريد بإنزال القرآن، فالسُنَّة إذن في محصول الأمر بيان لما فيه، وذلك معنى كونها راجعة إليه. وأيضًا فالاستقراء التام دلَّ على ذلك حسبما يذكر بعد (أي في المسألة الرابعة)، وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أنَّ السنَّة راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب التوقف عن قبولها، وهو أصل كاف في هذا المقام) أ.ه.[1]
ثم ذكر الشاطبي جميع الاعتراضات التي ساقها أهل العلم على هذا الاستدلال، وقام بمناقشتها كلها، وهذا الذي قرره الإمام الشاطبي نجد نحوه في عبارة الإمام الشافعي في الرسالة حيث قال الإمام الشافعي: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)[2].
وقال وهو يرد على محاوره: “فقلت له كلما سنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كتاب الله من سنَّة فهي موافقة كتاب الله في النص بمثله، وفي الجملة بالتبيين عن الله، والتبيين يكون أكثر تفسيرًا من الجملة”، وقال: “وما سنَّ مما ليس فيه نص كتاب الله فبفرض الله طاعته عامَّة في أمره تبعناه”[3].
وقال الإمام الشافعي ــ رضي الله عنه ـــ عن السنة: “وإنَّما هي تبع للكتاب بمثلما نزل نصًا، ومفسرة معنى ما أنزل الله منه جملًا”[4]، ولخَّص الشافعي الإشكاليَّة التي نحن فيها، وهي إشكاليَّة استقلال السنَّة بالتشريع بقوله الذي ورد في الفقرات 298 : 310، ثم شرع يفصِّل ما أجمله في تلك الفقرات، وقال أيضًا: “وقد سنَّ رسول الله مع كتاب الله، وسنَّ فيما ليس فيه بعينه نص كتاب)، (وقال: وكل ما سنَّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته وفي العنود عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجا لما وصفت”[5].
والإمام الشافعي ومن جاء بعده وشرح رسالته وبنى عليها حتى وصلت إلى الشاطبي ثم من جاء بعده لتكون الإشكاليَّة ملخَّصة في أنَّه هل تستقل السنَّة وحدها بالتشريع فيكون قول الأصوليين بتعدد الأدلة وتراتبها مقبولا بحيث يكون القرآن دليلًا أول وتكون السنَّة دليلًا ثانيًا؟.
واستمرت هذه القضيَّة منذ أن طرحها الإمام الشافعي متداولة في المحيط الفقهي والأصولي لمدة طويلة، إذ من المعلوم أنَّ رسالة الإمام كانت ذات أثر فكري وثقافي بالغ، لمدة جاوزت ثلاثة قرون أو أربعة بعد كتابتها، فقد شرحها كثيرون، ورد عليها كثيرون، وتبناها آخرون، فكانت كتابًا محوريًّا في كل تلك المراحل الزمانيَّة التي تشكلت فيها معارف الوحي وتفرعت إلى فروع وتنوعت إلى علوم وفنون، وعلوم مقاصد، وعلوم وسائل، وما إلى ذلك، ولم يأتِ من يقول قولًا فصلًا في هذه الإشكاليَّة يعيد للأمَّة شيئًا من وحدتها الفكريَّة حول أصولها حتى يومنا هذا فيما نعلم.
فلم ثارت هذه الإشكاليَّة؟ وكيف أخذت هذا المدى، وكتاب الله واضح صريح، وآياته بيِّنات مبيِّنات، وسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تقل وضوحًا وبيانًا وصراحة عما في الكتاب، مع تنوعها إلى قول وفعل وتقرير يسمح بأن يستخلص منها موقف سليم؟ فنقول وبالله التوفيق:
إنَّ الإمام الشافعي وقد أعدَّ رسالته في المرحلتين البغداديَّة والقاهريَّة المصريَّة، حيث أعدَّها مرة لتكون مقدمة لكتابه الفقهي القديم ألا وهو (الحجة)، الذي تلقاه عنه تلامذته البغداديُّون: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والكرابيسي، والزعفراني، ومن إليهم، ثم لما ترك العراق إلى مصر، ووجد نفسه يواجه تراث مالك والليث بن سعد وآخرين مع اختلاف البيئة واختلاف نظرتها إلى تلك الإشكاليَّات؛ اضطر لأن يقدم فقهًا جديدًا لم يبق من الفقه القديم إلا سبع عشرة مسألة يزيد بعضهم فيها وينقص، أعدَّ كتابه (الرسالة)، وأرسل به إلى ابن مهدي ثانية بعد أن أعاد النظر في مقدمة كتابه البغدادي (الحجة)، وجعل هذه الرسالة مقدمة لموسوعته الفقهيَّة المصرية وهي (الأم)، وتلقاها تلامذته: الربيع والبويطي والمزني المصريون، وهي المنتشرة اليوم والذائعة الصيت بعد أن ضاعت موسوعته (الحجة) التي حملت فقهه في بغداد بمقدمتها وبأكثر ما جاء فيها، وما حفظ منها بقي أقوالًا منثورة؛ للمقارنة بين فقهه الجديد وفقهه القديم في نحو (المهذب) للشيرازي، و(المجموع) للنووي، ومن إليهما من الشافعيَّة، فما حقيقة الأمر؟ وهل تستقل السنَّة بالتشريع أو لا تستقل بذلك؟
سنحاول أن نأتي على تفصيل هذه القضيَّة بما يلهمنا الله وما نصل إليه، محاولين أن نتناول الأمثلة الشائعة التي يستشهد بها كل أولئك الذين قالوا بجواز استقلال السنَّة بالتشريع عقلًا ووقوعه شرعًا، واستدلوا له بنماذج ثلاثة هي:
- تحريم لحوم الحمر الأهليَّة.
- تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
- تحريم أكل كواسر الطيور.
أمَّا الإمام الشافعي فقد حاول أن يتحدث عن سنن تكاد تشمل جُل أبواب الفقه، وهي عنده من السنن التي استقلت عن القرآن، وليس لها في القرآن أصل، إلا الأصل العام وهو: إيجاب القرآن طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيها ما هو مستقل بالتشريع، وفيها ما دار على أصل من الكتاب الكريم.
وهو ما أورده في باب البيان الرابع الفقرات (96 – 103) وقد قسم الإمام البيان إلى أنواع، في البيان الأول والثاني أورد أمثلة من القرآن على بيان القرآن بالقرآن، وفي البيان الثالث أورد نماذج لما ورد له أصل في القرآن المجيد مجملا، وجاءت السنة ببيان تفاصيله.
وتقدم أن البيان الرابع في السنة المستقلة بالتشريع والبيان. وفي البيان الخامس فيما يكون بيانه بطريق استنباط المجتهدين واستدلالاتهم.
وقد عُرضت هذه القضية على لجنة الفتوى بالأزهر، سنتعرض لها -إن شاء الله تعالى-في الحلقة الثانية.
[1] الموافقات، للشاطبي، بتصرف.
[2] الرسالة، للشافعي، شرح وتعليق عبد الفتاح بن ظافر كبارة، الفقرة 48، وقارن بالفقرة السابقة 46.
[3] الرسالة، الفقرة 570، و571.
[4] الرسالة الفقرة، 314.
[5] الرسالة، الفقرة 293، 294.