نحو منهجية معرفية قرآنية: قراءة في دراسات طه جابر العلواني القرآنية
بقلم الأستاذ/ وائل حمدوش
لم يعد التجديد وقضاياه المطروحة أمرا اختياريا بقدر ما هو ضرورة ملحة يقف عليها وجود الأمة ومستقبلها، فالاقتيات على الماضي لم يعد كافيا ووافيا لمستجدات الحياة وعجلتها الدائرة.
وما التجديد حقيقة إلا تجديد الصلة بالقرآن والسنة النبوية، تجديد للتعامل معهما، تعاملا معرفيا لا تعاملا تبركيا، فلقد تجافت العقول عن الحوار مع كتاب الله وسنة نبيه، فتكلست الأفهام وتعطلت المصالح، وشكلت الفهوم التراثية حاجزا بين الجيل المسلم وبين كتاب الله عز وجل، فحاكمنا القرآن بتلك الفهوم بدلا من محاكمة تلك الفهوم إلى القرآن، فجرى هذا التراث صفة المطلق من القرآن وأحاطه بنسبية هذه الفهوم.
من هنا ينطلق الدكتور طه جابر العلواني في سلسلة دراسات قرآنية معرفية تحاول الكشف عن مداخل التعامل مع القرآن، ومحاولا مقاربة (المنهج والمنهجية المعرفية القرآنية) هادفا إلى التعامل مع القرآن تعاملا واعيا فاعلا لا متأثرا منفعلا.
أزمة الإنسانية ودور القرآن في الخلاص منها
يحاول العلواني في كتابه (أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها) أن يقدم الأنموذج القرآني كوصفة لخلاص البشرية، لذا تعرض للحملات التي تحاول النيل من القرآن وخاصة الحملة الأخيرة التي طرحت بديلا عن القرآن بعنوان (الفرقان الحق) أو (المفبركان الباطل) – حسب تعبير العلواني – فهذه المحاولات التضليلية الخائبة كانت استمرارا للمحاولات السابقة، فما هي إلا محاكاة لمسيلمة الكذاب، ومن سار على دربه. (ص25).
وبما أن القرآن خطاب إنساني فإن هذا الاعتداء على القرآن اعتداء على البشرية جمعاء، فهو ليس اعتداء على المسلمين فقط، لذا فإن واجب الدفاع عن القرآن (الكتاب الإلهي) يقع على عاتق الأمم كافة.
نوه العلواني إلى نماذج أخرى من التحريف، وهي التحريف في الوظيفة، فكما أن القرآن يحرف في أحرفه، فإنه يحرف في وظيفته، وما محاولة توظيفه دون عده مرجعا حقيقيا ليؤدي دورا ما إلا تكريسا لهذا التحريف، فشتان “بين توظيف الدين وبين الرجوع إليه أو حسبانه مرجعية يجب الرجوع إليها.. فتوظيفه يعني استدعاؤه لأداء وظيفة أو دور يظن أصحاب القرار السياسي أن الدين يستطيع أن يؤديه” (ص35).
إن مشاكل الإنسانية على تعقيداتها المتنوعة لا ينهض بحلها إلا مشروع عرف البشرية حقا، وهذا المشروع لا يحمله غير القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم عليم بمن خلق وبما يصلح لهم، فلا تقوى الديمقراطية على حل مشاكل الإنسانية، “إذ إن مهمتها فقط الحيلولة دون تفجر العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد، واحتواء التناقضات بين فئاته وعناصره من خلال تقنين الصراع، واستيعاب القوى الجديدة في المجتمع” (ص71)، فالديمقراطية قامت لحفظ التوازن بين القوى الاجتماعية، ولكن تلك المهمة لا تعني حفظ الإنسانية والرقي بها، وإنما تقوم تلك المهمة في جانب واحد هو الجانب السياسي الذي غالبا ما يلتهم القيم الإنسانية ويعرج عليها للوصول إلى مبتغاه.
ولن تكون العولمة أوفر حظا في تقديم الحل، فهي تخفي خلف أطروحاتها التعاونية والعالمية نوايا الاستتباع والإلحاق “بنظام عالمي له مؤسساته الدولية سياسيا واقتصاديا وأمنيا وتربويا وفكريا” (ص77)، ولم “تعد العولمة المعاصرة تقبل من الآخرين مجرد القبول بها أو الانفتاح عليها.. لكنها تصر على أن تعيد تشكيل أنظمة الشعوب والأمم الأخرى على صورتها وتلحقها بها إلحاقا عضويا”. (ص77).
وأمام عجز هذه الأطروحات وتوالي التردي في أزمة الإنسان، ما من حل حقيقي ولا علاج ناجع إلا ذاك الذي يقدمه القرآن؛ “فالقرآن بخصائصه – ولا مصدر سواه – يستطيع أن يقوم بالتصديق والمراجعة ثم الهيمنة على سائر المناهج المطروحة… فالقرآن هو الأقدر على أن يعالج بمنهجيته القائمة على الجمع بين القراءتين مشكلات الوجود الإنساني وأزماته الفكرية والحضارية ويدخل الناس كافة حالة السلم” (ص81).
لكن لا بد من تحقيق عدة أمور قبل الدخول في رحابه:
أولها: “تجريد وتنقية معارف وحيه من سائر آثار النسبية البشرية التي أحاطت بمطلقه وحجبت أنواره وأخضعته لوحيها الذاتي وحكمت عليه بتاريخانيتها وحكّمت بمحكمه أيديولوجياتها وثقافتها وأعرافها وتقاليدها وقاموسها اللغوي، فإذا لم نجرد آيات الذكر الحكيم من ذلك كله وإذا لم نعد قراءته بنور القراءتين المذكورتين في بداية نزوله وفي إطار وحدته البنائية فإننا لن نتمكن من فهمه معرفيا” (ص82).
إننا ندرك حجم الأزمة التي خلقناها بركوننا إلى التراث والحكم به على كتاب الله، لكن التشخيص بهذه الطريقة مبالغ فيها، ويمكننا أن نستشف من قراءة العلواني أن علماء السلف أخطر على القرآن من أعدائه، وهم الذين “أخضعوا وحيه لوعيهم وحكموا بأيديولوجياتهم محكماته”. لا شك أننا ندعو لقراءة التراث ثانية وثالثة.. ولكن أن يكون تبريرنا بمثل هذا التهويل مما قام به السلف فهذا أمر مبالغ فيه، كما أنه تنكر لجهدهم الكبير في ميدان خدمة القرآن الكريم، فضلا عن أنهم لم يضعوا أنفسهم موضع الحكم على القرآن بل وضعتهم الأجيال اللاحقة ذلك الموضع.
ثانيها: “الالتزام بالأمانة العلمية مع القرآن فكريا ونفسيا، فلا ندخل إلى عالم القرآن بحثا عن شواهد لأفكار بنيناها بعيدا عنه” (ص83)
ثالثها: الدخول إليه بعد فهم الأزمة وإدراك أبعادها كلها، مع الإيمان بقدرة القرآن على الحل (ص84).
رابعها: إدراك الخصائص الذاتية للأمة القطب (أمة القرآن) هذه الأمة التي ستقوم بواجب الإصلاح والتغيير (ص84).
إن قراءة إجمالية لما طرحه الكتاب تثير جملة من النقاط، فإذا كان العلواني يقصد بخطابه المسلمين، في معرض إقناعهم بأن القرآن حامل إكسير الحياة للإنسانية، فهذا مما لا حاجة للبرهنة عليه، ولا حاجة لطرحه أصلا لأنه أساس الإيمان بالنسبة للمسلمين، وإن كان المخاطب هم غير المسلمين، فإن ما قدمه يعد مصادرة على المطلوب، فهم لم يقتنعوا بالقرآن أصلا حتى نعرض لهم قدراته في حل مشاكل الإنسانية، ونحملهم مسؤولية الدفاع عنه.
من ناحية أخرى وفيما يخص مادة الكتاب المعرفية، فلقد حشد العلواني في هذا الكتاب من كل موضوع فكرة، فأتى على إعجاز القرآن وعلى حملات التضليل، وعلى روعته المعرفية وعلى كثير من القضايا التي تمس القرآن وما أكثرها… وهو يريد الحديث عن أزمة الإنسانية ودور القرآن في حلها فقط، ولا شك أن الاستطراد خطأ منهجي كبير فلا يجوز أن نكتب كل ما يخطر بالبال ثم نتكلف في ربطه مع الموضوع الأم.
إن العلاج الذي رسمه العلواني والمتمثل في الخطوات الأربع السابق ذكرها قد تشبع من العمومية الشيء الكثير إلى الدرجة التي لا نعتقد فيها بوجود طرح أعم منه فيما يتعلق بفهم القرآن (تنقية التراث، وقراءة القرآن بأمانة، وفهم الأزمة…) هذه خطوات شديدة العمومية، وكان من الأولى لو رسم لنا منهجا يحمل فكرا، ولا يقتصر على طرح أمنيات بحاجة لعمل.
الجمع بين القراءتين مدخلا لفهم القرآن الكريم
يكرر العلواني في كتبه كثيرا فكرة الجمع بين القراءتين (قراءة المسطور وقراءة المنظور)، (قراءة القرآن، وقراءة الكون) حيث لا يمكن فهم القرآن ومعرفة مراميه دون الجمع بين هاتين القراءتين، فمن “تجاوز القراءة الأولى في الوحي النازل إلى النبيين، واستغرق استغراقا كليا في القراءة الثانية التي تمثل علم الكون أو معارف الطبيعة منقطعة عن الله فقد العلاقة بالله وتجاهل الغيب وانطلق بفلسفة إنسانية مستقلة وضعية منبتة عن الله، عوراء قاصرة في مصادرها، وتحاول أن توحد بين الإنسان والطبيعة بإطلاق، وتعد الخالق والغيب كله مجرد ما ورائيات أو ميتافيزيقيا يمكن تجاهلها أو تجاوزها” (ص22-23).
وأما إهمال القراءة الثانية في الكون والطبيعة المسخرة فإنه يؤدي “إلى نفور من الدنيا واستقذار لها ولما فيها، يشل طاقات الإنسان العمرانية والحضارية ويعطله عن أداء مهام الخلافة والأمانة والعمران، ويحول بينه وبين التمتع بنعمة التسخير ويعطل فكره وينقص من قيمة فعله بل قد يلغي إدراكه لفعله فلا يرى الإنسان نفسه فاعلا في شيء” (ص25-26).
ولكن مهمة الجمع هذه لا يستطيع القيام بها – حسب العلواني – إلا من أوتي القرآن وحظا من العلوم والمعارف بشكل كاف لاكتشاف ذلك التداخل المنهجي بين القرآن والكون والإنسان، وذلك يكون وفق الأسس التالية:
– إعادة بناء الرؤية الإسلامية المعرفية القائمة على العقيدة وما ينبثق عنها من تصور سليم، وذلك لنتمكن من الإجابة على “الأسئلة الكلية النهائية” (ص59).
– إعادة فحص وتشكيل وبناء قواعد المناهج الإسلامية في مجالاتها المختلفة.
– بناء منهج للتعامل مع القرآن المجيد ومعرفة مداخل قراءته من خلال هذه الرؤية المنهجية التحليلية، “بحسبان القرآن مصدرا منشئا للمنهج والعقيدة والشرعة والمعرفة” (ص60)، وقد يتطلب ذلك إعادة بناء نظريات علوم القرآن وتجاوز بعض الموروث في هذا المجال.
– بناء منهج للتعامل مع السنة النبوية المطهرة، وذلك بحسبانها مصدرا مبينا للقرآن وتطبيقا له.
– إعادة دراسة وفهم تراثنا الإسلامي وقراءته قراءة نقدية تحليلية.
– بناء منهج للتعامل مع التراث الإنساني المعاصر.
وبتدقيق النظر في هذه النقاط يمكن القول بأننا نلحظ أن فريقا من الباحثين الذين أعلنوا التجديد والتنور يكثرون من طلب الحل ولا يقدمونه، (علينا أن نفهم القرآن فهما موافقا للزمن، وعلينا تنقية التراث، وعلينا بناء مناهج معاصرة…) كل ذلك وهم لا يقدمون من هذا المطلوب شيئا، فهذه النقاط الست التي طرحها العلواني، لم تكن بأحسن من تلك النقاط الأربع السابقة الذكر، فهي على نفس الدرجة في العموم، والضبابية، فكلنا يدعو إلى المنهج السليم، ونشدد على ضرورة كونه سليما، إلا أن الرؤية التفصيلية المتعلقة بكيفية حل الإشكال تظهر عند طرح القضية بقواعدها وتطبيقاتها، بحيث تظهر كقضية معرفية متكاملة لا أمنية فكرية ناقصة.
فما أحوجنا إلى منهجية معرفية مفصلة، لا الكلام العام الذي يصلح أن ينطوي تحته كل شيء أو يحمل دعوات إلى الحل بعيدا عن خطوات الحل نفسه، فالقواعد التي قدمها العلواني كمنهج، يتفق عليها العلماء كلهم، ثم إنهم يصرون عليها ولكنها لم تحل دون اختلافهم بل وانقسامهم، وهذا الاختلاف نابع في تقديرنا من الدراسة التفصيلية التحليلية، فهم لا يختلفون في المبادئ العامة إلا قليلا
لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب
في كتابه (لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب) يطرح العلواني قضية لغة القرآن ومستوى الوفق والفرق بينها وبين لغة العرب، فيرى أن للقرآن لسانه الخاص به، حيث يتصل “باللسان العربي كما يشاء وينفصل عنه عندما يريد، ويهيمن عليه في سائر الأحوال، وما التحدي والإعجاز – خاصة – بالنظم والأسلوب والبلاغة والفصاحة إلا بعض مظاهر الانفصال عن لسان العرب” (ص20).
ويذهب العلواني إلى أن القرآن نزل موافقا لكلام العرب ومهيمنا عليه، وقد عكف العلماء على تخريج القرآن على لسان العرب، حتى إنهم تأولوا كثيرا من الألفاظ والأساليب الجديدة التي أتى بها بما يناسب كلام العرب، وبحثوا في شعر العرب عن شواهد للغة القرآن، وكانوا يقصدون نصرة القرآن لغويا، إلا أنهم وفي الوقت نفسه كانوا – من غير قصد – يحجّمون القرآن في إطار ما قالته العرب فقط، علما بأنه تفوق عليهم، فالبحث عن شواهد له عندهم إغفال لتميزه الذي يجب البحث عنه أصلا، وهذا ما تنبه له العلواني حقيقة وأجاد فيه.
فالقرآن نحت ألفاظا جديدة، وابتكر أساليب جديدة لم تكن تعرفها العرب، فيجب أن يفهم في هذا السياق، لا أن يخرج على كلام العرب في كل شيء بشكل يحد من خصوصيته.
ورغم قناعتنا بأن لغة القرآن متميزة عن لغة العرب، فإن ما طرحه العلواني من كون القرآن منفصلا أحيانا عن لغة العرب، لا نبالغ إن قلنا إنه كلام خطير، ولا يسلم العلماء بصحته، ولو أنه قال: إن القرآن متميز عن كلام العرب، لحسن القول – في نظري – ولكن أن يقول إنه منفصل فهذا كلام يرده القرآن الذي أكد على عربيته كاملا من غير تفريق بين بعض نصوصه، صحيح أن القرآن تحدى أن يأتوا بمثله، لكن هذا التحدي كان قائما على كون القرآن ضمن الحقل اللغوي ولو كان منفصلا عنهم – وإن أحيانا – لما جاز التحدي به لأنه منفصل عن لغتهم، فهو متميز عن كلام العرب ضمن نطاق اللغة ذاتها لا بالخروج عنها.
ثم يرى العلواني أن قضية المعرب والدخيل في القرآن كان لها كبير الأثر في تفريق الأمة، فكانت كل فرقة بحاجة إلى تعزيز موقفها بالتفسير والتأويل، واللغة مرجعية لا يمكن تجاهلها “أو التقليل من شأنها في علاقتها بالخطاب، لكن إثارة شيء مثل هذا حولها، وتفريق بعض كلمات النص بين القبائل والشعوب قد يعطي لأهل التأويل فرصة أكبر للتقليل من شأن الدليل السمعي بعامة وإضعافه وتقديم الدليل العقلي بديلا عنه، أو لا أقل من وضعه في مواجهته” (ص41).
ومن الأمور التي أسهمت في إضفاء الصبغة العربية على القرآن من غير تمييز له عن كلام العرب الفهم الخاطئ لمفهوم الأمية، فلقد فهموا من الأمية هنا عدم القراءة والكتابة، في حين أنها تعني من ليس له كتاب منزل عليه، وإن كان يقرأ ويكتب، وأظن العلواني مصيبا في ذلك، فقد تعقب الشاطبي في ذلك وبين خطأ مقولته بأن القرآن نزل على معهود الأميين في خطابهم، وهو يقصد بالأميين هنا من لا يجيد القراءة والكتابة؛ لأن العلواني يرى أن الفكر والمعرفة التي أتى بها القرآن يجب أن تحملها لغة متطورة أكثر من لغة العرب التي حملت فكرهم وعاداتهم، لذلك أعطى القرآن معاني جديدة لبعض الألفاظ، وجاء بأساليب جديدة لتوافق أغراضه الفكرية التي لم تكن تعرفها العرب، فيجب فهم لغة القرآن في هذا الإطار الفكري العالمي المحمول على اللغة العربية.
إننا إذ نتحدث عن خصوصية القرآن اللغوية، وحتى لا يشط بنا المقال في الحديث عن هذه الخصوصية، فنخرج القرآن عن كلام العرب، يجب التفريق بين أمرين: أحدهما لفظي والآخر معرفي.
فالقرآن الكريم كلام عربي من غير شك، له أسلوبه الخاص (ضمن الدائرة اللغوية)، لكن هذا المبنى اللغوي يحمل مضمونا معرفيا وفكريا ذا صبغة عالمية، فلا يجوز لنا – حتى نثبت هذه العالمية – أن نخرج بالقرآن عن كلام العرب، ونفصله عنها في بعض الأحيان، كما لا يجوز لنا أن نسجن اللفظ القرآني ومحتواه الفكري في شعر العرب وكلامهم، بل يجب استحضار خصوصيته وتميزه كذلك، ولاسيما أن العرب كانت زمن الحجية تبتكر وتقيس.. فلم يحجر ذلك على القرآن من خلال البحث عن شواهد للغته في نصوص هي أدنى منه أسلوبا.
القرآن لغة هو أول مصدر لغوي – بغض النظر عن الجانب الشرعي – من حيث القيمة اللغوية، وهذا باعتراف العرب قاطبة الذين شهدوا ببراعته رغم تميزه الذي لم ينكروه عليه، وهذا بحضور فصحاء قريش الذين ما كانوا ليتركوا فرصة لانتقاص القرآن إن وجدت، ولكنهم شهدوا ببلاغته وعربيته رغم معرفتهم بتميزه، وهذا دليل على عدم وجود مانع لغوي لتميز القرآن وإلا فإنهم كانوا سينتقدونه، فتميزه لم يخرجه عن عروبته بل بوأه الصدارة عليها، وعلماء العربية كانوا يقدمون شواهده على غيرها من الشواهد، لذا يجب محاكمة النصوص الأخرى (شعر، نثر…) إلى القرآن وليس العكس؛ لأنه النص الأول عربيا بشهادة العرب.
الوحدة البنائية في القرآن الكريم
القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وبالتالي لا يجوز النظر في القرآن بشكل مجتزأ بل يجب مراعاة الوحدة البنائية فيه، وأن يرد بعضه إلى بعض في فهمه، وذلك تحاشيا للفهم المجتزأ الذي لا يعبر عن المعاني المطلوبة حقيقة.
هذه القضية هي ما تناوله الكتاب الرابع من سلسلة الدراسات القرآنية للدكتور العلواني (الوحدة البنائية للقرآن المجيد).
لقد أخطأ بعض العلماء عندما قصروا المراد من القرآن في الأحكام الشرعية فقط، فخرجوا بمقولة أن دراسة آيات الأحكام – على اختلافهم في عددها بين أربعين ومائتي آية إلى خمس مائة آية – تكفي في بيان الأحكام الشرعية، هذه الأحكام التي ظنوها غاية المطلب من نصوص الوحي (ص27).
إن مقولة الوحدة البنائية لم تبرز حتى زمن متأخر، فهي لم تظهر – حسب العلواني – عند الجيل الأول من الصحابة لأنهم كانوا على قناعة باستحالة الإتيان بمثل القرآن الكريم.
ولا أدري ما علاقة هذه القناعة بعدم ظهور القول بالوحدة البنائية، وهما قضيتان مختلفتان، فمسألة الوحدة البنائية تتعلق بتفسير القرآن، فكيف كان الصحابة يفسرونه؟ هل كانوا متجاهلين فكرة الوحدة البنائية في التفسير؟ وأما مسألة قناعتهم بالقرآن وعلو بلاغته، فهذا له علاقة بإيمانهم، ولا صلة بين الأمرين.
ووفقا للعلواني، لم توجد الوحدة البنائية عند الجيل الأول، ولا عند جيل الفقهاء الذي “انشغل بإنتاج الفقه وتقعيد أصوله للاستجابة لمستجدات الحياة المتسارعة وإعطاء الأحكام المناسبة للنوازل” (ص29)، والواقع أنه لا علاقة بين انشغال الفقهاء وعدم التفاتهم إلى الوحدة البنائية. والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا: هل كان الفقهاء يتعاملون مع النص في سبيل إنتاج الأحكام الشرعية بشكل مجتزأ من غير نظر في وحدته البنائية كلها، ومن غير رد النصوص إلى بعضها؟ وهو ما لا نعتقده أبدا، ثم ما علاقة انشغالهم بطبيعة نظرهم في القرآن؟ فهذا له علاقة بالمنهج وذاك له علاقة بمجال العمل، ولا يعارض أحدهما الآخر.
ويستطرد العلواني قائلا: إن هذه الوحدة البنائية لم توجد كذلك عند الأصوليين، علما بأن طبيعة عملهم تفترض ذلك أساسا لها، فهم نظروا في نصوص الوحي من حيث الترابط بينها لاستنباط منهج لتحليل نصوص الوحي، فقسموا المباحث إلى العام والخاص، والمطلق والمقيد، ودرسوا التعارض والترجيح… وكل ذلك من متعلقات الوحدة البنائية والنظرِ إلى القرآن على أنه نص واحد يفهم برد بعضه إلى بعض، فلم لم يعد العلواني ذلك ظهورا لفكرة الوحدة البنائية؟ وهل يشترط أن ينص العلماء على هذا المصطلح بالاسم الحديث حتى نتيقن من وجوده عندهم وإن كنا لمسناه في كتبهم؟
وحسب العلواني فإن مسيرة الوحدة البنائية ظهرت ابتداء عند الجرجاني صاحب نظرية النظم، فهو وإن لم ينص عليها صراحة فإن “جهوده في بناء نظرية النظم قد شقت الطريق إليها وأعطى كثيرا من الدلائل الدالة عليها وقدم المعالم الموصلة إليها” (ص59)، ثم تبعه أبو علي الفارسي -علما بأنه توفي قبل الجرجاني بمائة عام وفقا لما ذكره السيوطي في بغية الوعاة-، ثم بدأ العلماء يهتمون بهذه النظرية.
وفي الحقيقة فإن ما عناه الجرجاني بنظرية النظم هو غير ما نعنيه بالوحدة البنائية، وهو أمر مختلف تماما، فنظرية النظم نظرية نحوية، تهتم بالتركيب وتؤكد عليه في مقابل الألفاظ، فلا يرى الجرجاني بلاغة في اللفظ ما لم يدخل في التركيب، فالنظم عند الجرجاني هو الجمل النحوية التي تنظم الكلام، فكان عمله يعد تصحيحا لمسيرة النحو العربي الذي بدأ يهتم بالشكل دون المضمون – كالاهتمام بحركات أواخر الكلمات دون فهم أسرار التركيب وسر كل أسلوب في التركيب والمعنى – في حين أن الوحدة البنائية في القرآن هي النظر في كل القرآن على أنه نص واحد متكامل معرفيا تُرد أفكاره إلى بعضها البعض، فهذه قضية معرفية بينما قضية النظم قضية لغوية، فلا علاقة بين المقولتين، فمن الممكن الاهتمام بالتركيب والنظم وإغفال الوحدة على مستوى النص كاملا.
ثم طرح العلواني نماذج للوحدة البنائية على مستوى السورة، فمثل بسورة البقرة التي يرى أن عمودها “توحيد الربوبية” (ص82)، وهذا العمود تقوم سائر الأوتاد حوله، ثم ساق الأدلة على ذلك، لكن الأمر في ذلك مستغرب، وعلى قناعتنا بترابط السورة القرآنية منطقيا وتكاملها معرفيا، فإن السؤال الأهم هنا: ما هي القيمة المنهجية لهذا العمود في تفسير السورة وبيانها، وهل نجاحنا في حمل سائر الآيات حول هذا العمود هو الغاية المرجوة فقط؟ بالتأكيد ليس هذا هو القصد، فليست فكرة عمود السورة غاية بذاتها بل هي مدخل منهجي للبيان والفهم فإن لم توجد لذلك فهي استعراض فني، وينبغي أن توظف هذه الوحدة المنهجية في السورة في الفهم والدلالة وعدم الاكتفاء الشكلي بحمل النصوص على موضوع واحد فقط.
والواقع إن القول بأن نظرية الوحدة البنائية لم توجد عند الأقدمين كنظرية مستقلة مقسمة يعد كلاما صحيحا، وأما أن ندعي عدم وجودها فعلا فهذا كلام نختلف معه بشدة إذ يستحيل معه تناول القرآن أصلا، ولم يكن السلف بتلك البساطة التي تحملهم على تجاهل الوحدة البنائية، فلقد سكنت في عقولهم كما سكن علم أصول الفقه قبل تدوينه في عقولهم وأفكارهم.
إن صياغة قواعد نظر في القرآن على أساس الوحدة البنائية يعد الأمر الهام بالنسبة إلينا وليس مجرد الدعوة إلى ذلك، لأن الاقتصار على الدعوة إلى شيء ليس دليلا على العلم به بل تبقى دعوة لا قيمة لها من دون ما صدقات.
النسخ وإشكالية التكامل المعرفي في القرآن
“نحو موقف قرآني من النسخ” هذا هو الكتاب الخامس من سلسلة الدراسات القرآنية للعلواني والذي يبحث فيه قضية النسخ وإشكالاته. فهو يرى أن منشأ هذه النظرية كان لمواجهة “الفكرة القائلة بإمكان وقوع التعارض بين نصوص الشارع الحكيم أو التعادل بحيث لا يمكن أن يرتفع ذلك التعارض أو التضاد أو التعادل في ذهن المجتهد بدون التخلص من أحد النصين بالحكم بإبطاله أو إزالته” (ص35).
ثم عرض العلواني للأدلة التي استند إليها العلماء في مقولة النسخ، فمنها قوله تعالى: ﴿ما ننسخْ مِنْ آية أوْ نُنسِها نأْتِ بِخيْر مِّنْها أوْ مِثْلِها ألمْ تعْلمْ أنّ اللّه على كُلِّ شيْء قدِير﴾ (البقرة : 106) ، وقوله تعالى: ﴿وإِذا بدّلْنا آية مّكان آية واللّهُ أعْلمُ بِما يُنزِّلُ قالُواْ إِنّما أنت مُفْتر بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون﴾ (النحل:101 ) ، كما ذكر غيرها من الآيات ولكن هاتين الآيتين هما الأصرح في الدلالة.
فآية البقرة وردت في سياق نقاش مع اليهود الذين اتهموا القرآن بالبداء: أي أن الله يخطر بباله شيء ثم يفطن لغيره فيغيره، ولكن رد الرازي الاستدلال بهذه الآية بكلام رائع فقال: إن “ما هاهنا تفيد الشرط والجزاء وكما أن قولك: من جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه” (ص43)، كما رجح العلماء أن يكون المقصود بالآية هنا المعجزة.
لذا بقيت الآية الثانية شاهدا على موضوع النسخ؛ فيرى العلواني أن هذه الآية تفسرها آية سورة يونس، وهي قوله تعالى: ﴿وإِذا تُتْلى عليْهِمْ آياتُنا بيِّنات قال الّذِين لا يرْجُون لِقاءنا ائْتِ بِقُرْآن غيْرِ هـذا أوْ بدِّلْهُ قُلْ ما يكُونُ لِي أنْ أُبدِّلهُ مِن تِلْقاء نفْسِي إِنْ أتّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِليّ إِنِّي أخافُ إِنْ عصيْتُ ربِّي عذاب يوْم عظِيم﴾ (يونس:15 ) ، ولم يعقب العلواني على هذه الآية بشيء – علما بأنه ذكر بأنه سيتناول ذلك لاحقا إلا أنه لم يعد إليه – فبقي الاستدلال بآية سورة النحل قائما عند القائلين بالنسخ.
ومما يجب الإشارة إليه أن آية النحل تتحدث عن أن الله يبدل الآيات فينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ثم بعد أن يثبت لا يجوز لنا – نحن – التدخل وافتراض النسخ، فمثلا آية (الشيخ والشيخة إذا زنيا) والتي قال العلماء فيها بأنها كانت مقروءة ثم نسخت تلاوتها –على فرض ذلك- هي منسوخة بأمر الله وغير مثبتة في القرآن بأمر الله للنبي، وكذلك قيل في سورة الأحزاب إنها كانت تعدل سورة البقرة ثم نسخ منها وبقيت كما نقرؤها اليوم، فالنسخ كان أثناء عملية التنزيل من الله، ولكن بعد إقرار الله ما أقره وانتهاء التنزيل لا يجوز القول بالنسخ بناء على الاستدلال بهذه الآية، لأنها تتحدث عن النسخ بأمر الله أثناء عملية التنزيل، وأما النسخ الذي يقصده بعض العلماء والذي يقومون به فهو يحصل بمجرد حصول التعارض في أفكارهم، لا لأن الله بدل آية مكان آية، وعلى ذلك يجب فهم الآية بشكل دقيق، فالآية تنسب النسخ إلى الله في حين النسخ المقصود بالبحث يقوم به المجتهد فلا دلالة في الآية لفعل المجتهد من غير نص من الله على النسخ.
فالتعارض الحاصل هنا جاء من أدوات المجتهد لا من النص نفسه، “فإذا كانت وسائل المجتهد قاصرة عن إدراك معاني النصوص في سياقاتها الكلية والجزئية وفي وحدتها وتفرقها فذلك يعني أن عليه أن يعيد النظر في تلك الوسائل والأدوات المنهجية” (ص59).
والمرجح لدينا أنه لا بد للنص الناسخ من إشارة من الوحي بالنسخ، تؤكد أن هذا النص ناسخ لذاك النص، وإلا صار النسخ بحكم المجتهد لا بحكم الله، وما أدراه لعل ذلك لا يكون نسخا بل قد يكون نقصا في فهمه لربط العلاقات القرآنية، لذلك نعتقد بأنه يشترط النص على النسخ بأن يقول تعالى: هذا النص ناسخ لذاك بصريح العبارة، وإلا فإننا نتحكم بتعطيل النصوص لمجرد التعارض الموهوم، فالنسخ تعطيل للنص ولا يكون إلا بنص من الله، وهل يجوز أن نحكم بالنسخ بناء على ترتيب زمني هو في غالب الأحيان غير ثابت بشكل صحيح؟ فنحن لا نعرف بدقة توقيتات نزول الآيات أو مكانها، فكيف نعول على غير الثابت في النسخ وتعطيل الثابت.
يجب التعامل مع أسباب النزول والتواريخ على أنها أدوات يستأنس بها الفقيه، “دون أن يكون ذلك عبئا على النص يؤثر فيه بناء على عامل الزمن وكأن القائل بالنسخ يلغي صفة الإطلاق والوحدة البنائية وينسب الخطاب القرآني إلى نوع من التاريخانية التي تنافي العموم والشمول والإطلاق” (ص39).
يعيد العلواني قراءة نصوص الشافعي في النسخ ليعيد إنتاج كلامه، كما يرى أن المتقدمين فهموا الشافعي فهما خاطئا، يقول الشافعي: “نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله، وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة لرسول الله ولو أحدث الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن رسول الله لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها”.
ويستطرد العلواني أن العلماء فهموا من قول الشافعي “أنه قول مقابل للأقوال المنقولة عن الأئمة الآخرين فاستهجنوه، مع أننا نرى أنه قول إنما هو في أمر آخر غير أمر الجواز والامتناع والوقوع التي عليها مدار أقوال الآخرين وإنما هو في حكم المجتهد على النص بالنسخ متى يحكم به؟ وكيف؟” (ص101).
فالشافعي يرفض نسخ السنة بالقرآن أو العكس، ويرى أن النسخ يكون بين المتماثلين (السنة بالسنة والقرآن بالقرآن)، وهو – حسب العلواني – يهدف “إلى حماية أحكام كتاب الله وسنة رسول الله من أي تغيير أو تعطيل من قبل من تحدثه نفسه بذلك تحت ستار النسخ” (ص101).
ويسترعي الانتباه تحليل العلواني لقول الشافعي، وكأن الشافعي يحق له الدفاع عن القرآن والسنة بالطريقة التي يريدها وباقتراح ما يشاء من غير دليل.. يمنع النسخ أو يجيزه.. وهو في الحقيقة لم يكن ليهدف لذلك بقدر ما كان ذلك تعليله للمسألة، ورأيه فيها، ثم يركب العلواني استنتاجا غريبا على هذا الاستنتاج قائلا: “أما نحن فإننا نستطيع أن نرى بوضوح أن الإمام الشافعي.. أراد نفي النسخ عن القرآن جملة وتفصيلا وأن كل ما ادعى نسخه إنما هو آيات قابلة للفهم والتفسير لا تناقض بينها ولا تعارض ولا تعادل ولا اختلاف”.
ويحق لنا أن نتساءل كيف فهم العلواني من الشافعي رفضه نسخ الكتاب والشافعي نفسه يقول بنسخ بعض الآيات لبعضها، فها هو يقول: “قال: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما، ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة” (الرسالة للشافعي، ص129)، فلقد تحدث الشافعي عن نسخ الآية الأولى بالثانية، وتحدث عن نسخ آيات غيرها، فتُنظر عند الشافعي (ص127-130).
من ناحية أخرى وبالعودة إلى فهم مراد الشافعي، فلا أظن العلواني قد وقف على مراد الشافعي من قوله: “نسخُ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله، وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة لرسول الله”.
فالشافعي نفسه يوضح المراد بقوله: “فإذا كانت السنة كما وصفت لا شبه لها من قول خلق من خلق الله لم يجز أن ينسخها إلا مثلها ولا مثل لها غير سنة رسول” (الرسالة، ص109). فالشافعي يرفض النسخ بين السنة والقرآن لأن كلا منهما مصدر مستقل له خصوصيته وطبيعته ووظيفته الخاصة، فأكد على قضية المماثلة في كل شيء بين المتناسخين، فالقرآن غير السنة طبيعة ووظيفة، فيجب أن يكون الناسخ له يماثله ومن نفس الدرجة، فلا تنسخه السنة لأن وظيفتها وطبيعتها مختلفتان عن القرآن فمهمتها البيان فإذا نسخت كلام الله اختلط الأمر بين كونه بيانا وبين كونه نسخا، فضلا عن أن ثبوتها ليس بدرجة ثبوت القرآن، فقضية المماثلة منتفية بين القرآن والسنة، فينتفي بذلك النسخ بينهما، لأنه إبطال وإلغاء لا بيان وتوضيح، وشتان بينهما، فالإلغاء يفترض أن يكون الملغِي بدرجة الملغى، في حين لا يشترط ذلك في البيان، وعلى هذا يقبل الشافعي النسخ بين المتماثلين ولا يرفضه كما ذهب العلواني.
ثم يقبل العلواني نسخ السنة بالسنة، استنادا إلى أن “رسول الله كان يتحرك في واقع له خصائصه وطرائقه في الاستجابة إلى النص والتفاعل معه” (ص116)، ولكني أسأل: ما الفارق بين السنة والقرآن، وكلاهما نصوص وحي، وهل يجوز وصف النبي بالبداء؟
ونحن لا نذهب إلى أن السنة عرضة للنسخ بمعنى الإلغاء، لأن السنة بيان للقرآن، ومعنى ذلك أن السنة تفهمُ علة النص وتديرُ الحكم معه وجودا وعدما، فعندما يغير النبي صلى الله عليه وسلم حكما كان قد قرره فذلك لأن العلة اختلفت لا لأنه غير الحكم فقط، فهو يدير الحكم مع علة النص القرآني، ويغير الحكم بناء على المقصد القرآني، فنهانا عن زيارة القبور لعلة ثم سمح بزيارتها عند انتفاء تلك العلة، لا على أساس نسخ ما سبق، فمن المهم فهم كلام النبي في علله ودوران الحكم معها.
قراءة في آيات توهم النسخ
ثم عرض العلواني لبعض الآيات التي توهم النسخ وأجاب عنها، فمنها:
– قوله تعالى: ﴿والّذِين يُتوفّوْن مِنكُمْ ويذرُون أزْواجا وصِيّة لِّأزْواجِهِم مّتاعا إِلى الْحوْلِ غيْر إِخْراج فإِنْ خرجْن فلا جُناح عليْكُمْ فِي ما فعلْن فِي أنفُسِهِنّ مِن مّعْرُوف واللّهُ عزِيزٌ حكِيمٌ﴾ (البقرة: 240) ، قيل إنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿والّذِين يُتوفّوْن مِنكُمْ ويذرُون أزْواجا يتربّصْن بِأنفُسِهِنّ أرْبعة أشْهُر وعشْرا فإِذا بلغْن أجلهُنّ فلا جُناح عليْكُمْ فِيما فعلْن فِي أنفُسِهِنّ بِالْمعْرُوفِ واللّهُ بِما تعْملُون خبِيرٌ﴾ البقرة 234.
فذهب إلى أن الآيتين ليستا على مورد واحد، فالآية الأولى تتحدث عن “فترة إعادة ترتيب الحياة [التي] لا يمكن أن تتم بشكل ملائم في أقل من حول” (ص120)، في حين أن الآية الأخرى تتحدث عن العدة، فموردهما مختلف.
– ومنها قوله تعالى: ﴿واللاّتِي يأْتِين الْفاحِشة مِن نِّسآئِكُمْ فاسْتشْهِدُواْ عليْهِنّ أرْبعة مِّنكُمْ فإِن شهِدُواْ فأمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حتّى يتوفّاهُنّ الْموْتُ أوْ يجْعل اللّهُ لهُنّ سبِيلا*واللّذان يأْتِيانِها مِنكُمْ فآذُوهُما فإِن تابا وأصْلحا فأعْرِضُواْ عنْهُما إِنّ اللّه كان توّابا رّحِيما﴾ (النساء 15-16) ، قيل بأنها منسوخة بآية سورة النور ﴿الزّانِيةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلّ واحِد مِّنْهُما مِئة جلْدة ولا تأْخُذْكُم بِهِما رأْفةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُون بِاللّهِ والْيوْمِ الْآخِرِ ولْيشْهدْ عذابهُما طائِفةٌ مِّن الْمُؤْمِنِين﴾ (النور:2) ، وقيل إنها منسوخة بحديث النبي: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
ثم يرجح العلواني رأي بعض العلماء بأن الآيتين في موردين مختلفين، فالآية الأولى من سورة النساء تتحدث عن “الشاذات السحاقيات اللواتي يملن إلى إناث مثلهن.. وأما الآية الثانية فإنها في اللواط واللواطيين وهو انحراف يقع بين الذكور”.
لكن فكرة اختلاف المورد لا تسعفنا دائما، فعلى فرض أننا قبلناها فيجب علينا أن نجيب عن أسئلتها المتعلقة بها، فما حكم الشاذات من النساء اليوم هل هو الحبس مدى الحياة؟ فمن الواضح أن العلواني لم يتنبه إلى الناتج من هذا القول إذا رجحناه، ثم ما فائدة قيد [أو يجعل الله لهن سبيلا] هل من المعقول أن يكون هذا القيد دون فائدة؟ وما السبيل الذي جعله الله لهن؟
ولذا نرجح أن هذه الآية وما تلاها كانت من قبيل التدرج في التشريع، كما هو الحال في قضية الخمر، فالشارع في قضية الخمر لم يحله وإنما تدرج في إخراجه من بين الناس فذكر أن فيه فوائد ومضارا ثم حرمه في الصلاة تمهيدا لتحريمه نهائيا، وهكذا الأمر في عقوبة الزنا تدرج الشارع في العقوبة من مطلق الأذى إلى عقوبة محددة بالجلد، فهذا هو السبيل الذي جعله الله لهن، لكون العرب لم يكونوا ليتقبلوا أحكاما ناجزة من البداية.
وهذا التدرج في التشريع ليس بنسخ؛ لأن الإيذاء والإمساك في البيوت لا ينافي الجلد، حتى إن الجلد يعد بيانا لذلك الإيذاء، كما أن التدرج في التشريع له هدف منهجي معرفي من خلال ملاحظة مراحل الحكم بشكل لا يلغي أحد النصين، فضلا عن أنه لا يحمل تعارضا بين النصوص، ومن الممكن إعادة العمل به حسب الحال، كما فعل سيدنا عمر عندما عطل حد السرقة لأنه رأى أن تطبيق الحد غير ممكن حاليا، وهذا يمكن تطبيقه في كل الحدود عندما لا تتوفر الظروف الملائمة لذلك، وهذه فائدة التدرج في التشريع.
واستنادا إلى ذلك نذهب إلى أن النسخ نظريا غير مقبول، لذا علينا البحث عن وجوه العلاقة بين هذه النصوص، وألا نحكم على النصوص بالنسخ لمجرد حصول التعارض في أذهاننا، فمهمة المجتهد فهم النصوص لا تعطيلها، وما لم يفهمها فليتركها؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فالنسخ من عمل الشارع وليس من عمل المجتهد.
الآيات المنسوخة عند بعض العلماء وصلت لأكثر من مائة، وعند بعضهم الآخر استقرت عند ست آيات فقط، ولا أدل من هذا الاختلاف على أن النسخ نابع من فكر المجتهد حال عدم فهمه للنص، هذا الفهم الذي يختلف من زمن لآخر ومن شخص لآخر، فهل يجوز لنا أن نحيل بعض آي القرآن للتقاعد لأن مجتهدا لم يفهم العلاقة بين النصوص؟!
أن يحكم المجتهد بنسخ آية من غير دليل قرآني هو قريب من عدها غير قرآن – من الناحية العملية – وهذا يكون من الله لا من البشر، وهل يستقيم أن يكون عدد الآيات القرآنية الفاعلة عند أحد العلماء ست مائة آية وعند غيره خمس مائة وعند غيره ألف…؟! إنه لأمر جد خطير، فالنسخ الذي عناه الشارع من الآيات كان من الله إبان التنزيل، أما نحن فلا يحق لنا ذلك لأنه ما من نص شرعي يبيح للمجتهد ذلك.
ملاحظات ختامية
هذه السلسلة من دراسات العلواني القرآنية كانت هامة في طرحها، لكن ما عابها هو غياب المنهجية، فتجد التكرار للمسائل كثيرا، كما افتقدت التسلسل المنطقي بين الأفكار والتتابع المعرفي بينها، حتى ليخيل للقارئ أن كل مسألة قضية منفصلة، وقد طغى الاستطراد عليها، ولا أدل على ذلك من أن العلواني تحدث عن موقف اليهود من النسخ، فبين طبيعتهم وصفاتهم وتاريخهم…، وكل ذلك خارج عن سياق الموضوع. كما تجد الرسائل تحفل بالدعوى إلى الحل دون الحل، وهذا وإن كان جيدا لكنه لا يحمل معرفة ولا ينبئ عن فائدة، والحق أن هذه آفة الدراسات المعاصرة، الكل يدعو إلى التجديد دون أن يطرح نظريته ومقولته في كيفية التجديد.
إنه لمن المهم أن نعيد قراءة التراث لأن ذلك يعني معاودة التواصل مع القرآن، ولن يشفع لنا أمام الله رمي حِمْلِ القراءة على السلف؛ لأنهم قدموا ما عندهم لعصرهم، ولم يقدموه لنا، بل نحن من افترض ذلك، وهم براء من دعوانا هذه، لأنهم لو فكروا بهذه العقلية لما أبدعوا كل ذلك الإبداع.
ومن المهم أيضا أن نتنبه إلى أننا عندما ندعو لقراءة التراث لا يعني ذلك حربا مع السلف كما يفهم البعض، فيبدؤون بكيل الاتهامات لهم ووصفهم بالتقصير…، صحيح هم قاصرون عن إدراك مقاصد عصرنا وهم لم يدَّعوا ذلك أصلا، بل نحن ألبسناهم ذلك اللبوس. علينا أن نقدر هذا الجهد العظيم الذي تركوه فندرسه ونحاوره، فعلينا فهم هذا التراث الذي تركوه وعدم الإيمان به، فنحن نؤمن بالقرآن ونفهم التراث، والفرق بينهما واضح وبين.
قراءة في قراءة
حول قراءة الأستاذ وائل حمدوش في دراسات الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني القرآنيّة
بقلم: الشيخ/ مُحَمَّد عوض
في (15-10 – 2008 م) وعلى موقع الملتقى الفكريّ للإبداع وغيره نشر الأستاذ وائل حمدوش مقالاً بعنوان (نحو منهجيّة معرفيّة قرآنيّة: قراءة في دراسات طه جابر العلواني القرآنيّة) لي عليه بعض الملاحظات أطرحها في عجالة راغبًا في تسديده:
1- من مسلمات البحث العلمي الجاد –لا سيما المتعلق منه بعلوم الشريعة– أن الاختلاف في وجهات النظر حقٌّ لكل أحد، مَا دام يملك الحجة، وأنه ليس هناك أحد -مهما علا كعبه- فوق المراجعة والاستدراك، وقد قال أسلافنا: ليس أضر على العلم من قولهم: مَا ترك الأول للآخر، ولكن هذا لا يعني أن ننسى لأهل الفضل فضلهم، ولا أن نرميهم بما ليس فيهم، ولا أن نراجعهم –حين نراجعهم– من منطلقات نفسيّة تنافي آداب العلم مثل: (تساوي الرءوس) أو (هم رجال ونحن رجال)… إلخ، إننا حين نفعل ذلك تبدوا المراجعة وكأنها معركة بين طرفين لا تحاور بين وجهتي نظر وحينئذ -وفضلاً عن حرمان مثوبة التناصح- يوجد الإعراض من المتوجه إليهم بالخطاب عن كلام المتحاورين لاستشعارهم أن الغرض الأساس في الموضوع هُوَ رغبة المستدرك في الانتصار على المستدرك عليه وهزيمته، وليس التدليل على الصواب أو الخطأ، مراعاة هذه الآداب وغيرها أمر لازم وضروريّ حين تكون المراجعة والمحاورة بين المتماثلين والأكفاء من أهل العلم، وأشد لزومًا وضروريّة بين غيرهم من غير المتماثلين أو المتعادلين لا سنًّا ولا علمًا، فحين يستدرك الكبير على الصغير فعليه مراعاة حداثته وقلة خبرته ودرايته، كما أن عليه أن يستصحب حنو الأبوة وروح الأستاذ الحريص على الارتقاء بمن يوجهه… إلخ، أمّا إذا كان الاستدراك من الطالب على الشيخ، لزم حفظ المقامات ومراعاة حق الأستاذيّة كأتم مَا تكون المراعاة، وذلك بالاستفسار منهم عن مقصود كلامهم إن أشكل أو غمض، فإن لم يشف كلامهم كان البيان المصحوب بالتماس الأعذار لهم .
عتبتم فلم نعلم لطيب حديثكم *** أذلك عتب أم رضا وتودد
الأستاذ وائل تجاوز -في نظري- هذه الأمور كلَّها للأسف الشديد تجاوزًا كبيرًا، حيث جاء حديثه عن الشيخ الدكتور طه جابر العلواني خاليًا من التوقير اللائق بمثله، فلم يذكر الشيخ بلقب علمي محترم إلا مرة واحدة في مقاله الَّذِي بلغ 13 صفحة، وحتى هذه المرة الوحيدة التي ذكر فيها فضيلته بلقب الدكتور كانت في أثناء المقدّمة وفي غير عنوان بارز، حتى عنوان المقال أبى أن يذكر الشيخ إلا باسمه المجرد (قراءة في دراسات طه جابر العلواني…)، أمّا في مَا عداها فيقول: (يحاول العلواني… نوه العلواني… من قراءة العلواني…) بدلاً من أن يقول مثلاً (… أستاذنا أو شيخنا…) فهذا أقل مَا يجب مع عالم كالدكتور العلواني يعلم الجميع -رغم بعد الرجل عن الأضواء- أنّه واحد من أولئك القلائل الذين جمعوا بين الدراسات الشرعيّة والدراسات الاجتماعية وفقه الواقع، حيث نال جميع شهاداته الدراسيّة في الأزهر الشريف من الثانوية إلى الدكتوراه، ثم مارس التدريس في كثير من الجامعات العربيّة والإسلاميّة، وأخيرًا استقر به المقام في الولايات المتحدة الأمريكيّة وتولى فيها عددًا من المناصب الأكاديمية التي أتاحت له فرصة الاحتكاك بجوانب كثيرة من الوسائل التي يعرض فيها الإسلام والقرآن الكريم -بخاصّة- في أقسام الدراسات الإسلاميّة في كبريات الجامعات الأمريكيّة، كما أنّه شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة عام 1981 م، وعضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ورئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشماليّة، ورئيس جامعة العلوم الإسلاميّة والاجتماعيّة في الولايات المتحدة، وليسمح لي الأستاذ وائل أن أسأله: هل يمكنه الحديث -بهذا الأسلوب- عن أو مع أستاذه المشرف على رسالته للتخصص فضلاً عن أن يتحدث به مع مشرفه على العالميّة؟ أتمنى ألا نسقط الكلفة بيننا وبين الكبار، اتفقنا معهم أو اختلفنا، لأنه “ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا! ويعرف لعالمنا حقه”، كما في الحديث، وفي التقاط أحسن الكلام وأطيبه مندوحة، وقد قال الشافعي: مَا ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يظهر الله -تبارك وتعالى- الحق على يديه دون حرص على مغالبته.
كتاب أزمة الإنسانيّة ودور القرآن في الخلاص منها، وكتاب الجمع بين القرائتين.
بعد نقله لنصوص طويلة من الكتاب الأول -وبغير داع- تلخصت مآخذ الأخ وائل عليه في ثلاثة أمور:
1- إلقاؤه واجب الدفاع عن القرآن الكريم (الكتب الإلهي) على عاتق الأمم كافّة؛ لأنه خطاب إنساني، وبالتالي فإنّ الاعتداء عليه اعتداء على البشريّة جمعاء وليس على المسلمين فقط؛ يقول: (إن قراءة إجماليّة لما طرحه الكتاب تثير جملة من النقاط، فإذا كان العلواني (هكذا) يقصد بخطابه المسلمين في معرض إقناعهم بأن القرآن الكريم حامل أكسير الحياة للإنسانيّة فهذا مما لا حاجة للبرهنة عليه، ولا حاجة لطرحه أصلاً؛ لأنه أساس الإيمان بالنسبة للمسلمين، وإن كان المخاطب هم غير المسلمين فإن مَا قدمه يعد مصادرة على المطلوب، فهم لم يقتنعوا بالقرآن الكريم أصلاً حتى تعرض لهم قدراته في حل مشاكل الإنسانيّة وتحملهم مسئوليّة الدفاع عنه)
ونحن نطرح على قراءة الأستاذ وائل هذه التساؤلات:
هل هذه الحقيقة وغيرها مما طرحه الدكتور العلواني من البديهيّات المستقرة بالفعل في العقل المسلم بشكل عام لدرجة استغناؤه عن البرهنة عليها؟
ألا يوجد في المسلمين من يحتاج إلى التذكير بهذه الحقائق ولو حتى العلمانيّون منهم؟
وإذا كان الرد بالإيجاب فما أثر هذه المعرفة النظريّة -إن وجدت- على أرض الحقيقة والواقع؟ هل الإيمان دعاوى فارغة من المضمون، أم هُوَ مَا وقر في القلب وصدقه العمل؟
ولو سلمنا جدلاً بوجودها معرفيًّا وعمليًّا؛ فهل يعفى ذلك من التذكير بها ضمانًا لاستمرار بقاء هذا الجود المزعوم؟
لماذا شرعت الخطب والمواعظ في الجمع والأعياد وغيرها، وإن كان مضمونها راسخًا في أذهان المسلمين وواقعهم؟ وإذا استطردنا في هذا الباب فإنّ الكلام بنا يطول، أما غير المسلمين فما الضير في أن نقول لعامّتهم: إنّ مَا يفعله خاصتكم من محاولة الاعتداء على القرآن، لا يضر بالمسلمين وحدهم لأنهم -حينئذ- (… يعتدي على البشريّة كلها، وذلك لأنّ الَّذِي جاء به المرسلون –كافّة- حفظه هذا الكتاب الكريم الَّذِي يحمل في سوره وآياته خلاص البشريّة ومنهج إنقاذها من تدمير الضالين، ومؤامرات المستكبرين الذين يريدون ليطفئوا نور الله -تبارك وتعالى، ويحرموا البشريّة من الحصول على دليل الخلاص لتخلوا الساحة بعد ذلك لهم وللشياطين -لو نجحوا- للعبث بمقدرات البشريّة…)، (ص 17)، ولقد كان القرآن الكريم -كمدخل لدعوة غير المسلمين- يبيّن لهم أن شرفهم وعزهم في اتّباعه والإيمان به ]لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون[ (الأنبياء:10)، وكان يناديهم بـ ]يأيها الناس…[، وكان يتحداهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو حتى بسورة مثله، وعليه فمن الممكن عرض القرآن الكريم على غير المسلمين كوصفة خلاص للبشريّة من أزمتها كمدخل للإيمان به أو -على الأقل- لتحميلهم واجب الدفاع عنه باعتباره خطابا إنسانيّا.
2- الطعن في علماء السلف والتنكر لجهدهم.
يقول الدكتور العلواني: (وأمام عجز هذه الأطروحات وتوالي التردي في أزمة الإنسان، مَا من حل حقيقي ولا علاج ناجح إلا ذاك الَّذِي يقدمه القرآن؛ «فالقرآن الكريم بخصائصه -ولا مصدر سواه- يستطيع أن يقوم بالتصديق والمراجعة ثم الهيمنة على سائر المناهج المطروحة… فالقرآن الكريم هُوَ الأقدر على أن يعالج بمنهجيّته القائمة على الجمع بين القراءتين مشكلات الوجود الإنسانيّ وأزماته الفكريّة والحضاريّة ويدخل الناس كافّة حالة السلم» (ص81).
لكن لا بد من تحقيق عدة أمور قبل الدخول في رحابه:
أولها: «تجريد وتنقية معارف وحيه من سائر آثار النسبيّة البشريّة التي أحاطت بمطلقه وحجبت أنواره وأخضعته لوحيها الذاتيّ وحكمت عليه بتاريخانيتها وحكّمت بمحكمه أيديولوجيّاتها وثقافتها وأعرافها وتقاليدها وقاموسها اللغويّ، فإذا لم نجرد آيات الذكر الحكيم من ذلك كلّه، وإذا لم نعد قراءته بنور القراءتين المذكورتين في بداية نزوله وفي إطار وحدته البنائيّة فإننا لن نتمكن من فهمه معرفيّا»(ص82).
ثانيها: «الالتزام بالأمانة العلميّة مع القرآن الكريم فكريًّا ونفسيًّا، فلا ندخل إلى عالم القرآن الكريم بحثًا عن شواهد لأفكار بنيناها بعيدًا عنه» (ص83).
ثالثها: الدخول إليه بعد فهم الأزمة وإدراك أبعادها كلها، مع الإيمان بقدرة القرآن الكريم على الحل (ص84).
رابعها: إدراك الخصائص الذاتيّة للأمّة القطب (أمة القرآن الكريم) هذه الأمّة التي ستقوم بواجب الإصلاح والتغيير (ص84).
بعد نقله لأول هذه الأمور الأربعة يقول الأستاذ وائل: (إننا ندرك حجم الأزمة التي خلقناها بركوننا إلى التراث والحكم به على كتاب الله -تبارك وتعالى، لكن التشخيص بهذه الطريقة مبالغ فيه، ويمكننا أن نستشف من قراءة العلواني أن علماء السلف أخطر على القرآن الكريم من أعدائه، وهم الذين «أخضعوا وحيه لوعيهم وحكموا بأيديولوجيّاتهم محكماته». لا شك إنّنا ندعو لقراءة التراث ثانية وثالثة.. ولكن أن يكون تبريرنا بمثل هذا التهويل مما قام به السلف فهذا أمر مبالغ فيه، كما أنّه تنكر لجهدهم الكبير في ميدان خدمة القرآن الكريم، فضلاً عن أنّهم لم يضعوا أنفسهم موضع الحكم على القرآن الكريم؛ بل وضعتهم الأجيال اللاحقة ذلك الموضع، وهو هنا يستشف من كلام الشيخ:
أ-المبالغة في التشخيص.
ب- أن علماء السلف أخطر على القرآن الكريم من أعدائه.
ج-والتنكر لجهدهم في خدمة القرآن الكريم.
وأرى أن صياغة الدكتور العلواني -في هذا النص- ربما تساعد على مثل هذه القراءة خصوصا إذا كانت قراءة انتقائيّة، لكن الأمر يختلف حين نقرأ الكتاب كلّه، فهو يرى أن قصد السلف من وراء تأسيس وتدوين العلوم والمعارف النقليّة هو استجلاء معاني القرآن الكريم، (… ومع ذلك فإنّ تلك الجهود قد حومت بالأمّة حول بعض شواطئ ذلك الكتاب المجيد الكريم المكنون وقدمت شيئًا من الفوائد، ولكنها قصرت عن الإلمام بمطلق الكتاب، إذ هيمنت نسبيّة البشر على ذلك المطلق، وقيدته إلى مدركاتها الظرفيّة ومحدّداتها الزمانيّة والمكانيّة وسقوفها المعرفيّة، وقاسته على الكتب التي سبقته من بعض الوجوه، فأدى ذلك كلّه إلى بروز تفسيرات متضاربة وتأويلات متناقضة وفقه مختلف وكلام متعسف وأصول تمازجت بالفروع، وتحولت الوسائل اللغويّة إلى مقاصد، بحيث صارت تتحكم أحيانًا في لغة القرآن الكريم وصارت تلك المعارف مقصودة لذاتها، أو مرجعيّات بديلة يستغنى بالرجوع إليها عن الرجوع إلى القرآن الكريم إلا على سبيل الاستشهاد…) (ص54)، وهو كلام صحيح في مجمله، فقد تحولت الوسيلة إلى غاية، والعرض إلى غرض، حتى رأينا في اتّباع المذاهب من يقول: (كل نص يخالف مذهبنا فهو منسوخ أو مئول)، ولهذا يدعو الشيخ إلى العودة إلى الأصل والغرض، وهو القرآن الكريم دون قصد الطعن في سلف ولا خلف، وهو في هذا متبع لا مبتدع، نعم؛ فإنّ ما يدعو إليه الدكتور العلواني من الانشغال بالقرآن الكريم أولاً وقبل كل شيء والحكم به على مَا سواه، هُوَ مَا انتهجه الإمام أَحْمَد -رحمه الله- دون أن يُتهم بانتقاصه للسلف أو غير السلف، فلقد كان (… يرى أن علم الدين وحده هُوَ الَّذِي يكتب، وعلم الدين هُوَ الكتاب والسنّة، فلا يكتب سواهما، ولذلك كان ينهى عن كتابة فتاواه، وسأله رجل: هل يكتب كتب أهل الرأي من فقهاء العراق؟ فقال: لا؛ قال السائل: فابن المبارك كتبها، فقال: (ابن المبارك لم ينزل من السماء وإنّما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق)؛ بل إنّه ينهى المحدثين عن أن يكتبوا كتب الشافعيّ مع أن الشافعيّ منزلته منه بمنزلة الأستاذ، وله في نفسه المكان المكين…) فهل كان الإمام يتنكر لجهود هؤلاء أو يتحامل عليهم؟ كلا إنّه -كما قال الإمام أَبُو زهرة- مَا كان يرى علمًا في الدين جديرًا بالتدوين، ونقله للأخلاف إلا الكتاب والسنّة، وذلك ليجعل كلام الرجال خاصًّا بأزمانهم، وعلاجًا لمشاكل عصورهم، ولا ينقل إلى من بعدهم ولكيلا ينتقل إلى الناس إلا علم القرآن الكريم، وعلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان، وصفوا لا تكدره الدلاء التي تأخذ منه…)، إنّ هذا بالضبط مَا يقصده الشيخ (… لا يمكن لفهم بشري لأهل عصر من العصور أن يحيط به، أي بالقرآن الكريم ويهيمن عليه ويضع مدلولاته في قوالب فهم بشريّة نهائيّة لا تسمح بأي فهم آخر، فالتسليم بذلك قد يفقد القرآن الكريم العزيز صفة الإطلاق، ويحيله إلى نص نسبي في زمانه ومكانه، يمكن الهيمنة علي معانيه بالتفسير والتأويل الإنسانيّ الخاضع لمتعينات ومتغيرات الزمن والمكان والإنسان والحوادث ولعلّ هذه كانت الحكمة في أنّه لم يقيد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- معاني الكتاب المطلق بتفسير نهائي شامل… وكل تراثنا بعد ذلك -أي: بعد السنة- يندرج أمام إطلاقيّة القرآن الكريم في دائرة النسبي الَّذِي من حقنا؛ بل من واجبنا مراجعته…) (من كتاب نحو التجديد) ثم كيف يرمى الشيخ بالتنكر للسلف والأخ وائل يقرأ في مقدّمة الكتاب الرابع من هذه السلسلة (لسان القرآن ص10) قول الدكتور العلواني (… وهنا نود أن نثير سؤالا آخر، وهو: هل مَا يتكشف القرآن الكريم عنه عبر العصور وفق تطورات المناهج المعرفيّة والبحثيّة سوف يكون مناقضًا للتفسير وعلوم القرآن، وما استفاده أسلافنا منه من معايير وفقًا لسقوفهم المعرفيّة؟ أو هل يحتم استبدال مَا أنتجوا بما أنتجنا؟ وهنا أود أن أؤكد أن مَا يتكشف عنه القرآن الكريم عبر العصور يؤدي إلى تواصل الأجيال، وتراكم معرفي يمكن الاستفادة به والبناء عليه، فما يتكشف القرآن الكريم المكنون عبر العصور عنه ما هو إلا جزء من مكنونه، وقبس من فضائه ووجه من وجوهه المكنونة، فلا يمكن أن يقع تعارض بين ثبات وتنوّع، وتعدد المعاني التي يتكشف عنها عبر العصور والمعاني والوجوه المكتشفة بمناهج ووسائل معرفيّة مغايرة يمكنها أن تتعايش وتشكل رصيدًا مفاهيميًّا للبشريّة يستجيب لاحتياجاتها بحسب تنوّع الظروف والحاجات ووفقًا لمنهج أسّسه القرآن الكريم ذاته، يستطيع أن يستجيب لحاجات مختلف الأنساق الثقافيّة والحضاريّة) ثم كيف يكون الشيخ مبالغًا في تشخيصه، وأنت نفسك تقر (… بركوننا إلى التراث والحكم به على كتاب الله…) أليس هذا عين مَا يقوله الشيخ؟
إنّه لا يمكن إعادة قراءة التراث مرة ثانية وثالثة دون العلم بالعوائق والعقبات الكئود التي تحول بيننا وبين ذلك والتي من أهمها -حسبما يرى الدكتور العلواني-: (انطواء تقاليدنا على حساسيّات شديدة لأيّة مراجعات تتكلم عن آباء كرست مشروعيّتهم التاريخيّة؛ لأنّ ذلك -في نظر البعض- إساءة إلى أولئك الآباء وتقليل من شأنهم، وقد كرست مشاعر ترى أنّه لا فصل بين الرأي وقائله، فإذا انتقدت رأيًا فكأنك سببت قائله)
3 – عموميّة الطرح
يقول الأستاذ وائل: (إن العلاج الَّذِي رسمه العلواني والمتمثل في الخطوات الأربعة السابق ذكرها قد تشبع من العموميّة الشيء الكثير إلى الدرجة التي لا نعتقد فيها بوجود طرح أعم منه فيما يتعلق بفهم القرآن الكريم (تنقية التراث، وقراءة القرآن الكريم بأمانة، وفهم الأزمة…) هذه خطوات شديدة العموميّة، وكان من الأولى لو رسم لنا منهجًا يحمل فكرًا، ولا يقتصر على طرح أمنيات بحاجة لعمل…) وهو نفس المأخذ الَّذِي أخذه على الأسس التي اقترحها الدكتور في كتابه الثاني في السلسلة (الجمع بين القراءتين) كمدخل لهذا الجمع؛ يقول الدكتور: (ولكن مهمة الجمع هذه لا يستطيع القيام بها إلا من أوتي القرآن الكريم وحظًّا من العلوم والمعارف بشكل كافٍ لاكتشاف ذلك التداخل المنهجيّ بين القرآن الكريم والكون والإنسان؛ وذلك يكون وفق الأسس التالية:
– إعادة بناء الرؤية الإسلاميّة المعرفيّة القائمة على العقيدة وما ينبثق عنها من تصور سليم، وذلك لنتمكن من الإجابة على «الأسئلة الكليّة النهائيّة» (ص59).
– إعادة فحص وتشكيل وبناء قواعد المناهج الإسلاميّة في مجالاتها المختلفة.
– بناء منهج للتعامل مع القرآن المجيد ومعرفة مداخل قراءته من خلال هذه الرؤية المنهجيّة التحليليّة، «بحسبان القرآن الكريم مصدرا منشئًا للمنهج والعقيدة والشرعة والمعرفة» (ص60)، وقد يتطلب ذلك إعادة بناء نظريّات علوم القرآن الكريم وتجاوز بعض الموروث في هذا المجال.
– بناء منهج للتعامل مع السنّة النبويّة المطهرة، وذلك بحسبانها مصدرًا مبينا للقرآن الكريم وتطبيقا له.
– إعادة دراسة وفهم تراثنا الإسلاميّ وقراءته قراءة نقديّة تحليليّة.
– بناء منهج للتعامل مع التراث الإنسانيّ المعاصر.
ويعلق الأخ وائل: (وبتدقيق النظر في هذه النقاط يمكن القول بأننا نلحظ أن فريقًا من الباحثين الذين أعلنوا التجديد والتنوير يكثرون من طلب الحل ولا يقدمونه، (علينا أن نفهم القرآن الكريم فهمًا موافقًا للزمن، وعلينا تنقية التراث، وعلينا بناء مناهج معاصرة…) كل ذلك وهم لا يقدمون من هذا المطلوب شيئًا، فهذه النقاط الست التي طرحها العلواني، لم تكن بأحسن من تلك النقاط الأربع السابقة الذكر، فهي على نفس الدرجة في العموم، والضبابيّة، فكلنا يدعو إلى المنهج السليم، ونشدد على ضرورة كونه سليمًا، إلا أن الرؤية التفصيليّة المتعلقة بكيفيّة حل الإشكال تظهر عند طرح القضيّة بقواعدها وتطبيقاتها، بحيث تظهر كقضيّة معرفيّة متكاملة لا أمنيّة فكريّة ناقصة.
فما أحوجنا إلى منهجيّة معرفيّة مفصلة، لا الكلام العام الَّذِي يصلح أن ينطوي تحته كل شيء أو يحمل دعوات إلى الحل بعيدًا عن خطوات الحل نفسه، فالقواعد التي قدمها العلواني كمنهج، يتفق عليها العلماء كلهم، ثم إنّهم يصرون عليها ولكنها لم تحل دون اختلافهم بل وانقسامهم، وهذا الاختلاف نابع في تقديرنا من الدراسة التفصيليّة التحليليّة، فهم لا يختلفون في المبادئ العامّة إلا قليلاً). ويقول في تعليقه على الكتاب الرابع: (إن صياغة قواعد نظر في القرآن الكريم على أساس الوحدة البنائيّة يعد الأمر الهام بالنسبة إلينا وليس مجرد الدعوة إلى ذلك، لأنّ الاقتصار على الدعوة إلى شيء ليس دليلا على العلم به؛ بل تبقى دعوة لا قيمة لها من دون مَا صدقات).
وكلامه هنا موضوعي غير أنّه قد فاته أن رسم المنهج المحدّد الَّذِي يحمل فكرًا هُوَ مرحلة تالية وتابعة لمرحلة العموميًة وطرح الأمنيات، وقد انتقل إليها الأستاذ الدكتور العلواني سريعًا وأنا أحيل السيد وائل إلى آخر مَا كتب الدكتور العلواني وهو كتاب (نحو التجديد والاجتهاد مراجعات في المنظومة المعرفيّة الإسلاميّة، أولا: الفقه وأصوله) وكتاب (نحو التجديد والاجتهاد ثانيا: من التعليل القرآني إلى المقاصد القرآنيّة العليا الحاكمة) (طبعة دار تنوير 2008 م) أي: بعد فراغه من كتابة سلسلة الدراسات القرآنيّة بسنة واحدة، فالكتابان -فيما نحسب- خطوة مباركة في طريق رسم بعض ملامح منهج لتنقية التراث في هذين المجالين، أظن أن الأخ وائل لو أتاح لنفسه الفرصة لقراءتهما لما رمى الشيخ بالعموميّة ولا الضبابيّة ولا بالدعوة إلى شيء لا يعلم به… إلخ وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك في عمر الشيخ ليتم بقيّة الجوانب الأخرى.
النسخ وإشكاليّة التكامل المعرفيّ في القرآن
يتفق الأستاذ وائل مع الأستاذ الدكتور على أنّه لا نسخ في القرآن الكريم، -وإن خالفه في جواز نسخ السنّة بالسنّة- ويأخذ على الكتاب إهماله مناقشة الدليل الثاني من الأدلة التي يستدل بها لوقوع النسخ في القرآن الكريم، وهو قوله -تبارك وتعالى-: ]وإِذا بدّلْنا آية مّكان آية واللّهُ أعْلمُ بِما يُنزِّلُ قالُواْ إِنّما أنت مُفْتر بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون[ (النحل 101)، مع أنّها أصرح في الدلالة من الآية التي ناقشها الشيخ قبل ذلك، وهي قوله تعالى: ]ما ننسخْ مِنْ آية أوْ نُنسِها نأْتِ بِخيْر مِّنْها أوْ مِثْلِها ألمْ تعْلمْ أنّ اللّه على كُلِّ شيْء قدِير[ (البقرة 106)، (علما بأنه ذكر بأنه سيتناول ذلك لاحقا إلا أنّه لم يعد إليه -فبقي الاستدلال بآية سورة النحل قائما عند القائلين بالنسخ) وهو كلام موضوعي بالفعل، وأعلم أن البعض قد لفت نظر الشيخ إلى هذا الأمر فور صدور الكتاب فأفاد بـأن تحليل فضيلته لآية النحل سقط من أوراق الكتاب عند إرساله إلى المطبعة، وأنه سيراجعه مرة أخرى وسيعيد طبعه مضيفًا إليه شرحه للآية الكريمة، ومصححا لما جاء به -للأسف- من أخطاء مطبعيّة، ونظرا لعدم ذكر الشيخ شيئًا عن معنى الآية المذكورة؛ فما كان هناك ضرورة لكلام الأستاذ وائل في هذا المعنى، لكنه شرع يحللها ثم أعقب ذلك بكلام للمؤلف لم يعلق عليه بشيء مما أكسب مقاله طولا.
أفكار الأستاذ الدكتور بصياغة الأخ وائل
في ملاحظاته الختاميّة يبدو الكاتب وكأنه يأتي بأفكار من ذهنه غافلا ،أو متغافلا عن أنّها بعينها مَا تطفح به الكتب محل القراءة، يقول: (إنه لمن المهم أن نعيد قراءة التراث؛ لأنّ ذلك يعني معاودة التواصل مع القرآن الكريم، ولن يشفع لنا أمام الله -تبارك وتعالى- رمي حِمْلِ القراءة على السلف؛ لأنهم قدموا مَا عندهم لعصرهم، ولم يقدموه لنا، بل نحن من افترض ذلك، وهم براء من دعوانا هذه، لأنّهم لو فكروا بهذه العقليّة لما أبدعوا كل ذلك الإبداع…) مَا الفرق بين هذا النص وبين مَا نقله الكاتب عن الدكتور في أول سطور المقال؟ (وما التجديد حقيقة إلا تجديد الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبويّة، تجديد للتعامل معهما، تعاملا معرفيّا لا تعاملا تبركيًّا، فلقد تجافت العقول عن الحوار مع كتاب الله -تبارك وتعالى- وسنة نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فتكلست الأفهام وتعطلت المصالح، وشكلت الفهوم التراثيّة حاجزا بين الجيل المسلم وبين كتاب الله عز وجل، فحاكمنا القرآن الكريم بتلك الفهوم بدلا من محاكمة تلك الفهوم إلى القرآن الكريم، فجرى هذا التراث صفة المطلق من القرآن الكريم وأحاطه بنسبيّة هذه الفهوم)
وأخيرًا فلا شك أنّها -على مَا مر- قراءة تحمل في طياتها غيرة محمودة وسعة اطلاع لباحث واعد نفع الله -تبارك وتعالى- به دينه وكتابه وعباده المؤمنين.