أ. محمد الدخاخني
[استعراض ونقد لكتاب: محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي، ط8، نقد العقل العربي؛ 3 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠١١)، ٣٩٢ ص.]
محمد عابد الجابري، مفكر عربي مغربي، من أبرز الفاعلين في “خطاب ما بعد ٦٧”، وله إسهامات متنوعة شاغلها الأساسي إعادة النظر في المشروع النهضوي العربي، واستئناف العرب للفعل الحيوي والمشاركة التاريخية في الزمن الراهن. و”العقل السياسي العربي؛ محدداته وتجلياته” (١٩٩٠) هو أحد أربعة أجزاء يشملها “نقد العقل العربي”، المشروع الرئيس للجابري (١٩٣٦-٢٠١٠)، وهو الكتاب الثالث من حيث ترتيب الصدور في السلسلة، والأقل حظا من ناحية الجدل الأكاديمي والاشتباك الفكري، مقارنة بـ”تكوين العقل العربي” (١٩٨٢) و”بنية العقل العربي (١٩٨٦) “، لكنّه لا يقل عن قرناءه أهمية أو ذيوعا أو نشرا (الطبعة الثامنة صدرت في أيلول/سبتمبر ٢٠١١).
-١-
يضم الكتاب مَدخلا عَاما مطوّلا، وعشرة فصول وخاتمة. أخذ المَدخل عنوان: “مقاربات في المنهج والرؤية” (٤٦ صفحة؛ عشر فقرات)، وهو “منهجي أساسا”، وفيه يستعرض الكاتب المفاهيم والتصورات التي سيتم توظيفها على طول مراحل الدراسة، والرؤى التي ستؤطر نظره وهو يقرأ الموضوع. وواقع الحال أن هذا المَدخل يَصلح مثالا على المسلكيات والتدبيرات المعرفية التي يتوسلها الجابري بينما يجترح التأليف والبحث، بل يَصلح أن يكون مَدخلا لفهم العقلية الجابرية نفسها، وتكتيكاتها واستراتيجياتها؛ فهو ليس مُجرّد بوابة تقعيد وتنظير تستهدف إضفاء المشروعية على الأدوات والممارسات المستخدمة في عملية البحث، وإنما أيضا اشتباك والتحام بالكلمات مع غير مدرسة ومذهب فكري، مع الماركسية الاستالينية – أو الرسمية – والأنثروبولجيا المعاصرة والدرس الخلدوني. وفيه يتأكد لنا الجابري في حُلّته البيداغوجية الفريدة، في ثوبه التربوي الذي تميز به عن الجميع، أو بعباراته هو: “الهاجس التربوي الحاضر في مختلف كتاباتنا” (ص. ٥٣)، وهو الهاجس الذي لم ينفك عنه مُذ كان مُعلما بالابتدائي إلى أن صار أستاذا للفلسفة والفكر الإسلامي في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس (منذ عام ١٩٦٧).
مفاهيم ثلاثة أساسية سوف يتعامل بها الكاتب مع موضوعه، هي: “اللاشعور السياسي” و”المجال السياسي” و”الكتلة التاريخية” (لم يُذكَر هذا الأخير في المَدخل لكن في الفصل العاشر حين تعرّض المؤلِّف لتحليل “الثورة العباسية” ودولتها (ص. ٣٢٩)). إضافة إلى ثلاثة مفاتيح أو محددات، هي: “القبيلة” و”الغنيمة” و”العقيدة”. ويناط بالمفاهيم الأساسية مهمة تجاوز العوائق الابستيمولجية، كثنائيات البنية الفوقية/البنية التحتية ومجتمعات رأسمالية/مجتمعات قبل رأسمالية والفكر/الواقع، بينما “المفاتيح” هي التي ستتم قراءة التاريخ السياسي العربي بواسطتها. في معجم الجابري، يعني “اللاشعور السياسي” مقلوب ما يعنيه عند الفرنسي ريجيس دوبري؛ “فإذا كانت وظيفة مفهوم “اللاشعور السياسي” عند دوبري هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة فإن وظيفته بالنسبة إلينا – يقول الجابري – ستكون بالعكس من ذلك إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر” (ص. ١٣). في الوقت الذي يستعمل فيه مفهوم “المجال السياسي”، في سياق مُقارن، بهدف الإلمام بسياقات الحداثة السياسية في التداول العربي. و””الكتلة التاريخية” لا تعني مجرد تكتل أو تجمع قوى اجتماعية مختلفة، ولا مجرد تحالفها، بل تعني كذلك التحام القوى الفكرية المختلفة (الايديولوجيات) مع هذه القوى الاجتماعية وتحالفها من أجل قضية واحدة. إن الفكر هنا يصبح حزءا من بنية كلية وليس مجرد انعكاس أو تعبير عن بنية ما” (ص. ٣٣٠)، ما يعني أن نحته يتغيّا تجاوز البنية الفوقية/البنية التحتية كثنائية صلبة. أمّا فيما يتعلق بالـ”مفاتيح”، فـ”القبيلة” هي ما يُعبّر عنه بالقرابة أو القرابة المطوّرة، و”هي بكيفية إجمالية ما سبق أن عبر عنه ابن خلدون بـ”العصبية” […] و[ما] نعبر عنه نحن اليوم بـ”العشائرية” […] [و] القبيلة بهذا المعنى حاضرة، في هذه الصورة أو تلك، في كل سلوك سياسي. إنها في المجتمعات الصناعية المتقدمة تشكل أحد مكونات “اللاشعور السياسي” فيها. أما في المجتمعات الأقل تصنيعا والمجتمعات الزراعية والرعوية فإنها تحتل مركزا أساسيا ليس فقط على “هامش الشعور” بل في قلب “الشعور” ذاته” (ص. ٤٨). و”الغنيمة” هي “الدور الذي يقوم به العامل الاقتصادي في المجتمعات التي يكون فيها الاقتصاد قائما أساسا – وليس بصورة مطلقة – على “الخراج” أو “الريع”..” (ص. ٤٩)، وهو المفتاح أو المحدد الذي سيمثل أكثر العوامل حسما في قراءة الجابري للتاريخ السياسي العربي. أخيرا، المقصود بـ”العقيدة” هو “مفعولها على صعيد الاعتقاد والتمذهب […] [و]فعل الاعتقاد هو المهم وليس مضمونه” (ص. ٥٠-٥٢). ويلخص الجابري مراده من هذه المحددات في قوله: “وبعبارة فلسفية يمكن القول مع شيء من التجاوز إننا نستعمل هذه الألفاظ (قبيلة، غنيمة، عقيدة) بالمعنى الترانسندنتالي […] أي بوصفها مفاهيم أو قوالب […] سابقة للفعل السياسي، تؤسسه وتمده بالطاقة الضرورية له كفعل تضحية وكفعل تحريض” (ص. ٥٢).
-٢-
تنقسم العشرة فصول التي يجمعها الكتاب إلى قسمين: ستة فصول يناقش فيها الباحث تمظهرات المحددات الثلاثة للعقل السياسي العربي (القبيلة، الغنيمة، العقيدة) كما تكوّن تاريخيا، من خلال الأحداث السياسية، على مدار أربع مراحل أساسية هي: الدعوة والدولة والردة والفتنة؛ وأربعة فصول تتناول التجليات النظرية – أو الايديولوجيات السياسية – الجبرية (دولة “الملك السياسي”) والإمامية (يُقارن فصل “ميثولوجيا الإمامة” مع أحمد علي زهرة: العقل العربي بنية وبناء (2009)) و”التنويرية” والسلطانية (فقه السياسة). ومن ثمة فالكتاب، كما يتوضح من هذه العنوانات، سيقف من الناحية التاريخية عند العصر العباسي الأول (١٣٢-٢٣٢ هـ، ٧٥٠- ٨٤٧ م)؛ فـ”ما حدث بعد ذلك هو استعادة، بصورة أو بأخرى، لما سبق أن تقرر قبل هذا العصر أو خلاله” (ص. ٦).
يقرر الجابري أن “الممارسة السياسية في الحضارة العربية الإسلامية بدأت مع ظهور الإسلام” (ص. ٣٥)، ويتوضح مفعول “العقيدة” بقوة في الجماعة الإسلامية الأولى التي تكوّنت من “أحداث الرجال وضعفاء الناس”، وقد أثّرت طبيعة هذه الجماعة والطريقة التي تبنينت عليها في معاملة مجتمع قريش لها؛ فكيف استطاعت مجموعة من الضعفاء والمضطهدين النجاة من بطش ودحر قريش، وما مفعول “القبيلة” في ذلك؟ ثمة علاقات قبلية معقدة “لم تكن تسمح لقريش بتصفية رجال الدعوة المحمدية لأن أي اعتداء جسماني/دموي على أي فرد من أعضاء القبيلة [وهنا نستثني العبيد والموالي] كان سيفجر الوضع في مكة تفجيرا، سيشعلها حربا أهلية شاملة، ولذلك استطاعت الدعوة المحمدية أن تبقى حية تحت حماية نعرة الأقارب ونظام الجوار. غير أن هذه العلاقات نفسها لم تكن، من جهة أخرى، تسمح لتلك الدعوة بالانتشار والانتصار..” (ص. ٨٨)، وبالتالي “[فـ]”القبيلة” قد قامت بالنسبة للدعوة المحمدية بدورين مختلفين تماما: فمن جهة مكنت خصومها، وهم الملأ من قريش، من ضرب حصار ضدها […] ومن جهة أخرى وفرت “القبيلة” نفسها الحماية والمنعة للرسول (ص) أولا، ولأصحاب العشائر والقبائل من المسلمين ثانيا…” (ص. ٩٦). “ومع ذلك فـ”القبيلة”، ليست في نهاية التحليل إلا الإطار الاجتماعي الذي بواسطته يتم كسب “الغنيمة” والدفاع عنها، وبالتالي فـ”الغنيمة” هي التي تحكم، في نهاية التحليل، “مفعول القبيلة” (ص. ٩٨)، “وهي التي تضفي المعقولية والتاريخية على صراعات “القبيلة” (ص. ١٦٤).. “ومن ثمة تصبح “الغنيمة” من جملة الحوافز التي تحرك البعض على الأقل – خصوصا والمسلمون الجدد لم يكونوا قد تشبعوا بعد بروح الرسالة -” (ص. ١١٣)، “والدعوة المحمدية قد تحولت إلى دولة، أو على الأصح نجحت في إقامة دولتها، يوم غدا في إمكانها تجنيد الرجال والحصول على المال” (ص. ١٦٥)، (يُقارن مع هشام جعيط في: في السيرة النبوية؛ تاريخية الدعوة المحمدية في مكة (٢٠٠٧))… وسوف يتجلى عامل “القبيلة” كأقوى ما يكون في تولية أبي بكر الصديق، كما سيبرز عامل “الغنيمة” في حروب الردة التي قادها، بينما ستجتمع العوامل الثلاثة في مرحلة الفتنة وتتشابك بشكل يصعب معه الفصل بينها.
يعرض الجابري المفاتيح الثلاثة (العقيدة، القبيلة الغنيمة) كأكثر ما يمكن أن يفسر لنا ما جرى في تاريخنا، فما تمتلكه هذه المفاهيم من اقتدار تفسيري حيوي وفعال، قادر على تقديم “كشوفات” معرفية و”فتوحات” مداركية، يعز نظيره في مفاهيم أخرى، أو – على أقل تقدير – له الأولوية “الإبداعية” على أي “نظّارات” أخرى. وهذا ما يمكن أن نلمسه في تحليل حدث تاريخي هائل بحجم “الفتنة”؛ إذ “كان عليّ [بن أبي طالب] معارضا لعثمان باسم “العقيدة”. وعندما بويع بالخلافة […] أراد أن يُبطل مفعول “القبيلة” و”الغنيمة” مرة واحدة ويجعل الأمر كله لـ”العقيدة”. وكان في ذلك نوع من الممارسة اللاسياسة في السياسة. لقد كان لا بد، في هذه الحالة، أن تتزعزع صفوفه ويتقاعس الناس عن النهوض معه. […] لقد فرضوا عليه قبول التحكيم، ثم احتجوا عليه لمَّا قبله واتهموه بِـ”الكفر” (= الخيانة للقضية) وكان ذلك هو موقف الخوارج… أما أشياعه المخلصون له فلقد كان فيهم من يستجيب لطلبه وبلاغته متحمسا، وهذا قليل، وكان منهم من لم يكن مقتنعا ولا راغبا في القتال من أجل “قضية” لا تؤطرها “القبيلة” ولا تحركها: “الغنيمة” (ص. ١٩٥).
-٣-
وجد مفهوم “المجال السياسي” فعاليته عند تشريح واحدة من “تجلّيات” العقل السياسي العربي، عنينا الجبرية أو حكم بني أمية أو المُلك السياسي، “[فـ]”العقد السياسي” الذي اقترحه معاوية وطبقه بصورة واسعة، على الأقل في مجال “المواكلة” والاشراك في “الغنيمة” (= العطاء السياسي) والتعامل مع الخصوم السالكين مسلك المعارضة السلمية [لم ينازعوه المُلك] بهذا النوع من “الليبرالية” قد فتح الباب أمام قيام “مجال سياسي” تمارس فيه الحرب ضد الأمير بواسطة “الكلام”، أي السجال الايديولوجي..” (ص. ٢٣٨). وقد جاء هذا “العقد” ضدا لحملات “تسييس المتعالي” و”التعالي بالسياسة” التي أقدم عليها الخوارج، والتي حاولت أن تنتقل “بمسألة الحكم من إطار “القبيلة” إلى مستوى “العقيدة”” (ص. ٢٤٠) ، تحت شعار “لا حكم إلا لله”. ولأنه “عقد” في إطار “القبيلة” فقد جاء محكوما بـ”حتمياتها الداخلية” (ص. ٤٩)، ما أنتج ايدولوجيا الجبر والتسيير؛ “الأمور في “القبيلة” محكومة بجبرية لا ترحم. ومن هنا يجب القول إن “العقيدة” في “القبيلة” تقوم على الجبر، فايديولوجيا “ألقبيلة” ايديولوجيا جبرية بطبيعتها. ذلك لأن ما يجعل من القبيلة “قبيلة” وليس جماعة فقط هو ذوبان الأفراد فيها. إنهم لا يعبرون عن إرادتهم بل عن إرادتها هي وبالتالي لا يتحملون المسؤولية كأفراد بل تتحملها هي نيابة عنهم” (صص. ٢٥٩-٢٦٠).
و”فقه السياسة” الذي دوّن ونُظر له بعد ذلك سيظل “محكوما بثلاثة ثوابت: (١) ضرورة الإمام (= الدولة)، (٢) لزوم طاعة الإمام (ما لم يأمر بمعصية)، (٣) نظام الحكم بعد الخلفاء الراشدين ملك دنيوي. وواضح أن هذه الثوابت تسد الباب نهائيا أمام أية نظرية إسلامية في الحكم، وبالتالي فما يسمى بـ”نظرية الخلافة” عند أهل السنة إن هو إلا اسم بغير مسمى..” (ص. ٣٥٧). “أما القول بوجود “نظرية” في الحكم الإسلامي، في كتابات المتكلمين والفقهاء، فهو قول لا يعبر إلا عن رغبة في وجود مثل هذه النظرية، وهي لم توجد ولن توجد لأن الشرط الضروري في قيام نظرية إسلامية في الحكم غير متوفر، نعني بذلك وجود نص صريح من القرآن أو السنة يشرع للمسألة السياسية: لشكل الدولة واختصاصات رئيسها وكيفية تعيينه ومدة التّعيين…إلخ” (ص. ٣٥٩) (يُقارن مع “طوبى الخلافة” عند عبد الله العروي في: مفهوم الدولة (١٩٨١)).
“من الدعوة إلى الدولة، دولة النبوة والخلافة، ومن هذه إلى “الملك العضوض” والدولة السلطانية: مسار واحد، هو مسار تاريخ ظهور وتشكل العقل السياسي العربي. وإذا جاز لنا أن نستعير هنا مصطلح هيغل الذي جعل مراحل فينومينولوجيا الروح (= تاريخ ظهور العقل) ثلاثا: مرحلة الوعي الذاتي ومرحلة الوعي الموضوعي ومرحلة الوعي المطلق، أمكن القول إن العقل السياسي العربي قد بدأ، بدوره، بمرحلة الوعي الذاتي خلال الدعوة المحمدية (التي بدأ فيها الوعي بالأنا الإسلامي) ثم انتقل إلى مرحلة الوعي الموضوعي (قيام المجتمع السياسي الإسلامي ودخوله في صراعات خلال الردة والفتنة) ليدخل بعد ذلك في مرحلة الوعي المطلق (التي أصبحت فيه السياسة تحاول تأسيس نفسها على الدين والفلسفة..) […] أما بعد ذلك فقد بقي المسار يكرر نفسه في الوطن العربي، مع اختلافات جزئية لا تغير من اتجاهه ولا من طبيعة حركته، لأن المحددات التي صنعته والتي كانت تعيد صنعه بقيت هي هي: القبيلة، الغنيمة، العقيدة) (ص. ٣٦٤-٣٦٥). “وإذن فالمطلوب، وهذه هي بالتحديد مهام الفكر العربي اليوم، مهام تجديد العقل السياسي العربي، المطلوب هو: أ- تحويل “القبيلة” في مجتمعاتنا إلى لا قبيلة؛ ب- تحويل “الغنيمة” إلى اقتصاد “ضريبة”؛ ج- تحويل “العقيدة” إلى مجرد رأي (التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوغمائي)… الفكر العربي المعاصر مطالب إذن بنقد المجتمع ونقد الاقتصاد ونقد العقل..” (ص. ٣٧٤).
-٤-
أسئلة واستشكالات عدّة من الممكن أن تُقدِّم إحراجات نقديّة لأطروحة الجابري؛ فعلى أي سند قرّر أن الممارسة السياسية عربيا لم تبدأ إلّا مع ظهور الإسلام، خصوصا أنّه لم يشتغل على الإسلام كلحظة تأسيس سياسية في العقل العربي، ولم يفرد مساحة للتحقق من ذلك، كما فعل بخصوص “عصر التدوين” فيما تعلّق بتكوين العقل العربي وبنيته، ما يجعل تقريره محض رأي تحكمي ناتج عن تشهي أو تقليد استشراقي أو “تعال” يصعب مفصلته “فلسفيا”، وهو ما يؤكد مدى العَوز المنهجي في هذه النقطة. أما عن النقد الموجّهة للماركسية فقد ظل، رغم طرافته، ضيقا ومحدودا، وكان بالإمكان تجاوزه بالكلية – مثلا – من خلال أدبيات ميشيل فوكو، التي عرفها الجابري جيدا، المتعلقة بمُشكِل المعرفة والسلطة، لكن يبدو أن المؤلّف أراد دحض هذه المنهجية (المدخل الماركسي العتيد) بشكل أو بآخر ولسبب غير معلوم، أو تغيّا التأكيد على ماركسية من نوع ما. وفيما تعلّق بـ”المجال السياسي” في عصر معاوية، نرى أن الجابري حاول علمنة لحظة “عام الجماعة”، ليس فقط كتكتيك للقطع مع ما سبقه من سبل صعود إلى السلطة، لكن أيضا ليُكسب شرعية أكبر للنتائج التي سيخرج بها البحث، الخاصة بمسألة الدين والدولة. كذلك ثمة حالة من الارتباك النظري، بين منطقتين أو منطقين: منطق القطع ومنطق الوصل؛ فبينما تظهر النتيجة العامة للبحث داعمة لمنطق القطع مع التدبير السياسي المعهود في التاريخ الإسلامي، نجد عبارات مبثوثة في تلافيف الكتاب تدعو إلى استسقاء بعض قواعد الحُكم (كالشورى) من الكتاب والسنة، وهو تكتيك آخر سوف يخدّم به الجابري على إمكانات الارتباط بين الإسلام والديمقراطية في كتابات لاحقة.