Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مناسك الحج في تجارب الأنبياء

د.طه جابر العلواني.

نقترب-الآن- من أيام الحج، المعلومات واللَّيالي العشر التي عظَّمها الله (عزَّ وجلَّ)، وأمر بتعظيمها، وشهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون القادرون فيه حجهم ويقضون تفثهم، ويوفون فيه نذورهم، ويقدِّمون فيه هديِّهم وأضاحيهم ويطوَّفون بالبيت العتيق.

وذو الحجَّة واحد من الأشهر الأربعة الحرم التي لم تمسّ أو تُخرق حرمتها في جاهليَّة ولا إسلام، وقد حرَّم الله موقع الحرم وجعله موقعًا لا تنتهك حرمته لا في حيوان ولا زرع ولا ضرع، كما حرَّم الأشهر الحرم، ومنها ذو الحجَّة، وجعل الدماء فيه مصونة محفوظة.

وإذا أحلَّ الله (سبحانه) القتال في الحرم لإيقاف فتنة إكراه المشركين من آمنوا بالله ورسوله على تغيير دينهم، ومقاتلتهم على ذلك، وتعذيبهم لفتنتهم عن دينهم فإنَّ ذلك القتال لم يكن إلا حكمًا مؤقتًا تضافرت الدواعي العادلة عليه، لتعود بعد القضاء على «الفتنة عن الدين» والقضاء على «شبح الإكراه» سائر الأمور إلى الأصل؛ وهو حرمة القتال أو الصراع أو الجدال أو النـزاع في الحرم، وحرمة ذلك -كلِّه- في الأشهر الأربعة الحرم.

ولأول مرة تعرف البشريَّة بقعة «محرَّمة» من الأرض لا قتل فيها ولا صراع؛ لتكون بيئة يستطيع الناس فيها أن يتعرَّضوا لنسائم السلام والأمن والطمأنينة، فلا ينفَّر صيدها، ولا يقطع نباتها، ولا يختلى خلاها.

يستطيع الإنسان والحيوان والنبات أن يشعروا بحالة الأمن والطمأنينة؛ ليُدرك الإنسان مزاياها، فتكون عنده فرصة للمقارنة بينها وبين حالات الرعب والخوف والحرب والنـزاع، فيتخلى عن ذلك؛ ليدخل في «حالة السلم»،يقول المولى(سبحانه وتعالى): ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (البقرة:208).

إنَّ الحج -بأماكنه ومشاعره ومناسكه- تجسيد وتمثيل حيٌّ تبرز فيه أمام بصيرة الحاج وقلبه تجارب النبيِّين كافَّة؛ وفي مقدِّمة تلك التجارب النبويَّة المباركة تجربة أبينا آدم (عليه الصلاة والسلام)، فإنَّ جوهر تجربة آدم يكمن في كيفيَّة ضبط النفس، وعدم السماح للنـزوع الماديِّ الكامن في فطرتها أن يستدرجها إلى المخالفة، بحيث يمكن أن يهوِّن عليه الوقوع في معصية الله عندما يُلوَّح له بالخلود والملك الذي لا يبلىٰ والمجد الذاتيِّ.

وحين يتلقى آدم من ربه كلمات التوبة فيتوب إلى الله ويقبل الله توبته؛ يُبيِّن له أنَّ الخلود الحقيقيَّ يتحقق بالكمال النفسيِّ والسموِّ الروحيِّ، والإيمان بالتوحيد المطلق، وهذا ما يحقق للإنسان قيمته الكونية، فليحاول الإنسان تجنب الخطأ، والابتعاد عن الذنب. ولكن حين يقع في شيء من ذلك فلا ينبغي أن ييأس، ويسترسل في المعاصي كما يريد له الشيطان، بل عليه أن يُسارع إلى التوبة وتلقي كلمات الله فيها، وسيجد الله توابًا رحيمًا، وسيخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:53).

ثم تأتي تجربة سيدنا نوح الذي كُلِّف بأن يخرج قومه من الشرك والكفر الطوطميِّ، وما يترتَّب على ذلك من سقوط في مختلف الخطايا والرذائل، فلبث فيهم: ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا﴾ (العنكبوت:15)؛ صابرًا مثابرًا، يعمل في دعوتهم ليلا ونهارًا، جهارًا وإسرارًا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا عن الله ورسوله، فكان لابد أن يأخذهم الطوفان؛ لأنَّهم ملأوا الأرض رذائل وأقذارًا وخبائث، لم يعد ينفع معها إلا الغسيل الشامل الذي يطهِّر الأرض منهم ومما صنعوا، بحيث تصبح مهيئة للعمران من جديد، ولاستقبال أجيال جديدة، لعلها تكون أكثر استعدادًا للتزكي والطهر والنقاء.

ثم نبلغ تجربة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم(عليه الصلاة والسلام)، التي كانت مركزةً على مواجهة الشرك القائم على الإيمان بتأثير الكواكب الآفلة وظواهر الطبيعة؛ ليردَّ الناس إلى الإيمان بالله خالق الطبيعة ومسخِّرها، وخالق الإنسان ومكرِّمه ومستخلفه، وفاطر السماوات والأرض، المهيمن على «البنائيَّة الكونيَّة» كلِّها، فلا غرابة أن يخصَّ إبراهيم بلقب «الخليل–خليل الرحمن-»، ويبوِّئ الله له مكان البيت باعتباره «مركز البنائيَّة الكونيَّة» المقام على الأرض؛ حيث أمر إبراهيم ولده إسماعيل برفع القواعد من البيت، والطواف حوله سبعًا، وتطهيره دائمًا وأبدًا للطائفين والعاكفين والركَّع السجود، وأمره بأن يؤذِّن في الناس بالحج؛ ليطوَّفوا بالبيت العتيق، وليشهدوا منافع لهم؛ فإذا ضَعُف أو تضاءل الإنسان أمام أيِّ كوكب، أو أيِّ جزء من «البنائيَّة الكونيَّة الطبيعيَّة» فإنَّ طوافه بالبيت المحرم وأداءه مناسكه سوف يُعيد له كرامته ويُشعره بسيادته على الطبيعة، وبأنَّه وارث لرسالات النبيِّين كافَّة، مؤتمن على تراث «أمَّة الأنبياء الواحدة».

ثم نأتي إلى تجربة أخرى لا تقل خطورة وأهميَّة عن تجربة إبراهيم؛ ألا وهي تجربة موسى(عليه الصلاة والسلام)، وقوامها الكلام الإلهيُّ المباشر، القائم على حوار مقدَّس بين الله الخالق وسيدنا موسى المخلوق، حوار بين الله وإنسان تلقى الكلام الإلهيَّ عبر حواس وقوى وعي صنعها الله فيه على عينه؛ لكي يدرك الإنسان من هذه التجربة مدى أهميَّته، ومدى الإمكانات التي يمكن أن يتمتع بها حين يتصل بالله، ويفارق ضعفه وهواه، ويتطهر ويتزكى، وفي التجربة الموسويَّة تبرز وقائع ليلة جبل الطور، ثم تلقِّي موسى للعهد والشريعة، والآيات التسع البسيطة في مظاهرها، العميقة في آثارها؛ حيث انهزمت بتلك الآيات أعتى دكتاتوريَّة متألِّهة أمام من التُقط من البحر طفلا؛ ليتربَّى في قصر الطاغية، إلى أن يشتد عوده ويبلغ السعي، وتجربة موسى(عليه الصلاة والسلام) تجربة غنيَّة جدًّا، سواء في هزيمة الدكتاتوريَّة ونظم الاستعباد، وتحرير المستضعفين بنوع من أنواع العصيان المدني، أو في قهر الطبيعة من بحار وجبال وصخور، وهزيمة السحر والشعوذة والخرافة باعتبارها من أدوات الطاغوت والطغاة. فحين يتذكر الحاج موسى يتذكر كيف يتحرَّر المستضعفون المستعبدون من الطغاة؟ وكيف يمكن أن تُهزم وسائلهم؟ وكيف يستطيع المستضعفون أن يمتلكوا من وسائل القوة والتمكُّن ما يقهرون به الطبيعة والدكتاتور المتألِّه، وهو إنسان انسلخ عن بشريَّته بخياله المريض، فألَّه نفسه، وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (القصص:38) أو إن كان لكم أرباب من دوني فـ: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ (النازعات:24).

ثم تأتي تجربة سيدنا عيسى ابن مريم(عليه الصلاة والسلام)، الذي فعل أفعالًا خارقة كثيرة بأمر الله وإذنه، بالرغم من أنَّه لم يولد بين أبوين (أب وأم)، بل كانت ولادته ذاتها خارقة تحمل معنى قهر الطبيعة الإنسانيَّة؛ بأن تكون الولادة الطبيعيَّة بين ذكر وأنثى، فإذا به يولد من أنثى وإرادة إلهيَّة، تمثَّلت بالكلمة: «كن» فكان.

ثم شاء الله أن يجمع خلاصات تجارب الأنبياء والرسل -كلِّهم- في خاتم رسله وأنبيائه، صاحب الرسالة العالميَّة، المولود والمبعوث في الأرض المحرَّمة عند بيت الله المحرَّم، ومَنْ أولى من خاتم النبيِّين بأن يكون الوارث لتراث المرسلين كافَّة،والأمين على تجارب النبيِّين قاطبة؟! وهو النبيُّ الذي خُتمت به النبوات، وأُنزل عليه الكتاب الحاكم وشريعة التخفيف والرحمة وحمل الخطاب العالميِّ.

والحج هو الركن الذي يمثِّل على الأرض «وحدة أمَّة الأنبياء» و«وحدة العقيدة» التي أرسلوا ليدعوا الناس إليها ويعلموهم أركانها، ويعلِّموا البشريَّة وحدة الغاية والوجهة.

وإذا كان الإسراء -من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصىٰ ثم العودة إلى المسجد الحرام مرة أخرى- قد رمز إلى عمليَّة تسليم قيادة البشرية إلى الدين إلى رسول الله محمد، كما أنَّ قصص الأنبياء والدروس المستقاة منها -كلّها- قد قام القرآن بالتصديق عليها، فإنَّ مناسك الحج تُجسد ذلك كلَّه؛ والأرض المحرَّمة هي النموذج المجسَّم الذي ينبغي للبشريَّة أن تسعى لجعل الأرض -كلّها- مثله؛ تجد البشريَّة فيها السكن والرخاء والأمن والأمان والعمار وحفظ الدماء والنفوس والحقوق.

أمَّا كيف نربط بين مناسك الحج بتفاصيلها وبين الدروس المستفادة من تجارب النبوات، فذلك ما سنتناوله في حلقة تالية بإذن الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *