أ. د. طه جابر العلواني
التفسير: –
بعد استحضار «المبادئ العشرة» لهذا العلم، ومناقشة الجدل الَّذِي ثار حول اعتباره علمًا أم لا؟ نناقش السبب الَّذِي جعل العلماء ينصرفون إلى الاشتغال به قبل سواه، وما إذا كان لبيان المعاني اللغويَّة للقرآن الكريم، أو بحثًا وراء أصول التشريع والفقه في محكم آياته، ولماذا عده الغزاليّ في تصنيفه للعلوم الإسلاميّة في كتاب الإحياء في «متمِّمات العلوم» وهِيَ في المرتبة الرابعة مع شرف موضوعه؟ ثم الانتقال لبيان كل نوع من أنواع التفسير بدءًا بالتفسير الآثاري، وهل فسَّر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- القرآن الكريم كله، وماذا عن حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- في نفي ذلك، والتأكيد على أنّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يفسِّر سوى آيات معدودات علمهن إياه جبريل، ولِمَ ناقش الطبري هذا الحديث وحاول التشكيك فيه، ولِمَ أقتصر البخاري على إيراد (150) حديثًا وأثرًا في التفسير، وهل كانت هِيَ الروايات الوحيدة التي صحت عنده، أو هِيَ نموذج فقط؟ وماذا عن تفاسير الطبري وابن كثير والدر المنثور وفتح القدير التي بني البعض عليها دعواه بّأن في المأثور مَا يغني عن سواه، وأنه ليس لأحد أن يفسِّر شيئًا من القرآن الكريم بغير المأثور.
التفسير العقليّ:
ما هي نشأته؟ وما أهم التفاسير التي يمكن تصنيفها تحت هذا النوع، وأهم المفسِّرين الذين برزوا في هذا النوع من التفسير. وتاريخ نشأته. وأسباب ودواعي ذلك وهل يعد من قبيل التفسير بالرأي؟ وهل يحتج بالرأي في هذا المجال؟ وينحى بالأنواع الأخرى من التفسير نحو ذلك بحيث يتناول «التفسير الإشاريّ» و«التفسير العلميّ» و«التفسير البيانيّ» أو «البلاغيّ» ثم «التفسير الموضوعيّ» مع بيان في أيّ من هذه الأنواع تفشّت «الإسرائيليات» وكيف ولماذا؟ وما آثار انتشار الإسرائيليّات في العلوم الإسلاميّة المختلفة؟ وكيف نقارن بين تفشّي الإسرائيليّات التقليديّة في العلوم والمعارف الإسلاميَّة، وتفشّي الإسرائيليّات المعاصرة في العلوم الاجتماعيّة المعاصرة؟
وما التفسير الَّذِي يمكن «لإسلاميَّة المعرفة» أن تعتمده في بناء قضيتها أهو «التفسير الموضوعيّ» أم هُوَ «التفسير التحليلي» وكيف يبنى؟ ولِمَ لم يبرز «تفسير القرآن بالقرآن» كما برزت الأنواع الأخرى؟. ومن أين استمد كل نوع من أنواع التفسير المذكورة؟
التأويل: مَا التأويل وما حقيقته؟ وهل هُوَ مساوٍ للتفسير أو مغاير له أو أخصّ؟ وما العلوم الإسلاميَّة التي اعتمدت على التأويل أو عنيت به أكثر من سواه؟
ولماذا يهتم المحدثون به أكثر من اهتمامهم بالتفسير؟ ولم يرى كل هؤلاء ضرورة اعتماد النصِّ الدينيّ أيًّا كان على التأويل؟ لا على التفسير. وهل بنوا هذا على قصور اللغة أيًّا كانت عن استيعاب المعاني الدينيَّة الممتدة بين الدنيا والآخرة؟ أو على مَا يسميه بعضهم «فضاء» يلازم النصّ الدينيّ فلا يظهر إلا بالتأويل؟ أو على ماذا؟ وكيف نفرّق بين التأويل الَّذِي يتحمله النصّ ويتقبله، والتأويل الَّذِي لا يُقبل لعدم تحمل النص له؟ وهل يمكن وضع ضوابط منهجيَّة للتأويل؟
النسخ:
عُدَّ النسخ من أهم «علوم القرآن» ومن أقدمها نشأة، وقيل إنّ الكلام فيه بدأ ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على قيد الحياة، وأصّلوا له من القرآن المجيد في الآية (106) من سورة البقرة وكذلك ببعض الأحاديث والسنن، وأسرف بعضهم فيه حتى جاوز به سبعمائة آية دخلها النسخ، واقتصر بعضهم على اثنى عشرة آية. واختلف في المبنى اللغوي الَّذِي قام النسخ عليه أهو البيان أم الرفع أم الإزالة أم النقل. ومزج بعضهم بين «التخصيص وبينه» وفرق بعضهم بينهما. وقد صنفوه في أنواع عديدة، وتكلموا في وقوع النسخ بين الكتاب الكريم والسنّة المطهرة، ويتوقف الإمام الشافعيّ في ذلك، ونفى نسخ الكتاب بالسنّة أو السنّة بالكتاب، واعتبر القول بذلك مبنيًّا على اضطراب في إدراك العلاقة بين الكتاب والسنّة. وهاجم وهوجم في ذلك ولم يظهر بين المتقدمين من ينكر النسخ بإطلاق إلا نفر قليل لم نتداول أقوالهم أو مذاهبهم. في حين كثر المعترضون على القول بالنسخ والنافون له في عصورنا هذه خاصَّة بعد ظهور أقوال المستشرقين فيه واعتباره دليلا على وقوع التناقض والاختلاف في القرآن المجيد كما وقع في غيره من الكتب الأخرى وبالتالي فلا مزيّة القرآن المجيد تذكر على تلك الكتب.
وهنا يأتي السؤال: هل النسخ قد نشأ -أولًا- في الدائرة الأصولية أو في دائرة «علوم القرآن»؟ وما الفروق بين تناول الأصوليّين وتناول علماء القرآن هذا الموضوع؟ وإذا كان الإجماع قد قام على العصمة الإلهِيَّة للقرآن الكريم من دخول مَا ليس منه إليه، فهل تتمتع السُنّة المطهرة بمثل هذه العصمة مستقلة، أو أنّها معصومة بعصمة القرآن الكريم، وكيف يقوم القرآن الكريم بعصمة السنن النبويّة الصحيحة من دخول مَا ليس منها إليها أيًّا كان ذلك؟ وماذا عن نسخ السنّة بالسنّة جوازًا ووقوعًا؟ ولِمَ اضطربت في «العقل الفقهي» المقلِّد خاصَّة؟ والعلاقة بين الكتاب الكريم والسنّة المطهرة بحيث لم تعد علاقة تكامليَّة تقوم على علاقة المبيَّن بالمبيِّن، وإذا كان القرآن الكريم تبيانًا لكل شيء فهل السنّة داخلة في عموم «كل شيء» بحيث يكون القرآن الكريم تبيانًا لها؟ وكيف؟ وكيف تتم إعادة قراءة مَا ادعى نسخه سواء أكان اثنتي عشرة آية أو ستة كما قرر ذلك مصطفى أَبُو زيد -بحيث تنتفي الحاجة إلى القول بالنسخ في القرآن الكريم مطلقًا؟ وهل ينسجم القول باشتمال القرآن المجيد على «منهجيَّة معرفيَّة» مع القول بالنسخ؟ وهل يُعد القول بالنسخ دليلا على العجز عن التأويل أو الفهم من لدن القارئ فلا يكون من أعراض النصّ نفسه بل يتعلق بفهم القارئ أو أنه من الأعراض الذاتيَّة للنصّ؟ وما الَّذِي يترتب على القول بأي منهما؟ ولِمَ اعتبر الأصوليّون الخلاف في «النسخ» خلافًا مع اليهود وأبي مسلم الأصفهاني فقط؟ وما حقيقة موقف اليهود من النسخ؟ ولماذا ذكر خلافهم في هذا الموضوع بالذات؟ وأين مواضع الاتفاق معهم ليذكر خلافهم في هذا؟ وما دلالة ذلك؟
وهل يتناسب القول بالنسخ مع القول «بتناسب الآيات والسور»؟ وكيف نصل إلى جماع القول فيه والأمر الجامع ليأخذ الموضوع -كلّه- بعد ذلك صفة تاريخيَّة يمكن أن يقوم المختصّون المتعمقون فقط بتناولها في تاريخانيّتها وفي ضوء «علم اجتماع المعرفة»؟ ليغلق هذا الملف خارج هذا الإطار؟
ولماذا نتقبل جواز النسخ ووقوعه في السنّة النبويّة ولا نستطيع تقبل ذلك في القرآن؟ وهل القول بذلك بني على القول «بإطلاق القرآن» و«نسبية السنّة» أو على اعتبار أن القرآن المجيد كليُّ« وواقع عصر النبوة كغيره واقع جزئيّ» فكان من قبيل تنزل «الكليّ الثابت» على «الواقع الجزئيّ» المتحرك المتغيِّر؟!
قصص القرآن وأمثاله:
يرجع في موضوع «قصص القرآن» ومعرفة فوائد إيراد القرآن الكريم لها إلى «المقدّمة السابعة» من مقدمات ابن عاشور لتفسيره، فقد ذكر لإيراد تلك القصص فوائد عشرة أكد في أول تلك الفوائد على أن في إيراد تلك القصص تحديًا لأهل الكتاب، بل الراسخين في العلم منهم، وأن صفة «الأميَّة» التي كان المسلمون أو العرب يوصفون بها قد زالت حين شاركوا أهل الكتاب بل تفوقوا عليهم في معرفة تلك القصص والأخبار.
والذي يمكن أن يضاف إلى مَا ذكره ابن عاشور من الفوائد العشرة أمورٌ كثيرة لعلّ أهمها هُوَ مراجعة تلك القصص وبيان التزوير والتحريف الَّذِي دخلها على أيدي أهل الكتاب ونقدها وتنقيتها من ذلك -كلّه- وتبرئة الأنبياء والرسل من جميع مَا أضافوه إليهم ونسبوه لتاريخهم وسيرهم من أباطل أخلت بعصمتهم، وأزالت عنهم صفة «الأسوة والقدوة»، وإعادة عرض قصصهم وسيرهم بصدق ونقاء وإدراجها تحت الهيمنة القرآنيّة لتعصم وتحفظ فلا تنالها يد التحريف مرة أخرى حفظًا للتاريخ الدينيّ للبشريّة ولتلك النماذج التي أرسلها الله لتبيّن وتهدي، وتقدم نفسها بوصفها نماذج صالحة لذلك التأسي وأن البشريّة لم تطالب بما لا تتسع له طاقاتها، أو تستوعبه قدراتها.
ومن الضروريّ اختيار نموذج أو أكثر بحسب مَا يسمح الوقت به ليكون دراسة مقاربة بين الكتب الثلاثّة، وخاصّة قصة إبراهيم، وقصة يوسف ونحوها. ولا بد من دراسة بعض القصص التي وردت في أكثر من سورة من سور القرآن الكريم لبيان «الوحدة البنائيّة» فيه وإزالة شبهة التكرار.
وكذلك دراسة «أمثال القرآن» مقارنة بأمثال العهدين في ضوء دراسة محمد جابر لها في رسالته «أمثال القرآن» لمعرفة المزايا التي تتمتع «أمثال القرآن» بها على سواها، ولمعرفة الآثار النفسيّة والتربويّة وغيرها في إيراد الأمثال لمعرفة أهميتها التي قد يبلغ أحيانًا حد «الضرورة» للخطاب.
المقرر الثاني:
علوم القرآن الموروثة نشأتها وتاريخها وتدوينها وأهم مصادرها، وتقييم عائدها المعرفيّ على القرآن المجيد وعلى العقل المسلم.
الهدف:
إلمام الباحث بما عرف «بعلوم القرآن» من مصادرها المعروفة المتداولة مثل «البرهان للزركشي»، و«الإتقان للسيوطي» و«مناهل العرفان للزرقاني» وما إليها. وفي ضوء علم اجتماع المعرفة وقواعده يتم تبيّن مَا أحاط بتلك العلوم من مؤثرات إيجابيّة وسلبيَّة. ليتبيّن بعد ذلك مدى حاجة هذه المعارف إلى إعادة النظر في كل جانب من جوانبها، وخطورة الاستمرار في إعادة إنتاجها كما هِيَ دون تغيير إلا في اللغة المستعملة وأساليب التصنيف والطباعة.
- دراسة تاريخ هذه العلوم وبيان مبادئها العشرة، وما يندرج منها تحت علوم القرآن وما لا يندرج، وما هُوَ مشترك بين علوم القرآن وعلوم إسلاميّة أخرى؟ وما هُوَ خاص بواحد منها؟. وكذلك مَا ينازع العلماء في كونه علمًا؟ وأسباب ذلك التنازع؟ وهل استطاعت هذه العلوم مجتمعة أو متفرقة أن تبرز أهم خصائص القرآن المجيد؟ وقدرته على استيعاب الأنساق الحضاريّة والثقافيّة، وتجاوزها بعد إصلاحها وترقيتها. كما أن بعض الباحثين يرى أنّ هذه العلوم رغم إضافتها إلى القرآن المجيد بيد أنّها بنيت -في الحقيقة- على دعامتين أساسيّتين هِيَ دعامة اللّغة وقواعدها وأساليبها ومعانيها والدعامة الثانية -هِيَ الأحاديث والآثار والسنن.
وأنّها لم تعتمد في تأسيسها وبناء قواعدها على القرآن الكريم ذاته مع أنّ المفروض أن تنطلق هذه العلوم من القرآن المجيد أولا، ولها أن تتخذ بعد ذلك من اللغة والآثار وغيرها شواهد.
ضرورة مناقشة هذه الدعوى تفصيلاً في كل علم من علوم القرآن، ومعرفة آثارها المختلفة إذا سلِّمت!! ومناقشتها تفصيلاً إذا لم تسلَّم. مع محاولة بيان كيفيّة الاستفادة من كل من هذه العلوم في عصرنا هذا، وذلك لتحدّي العالم بالقرآن المجيد، وتوصيل خطابه العالميّ إليه واستيعاب النسق الحضاريّ والثقافيّ العالميّ القائم بالقرآن المجيد!!
- إعجاز القرآن: القرآن المجيد المعجزة الدائمة الباقية الخالدة التي تحدى الله (تبارك وتعالى) بها الإنس والجن أن يأتوا بمثلها؛ ولقد تدرج التحدّي بهذه المعجزة العظمى من التحدّي بسورة واحدة كما في قوله (تعالى): ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 23) إلى التحدّي بعشر سور مثله، فقال (تعالى): ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (هود: 13) كما تحدَّى الإنس والجن بجملة مَا كان قد نزل حتى نزول هذه الآية ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (الإسراء:88) ويمكن القول بأنّ القرآن المجيد قد تنزَّل في تحدّيه من التحدّي بجملة مَا كان قد نزل وبعد ثبوت العجز جرى التحدي بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات وبعد ثبوت العجز عن ذلك، جرى التحدي بالإتيان ولو بسورة واحدة من مثله وقد ثبت العجز عن ذلك. وبذلك أثبت القرآن المجيد أنّه كتاب الله وكلامه ليس فيه حرف واحد من كلام غيره (تبارك وتعالى).
وحين طالب العرب بآيات ومعاجز وخوارق مماثلة لتلك التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل رد القرآن الكريم عليهم بقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنّما الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وإنّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت: 50-51)، وإذا كانت معجزة القرآن الكريم رحمةً وذكرى ونورًا وبشرى فإنّ المعجزات والخوارق الماديَّة إن لم يؤمن بها المرسل إليهم بعد ظهورها على أيدي أنبيائهم فإنّها تتحول إلى نقمة؛ فالذين منحوا الخوارق الحسِّيَّة كثيرًا مَا صاحبتها التشريعات التي تتسم بالإصر وقد يتحول إلى أغلال، فهم قد أخضعوا أنبيائهم ورسلهم للاختبار فمن العدل أن يخضعوا للفتنة والاختيار كذلك ففي طلب قوم موسى –عليه السلام- للآيات الحسيَّة وللحاكميّة الإلهيّة ابتلوا بالتشريعات المشدّدة. وحين طلب الحواريون من عيسى –عليه السلام- إنزال المائدة وقالوا: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة:112-115). وقال (تبارك وتعالى): ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا﴾ (الإسراء:59). ومع ذلك فقد استمرت مطالبة قريش والعرب بمطالبته -صلى الله عليه وآله وسلم- بالخوارق الحسيَّة وتجاوز القرآن المجيد ولذلك تنادوا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ (فصلت:26). و ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا﴾ (الإسراء:90-94) ولم يستجب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يدع الله (تبارك وتعالى) للاستجابة لما طلبوا، بل أمر بالاستمرار في تحدّيهم بالقرآن الكريم وإعجازهم به: ﴿فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ (الفرقان:52) واستمروا في مطالبهم تلك، واستمر رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- بتحديهم بالقرآن الكريم وإعجازهم به: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ (الفرقان:4-10). فخصوم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كانوا يحاولون إحراجه في أمرين لعلهم اقتبسوها من جيرانهم من الكتابيِّين: الأول: إخراجهم له عن بشريَّته حيث قالت اليهود: عزيز ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله؛ بل إنّ قومهم من بني إسرائيل زعموا أنّهم أبناء الله وأحباؤه فكان الجواب: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا﴾ (الإسراء:93). فلا مجال في هذا الدين لأيّ شيءٍ يمكن أن ينال من التوحيد نيلاً ما.
و الثاني: هُوَ الخوارق الحسيِّة التي تبهر الحواسَّ، فهم يريدون خوارق ملموسة حسيَّة، لا معجزة تتحدَّى عقولهم وقلوبهم وأفئدتهم وتسلك وسائل الوعي الثلاثّة: السمع والبصر والفؤاد؛ لتبعث الوعي في تلك القلوب والعقول التي تردت على الاستقالة وتقليد الآباء، والخلود إلى التبعيَّة فأوضح القرآن المجيد لهم أنّه المعجزة الوحيدة التي تتحداهم وأكد لهم بشريّته وآدميته -صلى الله عليه وآله وسلم- وعبوديته له (تبارك وتعالى). وأنّهم مدعوّون للإيمان بإله واحد ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: 1-4)، ثم بعد ذلك: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
والقرآن المجيد إذا كان معجزة خاصَّة لرسول الله مُحَمَّد -صلوات الله وسلامه عليه- فهو معجزة عامّة للأنبياء والرسل كافّة فهو الَّذِي نقّى وطهّر تراث النبيّين وصدّق عليه وهيمن. وهو الَّذِي حفظ تاريخ أمّة الأنبياء الواحد وصحّحه، وهو الَّذِي صدّق على شرائعهم ورسالاتهم، وطهّر سيرهم، ونفى كل بهتان أو افتراء أو كذب إضافة أقوامهم إليهم.
وإعجاز القرآن المجيد كان ينبغي أن يتحكم إليه في كل مَا يتعلّق به من لغات وأقوال وآراء وآثار وتفسير وتأويل وقراءات وأحكام وإحكام وتشابه؛ فالإعجاز هُوَ المعيار الأساسيّ لذلك كلّه، وما دام التحدي شاملاً للإنس والجن فهو تحدٍ مطلق لا يقف عند النظم والأسلوب والفصاحة والبلاغة، ولا يخضع للسان البدو وشعرهم ونثرهم وعاداتهم وأساليبهم، بل تخضع إليه كل مَا عداه. وكان ينبغي أن يعد «لسان القرآن» لسانًا قائمًا بذاته تستنبط كل أحكامه ومحدّداته ومناهجه وقواعده منه لا من خارج عنه، فلا يقاس على سجع العرب ولا على نثرهم ولا على شعرهم في شيء من ذلك، بل إليه يقاس ذلك كله. خلافًا لما جرى عليه المفسِّرون واللغويّون بأنواعهم والأصوليّون وعلماء القرآن ومن إليهم حتى يومنا هذا!!
فالإعجاز قد جعل القرآن المجيد ذا «وحدة بنائيَّة» جعلته عندما تستحضر عيوب الخطاب -أيّ خطاب- يبدو وكأنّه جملة واحدة، بل كلمة واحدة لينغلق عن أيّ عيب من عيوب الخطاب أيًّا كان ذلك العيب: فلا يختلف ولا يتناقض ولا يضطرب ولا يغمض، ولا يوجز حتى يخل، ولا يطنب حتى يملّ، ولا يَضِنُّ بمعانيه، ولا يتجاوز أفهام مخاطبيه على كثافة أنواره، وتنوّع طاقات هدايته، ونصاعة الحق الَّذِي يحمله، وثقل القول الَّذِي ينقله، واتساع العلم الَّذِي يفصّله فذلك -كلّه- ينطوي عليه في الكنانة ومكنونه، يتكشَّف عنه عبر العصور فيستوعبها بهدايته، ويشملها بأنواره، ويهيمن على أزماتها وسائر قضاياها بمنهجيّته، إنّه كون في كتاب، وكتاب يهيمن على الكون لا يحدّه زمان فيبلى، ولا يحيط بأنواره مكان؛ بل يستوعب الزمان الماضي حتى يتجاوز قرونه ودهوره ليربط الإنسان في عالم الذر حيث عاهد الإنسان ربه أشرف عهد، وعقد مع بارئه أوثق عقد- يوم قال وهو ذرات سابحة في الملكوت: ﴿.. بَلَى شَهِدْنَا ..﴾ (الأعراف:172) ويستوعب الزمان الحاضر مهما تعقدت قضاياه وتشابكت أزماته وتداخلت أنساقه وثقافاته.
- إن القرآن المجيد ذو «وحدة بنائيَّة» جعلته عندما تستحضر عيوب «الخطاب» أيّ خطاب يبدو كأنّه جملة واحدة ينغلق عن أيّ عيب من عيوب الخطاب أيًّا كانت: فلا تختلف ولا يتناقض ولا يضطرب ولا يغمض، ولا يوجز حتى يُخل، ولا يُطنب حتى يملّ، ولا يَضِنُّ بمعانيه ولا يتجاوز أفهام مخاطبيه على كثافة أنواره وطاقات هدايته ونصاعة الحق الَّذِي كونته ويتسامى على سائر عمليّات الاختزال والتحجيم التي أجريت عليه، وشاركت فيها الأديان المحرّفة، والنظريّات العلميّة الضالَّة والمنحرفة. ويخرجه من أتون الصراع مع الطبيعة الَّذِي أدّى إلى مشاكل البيئة ومصائب التدمير وأزمات التلوث إلى دائرة الجدل الودّي معها، والإحساس بأمومتها، إذ بغير هذا لا تقوم حضارة حقيقية ولا ينشأ عمران.
بهدايته ويشملها بأنواره ويهيمن على أزماتها بمنهجيّته فإذا استجاب الإنسان لهذا القرآن الكريم قاده لما يحييه، بل نقله إلى الحياة وأثنى عطفه إلى أرحامه، ودفعه إلى أبويه: آدم وحواء ليمسحا عنه دموعه وآلامه، وأسكنه الأرض بيتًا متسعًا لكل شعوبه وأقوامه، مهما اختلفت ألوانهم، وتعددت ألسنتهم وتنوّعت شعوبهم وقبائلهم، فالقرآن الكريم ولا شيء غيره سوف يدخلهم في السِّلم كافّة. ويظلّهم بالأمن قاطبة بما أودع الله (تعالى) فيه من بصائر، وحمّل مكنونه من نذارات وبصائر. ثم أنساقه وثقافاته، وتناقضت واصطرعت حضاراته وتعالت وتجبّرت طواغيته، واحتربت واصطرعت دويلاته؛ فالقرآن المجيد ولا شيء غيره قادر على أن يذكِّر هذا الإنسان مَا نسي، ويجدّد له مَا رث وبلى، ويجمع منه مَا تفرّق، ويعيد إلى الصدق مَا تحرّف وينهض مَا انتكس، ويقوم مَا اعوج، ويقود الإنسان ليكتسب إذا كفاحًا دون حجاب ومن غير واسطة فيدرك القوم أنّ هذا الخطاب كان واستمر وبقى خالدًا باعتباره أجل نعم الله (تعالى) على عباد الله لا تساويه نعمة ولا ترقى إلى سماء عليائه فضيلة.
فهل يمكن بعد هذا -كلّه- أن يقال: «إنّ هذا القرآن حمّال أوجه فدعوه» أو «أنّه قابل للنسخ والتناسخ فاحذروه» أو «أنّ غيره يقضي عليه فتأوّلوه».
حتى والجنّة إذا فتحت له أبوابها، وقال لهم خزنتها: ﴿..سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ..﴾ (الزمر:73) يبدأ ذلك الكتاب بهذا الإنسان به مرحلة أخرى فيظل يرقى به وترقى حتى يجلسه مع النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين؛ فإذا تجلى منزِّله (تبارك وتعالى) لهذه الصفوة وأخرج وجهه الكريم لتلك النخبة، وبدل النبيّون والصديقون والشهداء وأهل القرآن أبصارًا غير أبصارهم، وبصائر قادرة على استقبال تلك التجليّات بإذن ربهم صار خطاب الله (تعالى) بهذا القرآن المجيد يأخذ بيديه إلى حيث المستقبل الفسيح: فيمنحه انطلاقًا من إطلاقه وقبسات من أنواره، وشفاءً لما في صدره ليصعَّد في آفاق المستقبل قريبة وبعيدة، مغالبًا ظلماته، مقتحمًا عقباته، نائبًا بمداركه عن دركاته، يحمل من ماضيه الموعظة ومن حاضره الدوافع ويظل القرآن الكريم قائدها المنير، «وأنّه يحتاج لغيره فألفوه» أو «أنّه يجري على سنن خطابكم فبدلالات ألسنتكم افهموه»؟؟!! لا. لا إنّه القرآن والفرقان والذكر والكتاب فتشبثوا به ولا تفارقوه، وبوحدته البنائيَّة وبنائيَّته الكونيَّة تعلّموه. وباسم منزّله، وبمعيَّته اتِّلوه. فلا تتوهموا فيه حرفًا يمكن أن ينفصل عن حرف، ولا كلمة يمكن أن تنفك عن كلمة، ولا آية يمكن أن تُبدَّل بآية، ولا سورة يمكن أن يُغيّر موقعها إلى غيره فكل مَا فيه ثابت ثبات كواكب السماء ونجومها، بل إنّه أشد من ذلك ثباتًا ورسوخًا فالسماء ستنفطر والكواكب ستنتثر أمام نجوم القرآن المجيد وكواكب آياته وشموس سوره، وأقمار أجزائه وأحزابه فلن يعتريها انفطار ولن يطرأ عليها انتثار فهو إذن أثبت منها وأمكن في كل شيء. إنّه القرآن. فلنتكشف «خصائص بنائيّته، ولنجاهد في الوصول إلى محدّدات منهجيّته»، ولنعمل على إدراك «كونيَّته» لنجعل من ذلك جلاء همومنا وأحزاننا، ودواء أزماتنا وإشكاليّاتنا في القرآن المجيد من جديد، وتحت راية القرآن المجيد بطيب الوقوف وبقيادة القرآن المجيد يحلو الإقدام والاقتحام والله من وراء القصد.
وعلى كثرة دراسات الإعجاز وتنوُّعها وتراكماتها عبر العصور فإنّنا لم نعثر على دراسات اتخذت من «الإعجاز» معيارًا منهاجيّا تحاكم إليه تلك الدراسات التي عُرفت «بعلوم القرآن» ويحتكم إليه في قبولها أو رفضها أو تعديلها، بل أطبقت -كلّها- على حصر آثار الإعجاز وانعكاسات على جانب الفضائل المتعلّقة بأساليب القرآن الكريم ونظمه ولغته، وبيان تميّزه على أساليب العرب ونظم لغاهم. وحتى حين حاول البعض بتأثير الهيمنة العلميّة الغربيَّة المعاصرة تقديم نوع جديد من أنواع الإعجاز عرف «بالإعجاز العلميّ» لم يعد أن يكون محاولة لقياس القرآن الكريم إلى ثقافة العصر فكلّما قدمت ثقافة العصر كشفًا علميّا أو معرفيّا جديدًا قيل: إنّ القرآن الكريم قد سبقت إشارته إلى ذلك أو تنبيهه إليه. وفي هذا تصبح ثقافة العصر مرجعًا لبيان تميّز القرآن الكريم بشيء من السبق الزمنيّ. وحين برزت قضيّة «إسلاميّة المعرفة» قبل مَا يقرب من ثلاثّة عقود نظر كثير من قادة الفكرة والقائمين عليها إلى أنّها «مدخل معاصر» لما قد يستحسن من فلسفات وعلوم حديثة أو معاصرة للاستفادة بها في تطوير «الدراسات الإسلاميّة»، وتأصيل تلك المقتبسات بإرجاعها إلى التراث الإسلاميّ بقطع النظر عن أيّ اعتبار إلا أنّها تراث إسلاميّ ولم يلتفت إلى القرآن المجيد بما يناسب إعجازه. وأستغفر الله أنّني كنت من بين من مارسوا ذلك في بادئ الأمر حتى إنّني أشرفت على مشروع سميناه في حينه «تكشيف القرآن» وفقًا لمفاتيح العلوم الاجتماعيّة المعاصرة مستفيدين من «علوم المكتبات» وكلماتها المفتاحيّة فخرجنا من هذا المشروع بالعجب العجاب كما أنّ «العقول المستطرقة» قياسًا على «الأواني المستطرقة» سرعان مَا حولت هذه القضيّة الفلسفيّة الخطيرة إلى مجموعة من التراكمات التراثيّة المكتوبة بلغة عصريّة والمطعمة بصدفات من المصطلحات والمفاهيم والعلوم المعاصرة لتضيف إلى قائمة «العلوم» التي أحصاها الفارابي، والكندي، وابن حزم، ثم ابن الساعي الألفاني، فالفخر الرازي، فطاش كبرى زادة، فالسيوطي، ثم صاحب «أبجد العلوم» علومًا جديدة نحو «علم النفس الإسلاميّ» وعلم «الإنسان الإسلاميّ» و«علم الاجتماع الإسلاميّ» و«علم الاقتصاد الإسلاميّ» و. .. و. .. وحين بدأ وعينا على القرآن المجيد ومنهجه ومنطقه يتفتح، وشرعنا بكتابة بعض القضايا سارعت «العقول المستطرقة» إلى انتقاء بعض المقولات الموروثة من مفسّرين أو مؤولين أو سواهم لإعادة إنتاجها بلغة معاصرة فبدأ الكثيرون يتحدثون ويكتبون عن «الجمع بين القراءتين» بذلك المعنى البسيط؛ الكون كتاب منثور، والقرآن كتاب مسطور، يجب أن يقرءا معًا ويجري التدبّر فيهما معًا. وكذلك أخذ كثيرون معنى «المنهج والمنهجيّة» بالمعنى اللغويّ؛ الطريق لا بمعناه الفلسفيّ الَّذِي نرمي إليه. وهنا أود أن أستغفر الله مرة أخرى وأتوب إليه على ندائي الدائم المستمر قبل عشرين عامًا أو تزيد بضرورة تعليم علماء الاجتماعيّات المعاصرين علم «أصول الفقه» ليكون «منهج بحث ومعرفة» يجري مطه وسحبه ولو بالقوة من الظواهر الفقهيّة القائمة على التقييم وبيان الحلال والحرام إلى سائر الظواهر الاجتماعيّة وكأن الامتداد السرطانيّ للفقه الجزئيّ في سائر فراغات حياتنا لا يكفي فأردت أن أمد رداء «أصول الفقه» على سائر ظواهر الحياة لئلا يغلب شيء منها من قبضة الفقيه… وكنت قد أعددت مسوّدة كتاب في أصول الفقه باعتباره منهج بحث ومعرفة قسمه التاريخيّ الأول وأمسكت عن نشر القسم الثاني الَّذِي كنت قد أصَّلت فيه لضرورة اتخاذ علماء الاجتماعيّات المعاصرين «أصول الفقه» منهج بحث ومعرفة في كل مَا يأخذون ويتناولون ويتركون. وكنت في تلك المرحلة أظن «وبعض الظن أثم» أنّنا بذلك سوف نؤسس العلوم الاجتماعيّة وفلسفة العلوم الطبيعيّة ونوجه العلوم الطبيعيّة وجهة إسلاميّة. وأحمد الله وأشكره أن كل تلك التجارب الفاشلة والناقصة قد قادت في النهاية إلى تجاوز تلك المرحلة إلى المرحلة المستوعبة لها والمتجاوزة حين تم تأسيس «جامعة العلوم الإسلاميّة والاجتماعيّة» وواجهنا التحديّ الحقيقيّ الَّذِي لا يسمح بتلفيق ولا توثيق، بل فرض علينا النظر في «إسلاميّة المعرفة» باعتباره قضيّة فلسفيّة كبرى ذات منهج علميّ متميز يستهدف الوصول إلى اجتهاد معتبر وتجديد نوعيّ مميز وفعال يستوعب العلوم والفلسفات التي بلغتها البشريّة بعد ذلك الكدح الطويل ويتجاوزها فنحن في حاجة إلى «التجديد النوعيّ» وإلى «الاجتهاد النوعيّ وليس التراكميّ».
ولذلك فقد حاولنا مواجهة التحدي في تلك الجامعة الفتية الصغيرة الناشئة بالعمل على إيجاد «أدوات معرفيّة» فاعلة تعين على إعادة فهم القرآن الكريم فهمًا سليمًا قائمًا على «التحليل» لا على التفسير والتأويل. وفي تلك القراءة المستمرة للقرآن الكريم والسنّة الثابتة تفتحت أبواب رحمة لا مغلق لها، ساعدت على تحديد مواقف معرفيّة من أنواع التراث المختلفة، كما ساعدت على اتخاذ مواقف منهجيّة من الفلسفات والعلوم والمعارف الحديثة مَا كان من الممكن لتلك الأبواب أن تفتح إلا بمفاتيح القرآن المجيد الكتاب الكونيّ الوحيد على وجه الأرض. وذلك جانب من جوانب إعجاز هذا الكتاب الكونيّ الخالد. وبهذا الكتاب المعجز الخالد وبالمنهج الَّذِي اتبعناه وجدنا أنفسنا أساتذة وطلابًا قادرين على التعامل مع سائر الإشكاليّات المعرفيّة التي أفرزتها مراحل الأنوار والحداثة وما بعد الحداثة والتاريخ وفلسفة التاريخ ونهاية التاريخ وتدافع الحضارات إلى غير ذلك من أمور مَا كان المسلمون والإسلاميّون يقاربونها إلا بمنطق المقاربات وأحيانًا بمنطق المقارنات أو يواجهونها بموقف فقهيّ أو كلاميّ أو رفض سلبيّ.
وحين يتعامل الباحثون مع هذا الكتاب الكونيّ بذلك الفهم وبتلك الأدوات فإنّهم سوف يكتشفون الأوجه المكنونة لإعجازه.
فعلى الأستاذ أن يقود طلبته والباحثين في مسالك الإعجاز قيادة حكيمة متأنية تستوعب مَا جاء به المتقدمون حول إعجاز النظم والأسلوب وما إلى ذلك. وتتجاوزه بمنهج معرفيّ إلى هذه المراتب العالية ويقدم من التطبيق مَا يجعل الباحث يهرع إلى القرآن الكريم أولًا عندما تحيط به الإشكاليّات المختلفة ويطرح بين يديه لمعالجتها.
- العلاقة بين الكتاب والسنّة في ضوء «علوم القرآن»:
إلى أيّ مدى تأثر الكاتبون في «علوم القرآن» بنظرة الأصوليِّين والفقهاء إلى هذه العلاقة؟ وهل كان الموقف موحّدًا في كل من المكيّ والمدنيّ أو أن المدنيّ كان أكثر تعرُّضًا لتأثير الاتجاهات الأصوليّة والفقهيّة في النظر إليه، وفي «علوم القرآن» التي تعلقت به مع استصحاب مَا ورد عن العلاقة بين الكتاب والسنّة في حصة النسخ وإذا كانت السنّة بيانًا للكتاب فما المراد بذلك البيان على وجه الدقة وكيف يكون؟ والقرآن كذلك عُد تبيانًا لكل شيء والسنّة شيء من الأشياء التي يشملها هذا العلم كما نبه إلى ذلك الشاطبي، وهل تعد العلاقة التراتبيّة التي التزمها الفقهاء كما في حديث معاذ العلاقة السليمة؟ وهل للانقسام بين أهل الرأي وأهل الحديث أثر في الإخلال بطبيعة العلاقة بينهما؟ وما آثار تدوين القرآن الكريم والنهي عن تدوين السنن في هذه العلاقة.
ومتى يمكن القول بظهور هذه الإشكاليَّة؟ يرى البعض أن السنن حينما جمعت إنّما جمعت لتكون بديلا عن الفقه أو وسيلة لتقليل الاختلاف الفقهيّ في الأقل؟ وما أثر الوضع في الحديث؟ وما أثره في الإخلال بعلاقة الكتاب بالسنّة؟ وما سياسة الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في تحديد العلاقة بين الكتاب والسنّة؟ وإذا قيل «بإطلاق القرآن» «ونسبيّة السنّة» فكيف ستكون العلاقة بينهما؟ وما الفرق في ذلك -كلّه- بين مَا اسماه بعضهم «السنّة التشريعيّة» و«السنّة غير التشريعيّة» وما ضوابط كل منهما إذا سلّمنا بصحة وسلامة هذه القسمة وقد استنبط بعض الباحثين «سيرة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأهم وأصح وقائعها من القرآن»؟ فهل يمكن استنباط «السنّة التشريعيّة» خاصّة من القرآن المجيد وكيف؟ وما العوامل التي ساهمت في ظهور اتجاهات نفي السنن والاقتصار على القرآن المجيد وحده قديمًا وحديثًا؟ من أهم من أهتم بتحديد العلاقة بين الكتاب والسنّة الشاطبي، مَا أهم مَا قدمه في هذا الموضوع؟ هل اتخذ جمهرة الأصوليّين خاصّة الكتاب والسنّة مصادر لإنشاء الحكم أو الكشف عنه باستنباطه منه أو أنّهم جعلوهما مراجع للشهادة على صحة مَا توصلوا إليه باجتهادهم ووفقًا لقواعدهم فتبدو وكأنها مصادر تأصيل لا إنشاء وكشف واستنباط؟ ادعى البعض أن كل آية أو حديث تخالف فقه أصحابه فهي إمّا مؤولة أو منسوخة فهل يعد هذا انطلاقًا من التصور السابق؟ قدم البعض الدليل العقليّ على الدليل النقليّ استنادًا إلى مبدأ «القطع والظن» وقدم البعد القياس على خبر الواحد هل لهذه المذاهب سند شرعيّ؟ يتوقع من الأستاذ أن يقود الباحثين في هذه المضايق حتى يصل بهم إلى تحديد دقيق لهذه العلاقة بين الكتاب والسنّة يستوعب ويتجاوز ذلك التراث الَّذِي أخرج بهذه العلاقة وأوجد مَا يشبه الخط الفاصل بين الكتاب والسنّة فكيف تتجاوز ذلك لتبني بينهما «وحدة بنائيّة» تمثل العلاقة الحقيقية فعلا بينهما؟
- الاتجاهات الحديثة في فهم القرآن الكريم:
برزت اتجاهات حديثة في فهم القرآن المجيد يظن أصحابها أنّهم يمكن يقدموا بجهودهم تلك القرآن المجيد للناس على مستوى العصر وثقافته، وفي هذه الحصة نود استعراض أهم تلك الجهود وبيان منطلقاتها ومدى جديتها فيما تصدت له، وقراءتها قراءة معرفيّة دون تشنج بالرفض أو القبول. ومنها قراءة شحرور ودك الباب ونيازي وجمال البنا وكذلك كتابات أولئك الذين ردوا عليهم.
كما سنتعرض في هذه الحصة إلى تناول بعض الكتّاب أمثال نصر حامد أَبُو زيد ومحمد أركون وغيرهما لقراءة «علوم القرآن» أو بعضها من منطلقات السنيّة لم تفترض فرقًا بين القرآن المجيد وأي نص أدبي آخر. وذلك لمعرفة قيمة وأهميَّة مَا قدم هؤلاء في هذا المجال ومعرفة منطلقات أصحابها كما يجري استعراض مَا كتبه نحو حسن حنفيّ والجابري وطيب تيرني في هذا المجال. دون إغفال للدراسات الاستشراقيّة ذات العلاقة بهذا الأمر.