أ.د/ طه جابر العلواني
لعلّ من أخطر مَا أصيبت به الأمّة الإسلاميّة من أمراض هُوَ داء «الاختلاف» أو «المخالفة». ذلك الداء المستفحل المتفشي الَّذِي شمل كل حقل وكل مصر وكل مجتمع، وضم في دائرته البغيضة النكدة الفكر والعقيدة والتصور والرأي والذوق والتصرف والسلوك والخلق والنمط الحياتيّ وطرائق التعامل وأساليب الكلام والآمال والأهداف والغايات البعيدة والقريبة، حتى خيم شبحه الأسود على نفوس الناس فتلبد الجو بغيوم أوهام أمطرت وابلها على القلوب المجدبة، فأنبتت لفيفًا من الأقوام المتصارعة المتدابرة، وكأنّ كل مَا لدى هذه الأمّة من أوامر ونواه وتعاليم يحثها على الاختلاف ويرغب بالتدابر والتناحر!!
والأمر عكس ذلك تمامًا، فإن كتاب الله (تبارك وتعالى) وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- مَا حرصا على شيء -بعد التوحيد- حرصهما على تأكيد وحدة الأمّة ونبذ الاختلاف بين أبنائها ومعالجة كل مَا من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، أو يخدش أخوة المؤمنين، ولعلّ مبادئ الإسلام مَا نددت بشيء -بعد الإشراك بالله تعالى- تنديدها باختلاف الأمّة وتنازعها، وما حضت على أمر -بعد الإيمان بالله تعالى- حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين، وأوامر الله -تبارك وتعالى- ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- واضحة في دعوتها إلى وحدة الصف، وائتلاف القلوب، وتضافر الجهود، وتساند المساعي.
إنّ الإسلام مَا أكد على شيء مثل تأكيده على «كلمة التوحيد» «وتوحيد الكلمة» فالأولى تدعو إلى الإيمان بالله إيمانًا نقيًا خاليًا من كل شائبة، والثانية انعكاس عمليّ تام للأولى، فمن كان ربهم واحدًا ونبيهم واحدًا وكتابهم واحدًا وقبلتهم واحدة وسبب خلقهم ومعاشهم واحدًا لا بد بالضرورة أن تكون كلمتهم واحدة.
﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمّة وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾) الأنبياء:92)، ولكن المسلمين -للأسف- أخلوا بكلمة التوحيد، وزهدوا بتوحيد الكلمة.
إنّ المشكلة التي نعاني منها اليوم هِيَ ضعف فهمنا لمرامي مَا نعلم وقصور إدراكنا لغاياته ومقاصده، كما أنّنا افتقدنا الموجه الصحيح والمؤشر الضروريّ الَّذِي يمنحنا السلامة، ويكسبنا الصواب في الاستفادة من هذا العلم وتلك المعرفة، لقد اكتسبنا المعرفة وافتقدنا خلقها، وامتلكنا الوسيلة وضيعنا الهدف والغاية، وما أكثر مَا فوتت علينا خلافاتنا حول مندوب أو مباح أمرًا مفروضًا أو واجبًا أو غاية عظمى، لقد أتقنّا فن المبارزة والمحاججة والخلاف، وافتقدنا آدابه وأخلاقيّاته، فكان أن سقطنا فريسة سهلة للتآكل الداخليّ، والتنازع والتناحر الَّذِي أورثنا معيشة ضنكا، وحياة فاشلة، وانتهى بنا الحال إلى الفشل وذهاب الريح مصداقًا لقوله )تعالى) ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾( الأنفال:46)
لقد قصّ الله (سبحانه وتعالى) علينا تاريخ أهل الأديان السابقة للعبرة والحذر، فبيّن كيفيّة نهوض الأمم وبناء الحضارات وجلى لنا أسباب التدهور والانحطاط وحذرنا من السقوط في علّة التفرق، وداء الخلاف وزلقات التحزب الضيق: ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (الروم: 31-32)
وعدّ الخلاف الَّذِي يؤدّي إلى الافتراق والتفرق ابتعادًا عن هدي النبوة، ونفيًا للانتساب للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام:159)
ذلك أنّ أهل الكتاب لم يؤتوا من قلة علم، وضآلة معرفة، وإنّما كان هلاكهم لأنّهم استخدموا ذلك العلم وتلك المعرفة للبغي بينهم﴿.. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ..﴾ (آل عمران:19).
فهل ورثنا علل أهل الكتاب بدل أن نرث الكتاب؟
وهل ورثنا البغي بدل أن نرث العلم والمعرفة ونلتزم بأخلاقهما؟
إنّ الاختلاف والبغي وتفريق الدين من علل أهل الكتاب التي كانت سببًا في هلاكهم ونسخ أديانهم، وبقاء قصصهم وسائل إيضاح للدرس والعبرة لمن ورثوا الكتاب والنبوة، ذلك أنّه لا سبيل للاستبدال والنسخ في عالم المسلمين، وهم أصحاب الرسالة الخاتمة، وإنّما هِيَ الأمراض التي لا تقضي على الجسم نهائيًّا، فإمّا أن تستمر فتعيش الأمّة حالة الوهن الدائب، وإمّا أن تعالج فيكون التصويب، وتكون المعافاة، ويكون النهوض وإيقاف التآكل الداخليّ، وهذا من خصائص الرسالة الخاتمة.
إنّ الاختلاف في وجهات النظر، وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطريّ طبيعيّ وله علاقة بالفروق الفرديّة إلى حد كبير، إذ يستحيل بناء الحياة، وقيام شبكة العلاقات الاجتماعيّة بين الناس ذوي القدرات المتساوية والنمطيّة المتطابقة، إذ لا مجال -عندئذ- للتفاعل والاكتساب والعطاء! ذلك أنّه من طبيعة الأعمال الذهنيّة والعمليّة اقتضاء مهارات وقدرات متفاوتة ومتباينة، وكأنّ حكمة الله (تبارك تعالى) اقتضت أن بين الناس -بفروقهم الفرديّة سواء أكانت خلقية أم مكتسبة- وبين الأعمال في الحياة قواعد والتقاء، وكل ميسر لما خلق، وعلى ذلك فالناس مختلفون والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد ومنهم السابق بالخيرات ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود:118).
ومما يؤسف له أن تحول الاختلاف بوجهات النظر من ظاهرة صحة تغني العقل المسلم بخصوبة رأي، وعمق تمحيص، واطّلاع أوسع على وجهات نظر متعددة وزوايا رؤية مختلفة وإمعان نظر وتدقيق وقدح لزناد الفكر تحول عن كل هذه الإيجابيّات عند مسلمي عصر التخلف إلى مرض عضال وسم زعاف أدى إلى التآكل والتفتت والتشتت والتدابر والتناحر، حتى كاد يصل الأمر عند بعض المختلفين إلى حدّ التصفية الجسديّة، وتطرف البعض الآخر منهم حتى أخذ يرى -بمقايسات محزنة- أنّ أعداء الدين وأهل الكتاب أقرب إليه من المخالفين له بالرأي من إخوانه المسلمين الذين يلتقون معه على أصول العقيدة وصفاء التوحيد؛ ولهذا في التاريخ القريب والبعيد شواهد كثيرة يؤسف لها ويتحسر على طاقات الأمّة الهائلة التي أهدرت وقودًا لنار الفتن والاختلاف التي مَا زادتها إلا استعارًا وتأججًا والعياذ بالله.
كثيرًا مَا يعجز الإنسان عن النظرة الكليّة السويّة للأمور، والرؤية الشاملة المتزنة للأبعاد المتعددة للمسائل فيضيق ذهنه على جزئيّة صغيرة يضخمها ويكبرها ويقبع وراءها وينفخ فيها حتى تستغرقه، وتأخذ لباب فكره إلى درجة لا يمكن أن يرى معها شيئًا آخر أو إنسانًا آخر يخطئه، فيفاصل عليها، ويوالي عليها، ويحب ويبغض فيها، وقد يستنصر ويتقوى بأعداء الدين على صاحب الرأي المخالف.
يروى أنّ واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا: شأنك. فخرج إليهم فقالوا: مَا أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد أجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم، قال الله (تبارك وتعالى)﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ … ﴾ (التوبة:6) فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن[1]»
لقد وصلت حدّة الاختلاف إلى مرحلة أصبح المشرك معها يأمن على نفسه عند بعض الفرق الإسلاميّة التي ترى أنّها على الحق المحض، أكثر من المسلم المخالف لها بوجهة النظر والاجتهاد في مسائل فرعية وجزئيّة، حيث أصبح لا سبيل معها للخلاص من الأذى والعذاب إلا بإظهار صفة الشرك!!.
إنه الاختلاف الأهوج، والهوى الغالب الَّذِي يتطور ويتضخم، وتتعمق أخاديده في القلوب فيسيطر على الشخص ويتملك عليه حواسه وعقله حتى ينسى معها المعاني الجامعة والكليّات العامّة، والصعيد المشترك والغايات والمقاصد والقواعد الأصليّة للإسلام، فيعدم صاحبه البصيرة والإبصار وينسى أبجديات الخلق الإسلاميّ فتضطرب الموازين وتختل الرؤية وتختلط الأوراق وتختفي الأولويّات ويسهل القول بغير علم، والفتوى بغير نور، والعمل بغير دليل، وينتشر التفسيق والتكفير والاتهام. ويسقط ذلك المريض في هاوية التعصب الأعمى السحيقة وتظلم الدنيا من حوله فلا يكاد يرى إلا سوادًا وظلمة كالحة وما هِيَ -في حقيقة الأمر- إلا انعكاس لنفسيته المظلمة التي انطفأ فيها نور العلم وخبت منها جذوة التعقل﴿.. وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النور:40) وقد تنقلب الآراء الاجتهاديّة والمدارس الفقهيّة التي محلها أهل النظر والاجتهاد، على أيدي المقلدين العوام، والأتباع الطغام إلى ضرب من التحزب الفكريّ والتعصب السياسيّ تئول الآيات والأحاديث وفقًا لنهجها وتلوي أعناقها فتصبح كل آية أو حديث لا يوافق هذا اللون من التحزب الفكريّ إمّا مؤولة أو منسوخة، وقد يشتد التعصب فتعود إلينا مقولة الجاهليّة “كذاب ربيعة أفضل من صادق مضر” .
لقد اختلف السلف الصالح )رضوان الله تعالى عليهم(، ولكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببًا لافتراقهم، إنّهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لأنّ وحدة القلوب والغايات والأهداف كانت أكبر من أن ينال منها شيء، إنّهم تخلصوا من العلل النفسيّة وإن أصيب بعضهم بخطأ الجوارح، وكان الرجل الَّذِي بشر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- الصحابة بطلعته عليهم وأخبرهم أنّه من أهل الجنة، هُوَ الَّذِي استكهنوا أمره وعمله فتبيّن أنّه لا ينام وفي قلبه غلّ على مسلم… أمّا نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، لذلك فإنّ معظم مظاهر التوحد والدعوة إليه والانتصار له إنّما هِيَ عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجيّة قد لا نختلف فيها كثيرًا عن غيرنا والله )تبارك تعالى( يقول ﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ..﴾ (الأنعام:120)، فالعالم الإسلاميّ بعد أن كان دولة واحدة تدين بالمشروعيّة العليا لكتاب الله )تبارك تعالى( وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلّم- أصبح اليوم سبعًا وثمانين دويلة أو يزيد، والاختلافات بينهم لا يعلم مداها إلا الله )تبارك وتعالى(، وكلها ترفع شعارات الوحدة؛ بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كيانات عدة، وليس واقع بعض العاملين للإسلام اليوم -الذين تناط بهم مهمة الإنقاذ- أحسن حالا من مؤسّساتهم الرسميّة.
إنّ أزمتنا أزمة فكر، ومشكلتنا الانتماء، والأمّة المسلمة عندما سلم لها عالم أفكارها، وكانت المشروعيّة العليا الأساسيّة في حياتها للكتاب والسنّة استطاعت أن تحمل رسالة وتقيم حضارة، على الرغم من شظف العيش وقسوة الظروف الماديّة، فكان مع العسر يسر، ذلك أن الحيدة عن الكتاب والسنّة موقعة في التنازع والفشل، قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ …﴾ (الأنفال:46) لقد أوقف الإسلام التشرذم والتآكل الداخليّ ووجه العرب إلى توحيد الإله الواحد الحق، وألغى الآلهة المزيفة حيث كان لكل قبيلة إلهها الَّذِي تتجه إليه.
أما اليوم؛ فلا يشكو المسلمون من قلة مادة، أو ضنك عيش أو قصور في الموارد ومع ذلك فهم في صدر الأمم المستهلكة سواء على مستوى الأفكار أو السلعات المعاشية، وحقيقة الداء تكمن في افتقادهم للمعاني الجامعة، والقواسم المشتركة والغايات الموحدة، فغابت عنهم المشروعيّة الكبرى في حياتهم وأصاب الخلل بنيتهم ولحمتهم الفكريّة.
إنه مَا من سبيل للخروج من الخلل الفكريّ الَّذِي أصاب العقل المسلم، والأزمة الأخلاقيّة التي يعاني منها السلوك المسلم، إلا بمعالجة جذور الأزمة الفكريّة وإصلاح مناهج التفكير، فلا بد من إعادة الصياغة الفكريّة للعقول، وإعادة الترتيب المفقود للأولويّات وتربية الأجيال المسلمة على ذلك؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى مَا كان عليه الصدر الأول من أسلافنا في تمسك بكتاب ربهم )تبارك وتعالى( وسنة رسولهم -صلى الله عليه وآله وسلم، ووضع ضوابط وقواعد للمقايسة والاستنتاج لضبط الرأي، وضمان مسار الفكر؛ وقرن العلم بأخلاقه، والمعرفة بآدابها، كما لا بد من تنمية الدراسات التي تؤكد وحدة الأمة، وقواسمها المشتركة، وغاياتها وأهدافها العظمى لتجتمع الصفوف، وتتوحد الجبهات، وتتضح معالم السبيل، وتنتظم خطوات المسير بإذن الله (تعالى).
[1] الكامل في اللغة والأدب للمبرد:2/122.