أ.د.طه جابر العلواني
جعل الله أماكن عبادته أماكن خاصَّة به، رفع قدرها وجعلها خاصَّة ليُذكر فيها اسمه، وحصر نسبتها إليه، وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا؛ أي: لا تدعوا فيها أو تذكروا مع الله أحدًا، ذلك لأنَّ هذا الإنسان أحوج ما يكون وهو يمارس الحياة الدنيا إلى أماكن يستريح إليها وفيها بعد العناء الشديد، وبعد المنافسات والصراع، وما في الحياة من تدافع ومشاق؛ ولذلك فإنَّه -جلَّ شأنه- قال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ*رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ (النور:36-37)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة:114)، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ (الجن:18)، وعلل الإذن بالقتال لحماية أماكن العبادة والمحافظة عليها، فقال جلَّ شأنه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:39-40)، كل ذلك ليجعل هذه الأماكن أماكن تستريح فيها النفوس والقلوب والعقول إلى ذكر الله، ويبتعد الجميع بها عن الصراعات وكل ما يخرج بها عن طب القلوب وإراحة النّفوس، وسيدنا رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- كان حين يأمر بلالا برفع الأذان يقول له: “أرحنا بها يا بلال”، فهي أماكن لراحة القلب والعقل والنفس والوجدان، والخروج من الصراعات والمدافعات الدنيويَّة، وإعطاء الناس وقتًا يفكرون فيه بعقولهم وقلوبهم، لا بعواطفهم الجياشة ومشاعرهم المتقلِّبة.
وكنا نتمنى أن يحافظ الجميع على حُرمات المساجد وحياديّتها وجعلها بيوتًا لله –تبارك وتعالى- كما هي، يستظل الجميع فيها برحمته -سبحانه وتعالى- ويطلبون رضاه، ولكن في فترات كثيرة من فترات التاريخ انتُهكت تلك الحرمات، واعتدي على المساجد، ولم نرَ مرحلة من المراحل اشتد فيها الاعتداء على المساجد وحرمتها مثل هذه العقود الأخيرة من السنين، التي انتشرت فيها الدكتاتوريَّات المستبدة، فكان الناس حين يلجؤون إلى المساجد يظنون أنَّ الطغاة سوف يتهيَّبون ملاحقتهم فيها، أو إغلاقها في وجوه الناس، أو تدميرها على الخائفين اللاجئين إليها أو المقيمي الصلاة فيها، لكنَّ الاستبداد لم يُبقِ في نفوس المستبدِّين شيئًا من إيمان أو حب أو خوف من الله أو رجاء، وها هي المساجد تتطاير قبابها ومآذنها وتهدم بالمدافع والدبابات والطائرات على رؤوس أهلها، وتتعرض في بعض الأماكن للنسف والتفخيخ وقتل الأئمة وتدميرها، ويحوِّلها البعض إلى ساحات للمنافسات الانتخابيَّة والصراعات السياسيَّة، فيعلوا المنابر هتَّافون يهذُون بما يعرفون وبما لا يعرفون، وقد يتحول المسجد إلى قاعة للتصفيق أو التصفير أو ما إلى ذلك.
فإلى الله نشكوا هؤلاء الذين أفسدوا علينا دنيانا وأفسدوا علينا ديننا، ولاحقونا حتى في مساجدنا؛ ليحرمونا من لحظات راحة روحيَّة أو وجدانيَّة نختطفها من أوقات الصراع والنزاع والتدافع؛ لتجديد الطاقات وإعادة الحيويَّة. إلى الله نشكوا أولئك الذين دمَّروا مساجدنا بالمفخَّخات والقنابل والمدافع والدبابات، ونشكوا إلى الله أولئك الذين انتهكوا حرمات المساجد بحجة أنَّهم لا يجدون ساحات صراع يستطيعون أن يصارعوا فيها خصومهم إلاها!
فهلا ترك لنا هؤلاء وأولئك مساجدنا ننعم فيها بشيء من راحة روحيَّة، ونعالج فيها أمراضنا النفسيَّة ومشكلاتنا الحياتيَّة، ونعيد فيها بناء علاقتنا بالله -جلَّ شأنه- لعلّه ينظر إلينا بعين عنايته، ويهدينا سبله، ويخرجنا من ظلمات هذه الحياة المضطربة إلى النور. فجنبوا -يرحمكم الله- مساجدكم صبيانكم وسفهاءكم ومجانينكم وسياسييكم ودعاة الحزبيَّة والصراع والتقاتل والتحارب، واتركوها واحات رحمة وراحة وخير وبركة لشعوب أرهقها عناء الاستبداد والاستعباد والاستحمار والاستكراد والجدل والشعوذة والتخريف.