أ.د/ طه جابر العلواني
إنَّ النظر الدقيق في سير النبيين والمرسلين ومهامهم، والأعباء التي حملوها، وما حققوا من إنجازات أو دعوا أقوامهم إليه فخالفوهم وصدوا عن سبيل الله ووقفوا في طريق النبيّين، فسائر تصرفات الأنبياء كانت تجديدًا، فيأتي النبي قومه ليجدد لهم دينهم ودنياهم ويقدم نفسه إليهم باعتباره أسوة ومثالًا ونموذجًا يقتدى به، يبرز ذلك بشكل واضح في مجموعة الرسل والنبيين الذين قص الله علينا قصصهم ونبأنا بأخبارهم، فسيدنا موسى وأخوه هارون كُلِّفا بتحرير بني إسرائيل من استبداد الفرعون، وإعادة بناء بني اسرائيل من جديد، وربط التوحيد بتحريرهم من سلطان الفراعنة، ودراسة تلك الرسالة، وما أنزل الله في التوراة من هدى ونور يبين مصداق ذلك، وكلما طال على بني إسرائيل الأمد، وقست منهم القلوب، وبدأت ظواهر الانحراف عن الرسالة وهداية المرسلين تظهر فيهم؛ بعث الله إليهم من النبيين والمرسلين من يجدد لهم تدينهم.
فالدين نفسه عقيدة وشريعة وقيم ونظم ليس بحاجة إلى التجديد، ولكن ما يحتاج التجديد هو “فقه التدين” لدى الناس، فالناس قد يعمل طول المدى وقسوة القلوب على إحداث تغيير في علاقتهم بالدين، وفي فهمهم له ولدوره، وفي فقههم لما جاء فيه أو اشتمل عليه، وفي هذه الحالة تبرز الحاجة إلى التجديد.
وفي الحالة الإسرائيليَّة برز انحراف خطير بطول المدى وقسوة القلوب، وذلك في “إعلاء شأن الأسباب وتناسي وتجاهل خالق الأسباب والمسبّبات”، وقد كان موسى وهارون قد بذلا جهدًا كبيرًا لجعل التوحيد الخالص النقيّ لدى بني إسرائيل مستقرًا في القلوب والنفوس، سائدًا في التعامل والسلوك، ومع ذلك فقد كان بنو إسرائيل كثيرًا ما تختلط عليهم الأمور فيعظمون من شأن السبب وينسبون إليه صفة التأثير، ويتجاهلون الله رب العالمين، ولقد لفت الله (جل شأنه) أنظارهم إلى ذلك بشكل كبير في لقاء موسى والعبد الصالح، فسيدنا موسى أنزل الله عليه التوراة والألواح، والتوراة فيها هدى ونور وشريعة ومنهاج، وقد سئل عن أعلم أهل الأرض ففاته أن ينسب العلم بذلك إلى العليم الخبير فيقول مثلًا: أعلم أهل الأرض يعلمه الله، فكانت عمليَّة لفت نظره (عليه السلام) إلى عبد صالح لم يؤته الله مثل ما أوتي موسى من كتاب وألواح وهداية ونور، لكنه آتاه من لدنه علمًا سوف يتضح أنَّه قد يرجح على موسى في بعض ذلك العلم، فأخبر الله موسى بأن يذهب إلى مكان حدد له ليلتقي بعبد آتاه الله من لدنه علمًا، فعليه أن يتعلم منه ويسمع ويطيع، والتقى بالعبد الصالح بذلك الشكل الذي بينته لنا سورة الكهف ورجاه أن يتبعه بشرط أن يعلمه في قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾(الكهف:66).
ويأخذ التأديب الإلهيّ مداه ليقول العبد الصالح لسيدنا موسى: إنَّه يخشى أن يفقد موسى صبره على التعلم منه، والعلم يحتاج إلى طالب صبور مستعد لأن يصبر طويلًا حتى يتعلم: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾(الكهف:67–69) وإذا بسيدنا موسى يعد بتواضع أن يكون تلميذًا نجيبًا صابرًا فيقول: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾، فوعد بالصبر وتنفيذ أوامر المعلم، وهما شرطان أساسيان من شروط التعلم واستفادة المتعلم بالعالم، ومضيا، وهنا أخل المتعلم بالشرط الأول الذي هو الصبر إلى أن يحدث له المعلم الذكر، ففقد صبره عندما رأى معلمه يخرق السفينة، فإذا به ينبري ليقول له: ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾(الكهف:70–73)، وهنا يبدو سيدنا موسى ناسيًا لأحداث طفولته التي لو تذكر بعض أجزائها لما وجد نفسه في حاجة إلى التساؤل، فهو في طفولته حين خافت أمه عليه أن يقتله الفراعنه أوحى الله إليها: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(القصص:7)، ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾(طه:38–39)، فقد ألقى أو وضع على خشبة وألقي في اليم وكان غرق من في مثل حاله شبه مؤكد لولا لطف الله (جل شأنه) وما سبق من تقديره بأن يحميه حتى يلقيه اليم بالساحل فيلتقطه آل فرعون دون أن يدرك أحد منهم أنَّه الطفل الإسرائيلى الذي كانوا يخافون منه أن يحرر بني إسرائيل، وسن فرعون شريعة قتل المواليد الذكور من بني إسرائيل؛ لكي لا تكون لهذا الشعب فرصة التحرر من سلطان الفراعنة؛ ولأنَّه نسي ذلك فقد اعترض على خرق السفينة، مع أنَّ الخرق لم يكن بالقدر الذي يؤدي إلى الغرق كما هو الحال بالنسبة للخشبة التي وضع الرضيع موسى عليها وألقي في اليم، فأعطاه العالم فرصة ثانية ومضيا معًا، فرأى العالم غلامًا فقتله فإذا بسيدنا موسىي يقول له: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا﴾(الكهف:74–76)، فسيدنا موسى عليه نزلت الشريعة الإسرائيليَّة شريعة التوراة وفيها: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(المائدة:32)، فأي معلم هذا الذي أمر بالتعلُّم منه وهو يخالف الشريعة بشكل واضح وصريح: ﴿.. قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾(الكهف:74)؛ ولذلك لم يتردد بأن يصف فعله بالمنكر فقال: لقد جئت شيئًا نكرًا، وذكَّره المعلّم بما كان قد اشترط عليه من الصبر حتى يحدث له ذكرًا، ولكن أنَّى له الصبر وهو يرى ما يعتبر جريمة قتل لبريء دون سبب أو عذر، ودون أن يظهر منه شيء يستحق عليه القتل، ولمـّا شعر أنَّ العالم سوف يفارقه طلب فرصة أخيرة، ليتعلم دون اعتراض فيها، فكانت قصة اليتيمين والجدار: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾(الكهف:77).
وقبل أن يفارقه العبد الصالح ذكر له أسبابًا كامنة وحكمًا يمكن إدراكها للمتأمِّل إذا تأمل والمتدبِّر إذا تدبَّر، فخرق السفينة كان إنقاذًا لها من المصادرة ولم يكن الهدف التخريب، وقتل الغلام كان بناءً على تكليف إلهيّ لإنقاذ والدين أراد الله إنقاذهما من شيخوخة يدمرها هذا الغلام ويجعل منها عذابًا شديدًا عليهما، وأمَّا الجدار ففيه رعاية لأيتام كان أبوهما صالحا، فأراد الله (تعالى) أن يبين أنَّ صلاح الأب أو الوالدين له أثر عنده (جل شأنه) في حماية من يتركان والعناية بهما، تفضلًا منه (جل شأنه) عليهما ما دام برهما قد حفظ حق الله (تبارك وتعالى) في حياته، ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾(الكهف:78–82).
ولو عاد سيدنا موسى إلى شبابه لوجد أنَّه قد قتل قبطيًا لم يثبت عليه جرم؛ لأنَّه أراد أن ينتصر لإسرائيليّ من قومه خاف عليه من ذلك القبطيّ فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه، كما أنَّه حين ذهب إلى مدين وأجر نفسه لشعيب -عليه السلام- حيث قد سقى للفتاتين ورفض أن يكافأ على ذلك مع أنَّه كان جائعًا ومعدمًا ليس معه من المال ما يكفي لشراء قوت يومه فسقى لهما: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾(القصص:24).
فذلك كله يندرج في إطار تجديد تم على يدي صاحب الرسالة نفسه، وعلى يديه ظهر نموذج التجديد.
أمَّا سيدنا عيسى –عليه السلام- فقد صرح بمهمته التجديديَّة حين بعث إلى بني إسرائيل، وكان من أهم ما حمله إلى بني إسرائيل هو إحداث تجديد فيهم يسمح لهم بإدراك أنَّ الله (تبارك وتعالى) وراء كل شيء؛ ولذلك حين ما كان يريهم الآيات التي زود بها كان يربط تلك الآيات مباشرة بالله (سبحانه وتعالى): ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(آل عمران:49). وذلك كله يصب في إعادة تصحيح التوحيد وتجديد فهمهم له والتزامهم به ولم ينسخ التوراة.
ثم نجد الدور التجديدي أيضًا عند داوود وسليمان –عليهما السلام-، أمَّا داوود فقد جدد الخلافة في بني إسرائيل ليعطي للشعب الإسرائيليّ فرصة التطهر النهائي من آثار الاستبداد الفرعونيّ والحاكميَّة الإلهيَّة المباشرة التي جاءتهم بعد ذلك، فكان داود -عليه السلام- أول خليفة في بني إسرائيل بعد موسى وهارون، ولم تكن خلافته مثل خلافة الصديق ثم الفاروق لرسول الله ثم عثمان ثم علي -رضوان الله عليهم أجمعين- بل كانت خلافة نبي، وأمر أن يحكم الناس بالقسط وألا يشتطّ أو يبتعد عنه، وأوتي آيات أخرى مناسبة لمهامه، وذلك بأن علمه الله صنعة لبوس: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾(الأنبياء:80)، ثم اختار لهم الله (جل شأنه) سليمان ملكًا فهذا الشعب الإسرائيليّ كان نموذجًا فريدًا عاش في ظل الاستبداد الفرعونيّ ثم الحاكميَّة الإلهيَّة والخلافة النبويَّة متمثلة بداوود والملكيَّة النبويَّة ممثلة بسليمان ثم جاء دور ملوك عاديّين، كل ذلك من أجل أن يخلصوا لله قلوبهم ويمارسوا التوحيد الخالص له (جل شأنه) لا يشركون به شيئًا، ويتخلّصوا من آثار الاستبداد. فهل تحقق ذلك فيهم؟
ليقرأ من شاء القرآن الكريم ليعرف إلى أي مدى استطاع هؤلاء التخلص من الفقة السيئ للتدين الذي أصابهم وعاشوا عليه.