منهج د. طه العلواني في تجديد وإصلاح الفكر الدينيّ
كما يظهر في كتبه ومواقفه
التكوين الأوليّ لطه العلواني تكوين تقليديّ خالص حيث تكّون في مدارس المساجد في الفلوجة وبغداد وبعد أن حصل على الإجازة التقليديّة من الشيخ محمد فؤاد الألوسي، وهو من أحفاد المفتي أبي الثناء صاحب روح المعاني، غادر إلى القاهرة ليدرس في الأزهر وينال شهاداته كلها بعد ذلك منه، بدءًا من الثانويّة وانتهاءً بالدكتوراه، وكان من الأوائل في سائر المراحل؛ ولذلك فهو يتمتع بقدرة ووعي بالتراث قَلّ أن توجدا لدى أحد من معاصريه.
فإذا أضيف إلى ذلك مَا كانت البيئة العراقيّة التي نشأ فيها أولا تعج به من أفكار متنوّعة من الإسلاميّة إلى الماركسيّة، وما كانت البيئة المصريّة الأزهريّة عند انضمامه إليها تموج به ومعرفة مَا كان يعتمل فيها من توجهات، نستطيع أن ندرك أنّ الرجل يصلح أن يكون شاهدًا على قرن أو عصر بأكمله، وقد استطاع في دراساته في العراق ومصر أن يلمّ بجميع «العلوم النقليّة من علوم آلة وعلوم مقاصد»، وهي التي كان على طالب العلم أن يلمّ بها، ويمهر فيها قبل الانخراط في تخصص دقيق.
وحين تخصص في «أصول الفقه»، فإنّ أصول الفقه بطبيعته مكَّون من سائر العلوم الشرعيّة، فهو يطل على التفسير والحديث والفقه واللّغة العربيّة وعلم الكلام، مما زاد الرجل عمقًا في هذه المجالات كلّها. وحين انتقل د. طه إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة انتقال هجرة للعيش فيها، والعمل في المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ مديرًا للبحوث والدراسات فيه، ثم نائبًا للرئيس، ثم رئيسًا لمدة عشر سنوات منذ عام 1986 حتى استقال من رئاسته عام 1996، لتولي رئاسة جامعة العلوم الإسلاميّة والاجتماعيَّة للدراسات العليا دون أن تنقطع صلته بالأساتذة والعلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم، فقد كان يراسل ويستقبل ويُستقبل من قبل مَا لا يقل عن (3000) أستاذ في مختلف أنحاء العالم ممن لهم صلة بالدراسات الإنسانيّة والاجتماعيّة والإسلاميّة، وعمله في المعهد وقيادته له تلك السنوات الطويلة جعلته يتعرض للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة ومشكلاتها، فلم تعد حصيلته العلميّة قاصرة على العلوم الشرعيّة وحدها، بل ضم إليها العلوم الحديثة الإنسانيّة والاجتماعيّة.
عُرف الشيخ طه العلواني بحسٍّ نقديّ وجرأة في ذلك، كثيرًا مَا عرّضته إلى لوم بعض المتخصصين في نقد التراث الإسلاميّ، ولذلك كان العلوانيّ يعتبر أنّ أخطر أزمات الأمّة الإسلاميّة قديمًا وحديثًا هي «الأزمة الفكريّة» وليست الأزمة العَقَديّة كما يتصوّر السلفيّون، ولا الأزمة السياسيّة كما يتصوّر الإخوان والتحرير وبقيّة جماعات الإسلام السياسيّ، ولا الأزمة الأخلاقيّة كما يتصوّر عامّة الدعاة، واهتمامه بالأزمة الفكريّة ومعالجتها، حملته على دراسة مختلف التيّارات الفكريّة المعاصرة مرورًا بالماركسيّة اللّينيّة، وما تفرع عنها من ماركسيّة عربيّة تمثلت في اليسار العربيّ والفئات الليبراليّة واتجاهاتها، وأوجد ذلك لديه قدرة خاصّة على نقد فكر الجماعات الإسلاميّة المختلفة، فأعد دراسة وجيزة بسطها في دراسة أخرى في نقد تلك الحركات، كانت دراسته الأولى «أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الدينيّة» وبسطها في كتاب أوسع «الفكر الإسلاميّ بين القدرات والعقبات»، بيَّن فيه كثيرًا من الأزمات والعيوب التي كان يأخذها على مختلف التيارات الإسلاميّة دون غفلة عن نقد مصادر التكوين الفكريّ لتلك التيّارات؛ ولذلك كان نقده أقرب إلى العلميّة والموضوعيّة والحياد، مما جعل كتبه تلك كتبًا يرجع إليها الإسلاميّون، وقد يستفيدون منها في سجالاتهم ونقد بعضهم للبعض الآخر، وقد مهر الشيخ العلوانيّ في عمليّات نقد ونقض وتفكيك التراث الإسلاميّ، من داخله، وفقًا لاستراتيجيّة أتقنها، حين أراد أن يكشف قصور كثير من الأفكار الدينيّة، ويضعها في دائرة اللاهوت المرتبط بالتعبديّة المنافية للتعقل، طرح «الاتجاه المقاصديّ» وجعل المعهد ينشر مجموعة من الكتب في «مقاصد الشريعة»، كلّها حملت مقدمات بقلمه، دقيقة وشاملة عبّر بها عن نقده للاتجاهات اللاهوتيّة والتعبديّة واللاعقلانيّة بين المسلمين، ووجه نحو المقاصديّة التي تحمل الإنسان على النظر والتفكير والتعقّل ومناقشة ورفض كل مَا لا يكون للإنسان دور فيه، ولعقله إسهام في بنائه، وكان يستخدم سعة اطَّلاعه وإلمامه إلى درجة كبيرة في كليّات التراث وجزئيّاته لجعل نقده في الكثير الغالب نقدًا فعّالا ومقنعًا لأيّ ذي عقل محايد لم تستول عليه الاتجاهات الأيديولوجيّة والتعصب والغلوّ.
والذي يدرس تاريخ الفكر المقاصديّ المعاصر، لا يستطيع تجاهل دور العلوانيّ والمعهد الذي كان يقوده، والجامعة التي درس فيها لما يزيد عن عشر سنوات بعد استقالته من رئاسة المعهد، حيث كان يتوقع أن تكون تلك الجامعة الصغيرة المتخصّصة في الدراسات العليا محضنًا لخبرته الطويلة، وتجاربه الغنيّة الفريدة، بحيث ينتج أشخاصًا من بين الأساتذة المتعاونين معه والطلاب والباحثين، يحملون هذه التوجهات التجديديّة، ويبثُّونها ويراكمون عليها ويربّون طلابهم بها، ويصدر كتبًا ودراسات تمثّل منابع ومصادر لتكوين أجيال من الباحثين، وبيئة صالحة لإنتاج الأفكار الإصلاحيّة واختبارها ومناقشتها ليثبت صلاحها من عدمه، وذلك إيجاد تيّار أساسيّ يجدّد بناء الأمّة ويعيد توحيد كلمتها، وإحياء قيمها.
ثم جُوبه العلوانيّ ومؤسّسته الأكاديميّة، بهجمات الحادي عشر من سبتمبر وما ترتّب عليها من تداعيات أدَّت إلى التضييق على المؤسّسات الإسلاميّة والقائمين عليها دون تمييز، فبدأ الباحثون وبعض الأساتذة ينفضّون عن الجامعة الوليد، نأيًا بأنفسهم عن أيّة متاعب محتملة، بالرغم من أنّه لم توجّه له ولا للجامعة، ولا… أيّة تهمة محدّدة، بل استمرت الجهات الرسميّة الأمريكيّة بالتعامل معها، والاستفادة من خريجيها؛ بل قد أطلق «اتحاد المعاهد العليا للدراسات اللاهوتيّة» مؤخرًا اسم الدكتور العلوانيّ على كرسي لدراسات التفاهم الإسلاميّ المسيحيّ لما يتمتع به من سمعة طيّبة في لقاءات الحوار الدينيّ في أمريكا والدعوة إلى التسامح لإظهار تأييدها وتضامنها مع اتجاه العلوانيّ وقد حاول أن يوجد بديلا في العالم الإسلاميّ الفسيح فلم يستطع حتى الآن أن يجد المحضن الملائم!!! فعكف على الدراسة والكتابة.
خلاصة مشروع العلواني:
- العمل على بناء وتأسيس وعي قرآنيّ جديد، يعيد بناء وتشكيل العقل المسلم بناءً معرفيًّا ومنهجيًّا، موظفًا سائر قوى الوعي الإنسانيّ في ذلك.
- صياغة «خطاب إسلاميّ جديد» انطلاقًا من قراءة شاملة تجمع بين الوحي والكون، ومنه الواقع المعاش.
- مراجعة «التراث الإسلاميّ» مراجعة نقديّة تبدأ بمحاكمة ذلك التراث وعرضه على كليّات القرآن المجيد ومقاصده العليا الحاكمة «التوحيد والتزكية والعمران» لاستبعاد مَا يتعارض وقيم القرآن المجيد، ويؤدي إلى الغلوّ والتطرّف والتعصب ورفض الآخرين.
- تقديم السنّة التشريعيّة باعتبارها تطبيقًا واتّباعًا للقرآن المجيد لا تستقل بالتشريع؛ بل يجب أن تكون دائرة حول القرآن المجيد خاضعة لهيمنته وتصديقه؛ ولذلك فقد نفى مشروع العلوانيّ أن تكون السنّة قاضية أو ناسخة أو مخصصة للقرآن، وهذه كلّها من مسلَّمات التراثيّين التي جعلت الماضويّين منهم يطعنون في العلوانيّ وما يدعو إليه بمستويات مختلفة.
- للعلوانيّ منهج في غاية القوة والتأثير في تجديد «أصول الفقه» وبناء فقه جديد، وذلك بأنْ أصّل الشيخ العلوانيّ لما سمّاه بالمقاصد والقيم القرآنيّة العليا الحاكمة، وهي –عنده– «التوحيد والتزكية والعمران»، -كما ذكرنا- فالتوحيد حق الله –تعالى، والتزكية مؤهِّل الإنسان للاستخلاف والعمران، والعمران هو حق الكون المسخّر وميدان فعل الإنسان ونشاطه، وذلك يجعل تقييم الفعل الإنسانيّ يعتمد على مدى انسجامه أو انبثاقه عن هذه المقاصد؛ وبذلك يجري استيعاب وتجاوز مَا سمّاه الفقهاء والأصوليّون بالأحكام التكليفيّة، التي أدت إلى امتداد الفقه، ذلك الامتداد السرطاني حتى شمل كل شيء واختزل الإسلام –كلّه– بقائمتين: قائمة طويلة عريضة للمحرمات، وقائمة أصغر منها بكثير للجائزات.
- ويتضح منهج العلوانيّ في دراسته الجريئة لمسلّمة اعتبرها الفقهاء من مسائل الإجماع التي لا يجوز فتح ملفها بحال، لكن العلوانيّ فتح ملفها بقوة وبيّن أنّ القرآن المجيد قد خلا من أيّة عقوبة دنيويّة للردّة، وناقش الأحاديث التي استدلوا وفقًا لمناهج المحدثين بحيث يصعب جدًا رفض النتائج التي توصّل إليها إلا من مكابرين لا يأبهون بالقواعد العلميّة والمنهجيّة، ولا ينطلقون منها؛ بل يتجاهلونها عامدين إذا اصطدمت بمسلَّماتهم الموروثة ثقافيًّا.
وناقش المذاهب الفقهيّة ليثبت مخالفة المقلّدين لقواعدهم وأصولهم.
وهو يعد دراستين بالأسلوب والمنهج نفسه، لنفى حدّ «الحرابة والرجم» ومراجعة الجذور الفقهيَّة التي كانت لها آثار ثقافيَّة سلبيَّة في المحيط الإسلاميّ، والذي يدرس مشروعه كاملا لا يملك إلا أن يسلم بأنّ منهجه هو المنهج الأسلم والأقدر والأكثر فاعليّة في نقد وتجديد التراث ومعالجة الأزمات الفكريّة لدى الأمّة.
- إنّ الرجل قد نجح في تخريج أعداد من الباحثين وطلبة الدراسات العليا الذين صار بعضهم –الآن- أساتذة، ولو هُيئ له من يتبنَّى مشروعه، ويوجد له بيئة أكاديميّة بحثيّة للتفاعل معها، وبلورة مشاريعه في إطارها وكفاية الباحثين معه عن الانشغال بمهمات طلب العيش، فذلك سوف يهيئ الأجواء لإحداث نقلة في التعليم الدينيّ، والخطاب الإسلاميّ بصفة عامّة بشكل منهجيّ لا يمكن للفكر التقليديّ أن يقاومه أو يمنع تأثيره كما يفعل مع المشاريع الليبراليّة.