Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

د.زينب العلواني

أبي وشيخي …

وعيت في هذه الدنيا على صوت أبي يخطب كل جمعة بصوته الجهوري في جامع الحاجة حسيبة –رحمها الله- في بغداد. سمعته يُذّكر بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مخاطبًا العقول والقلوب بأسلوب واضح وبليغ، قاصدًا تحريك الهمم وتشجيع الناس على إقامة العدل ونشر الرحمة، ورفع الظلم والطغيان. سمعته يتحدى الحكام والمسؤولين، بل كان أحيانا يحضر خطبه كبار رجال الدولة فيشدد عليهم القول، ويذكرهم بحدة موقفهم أمام الله (تعالى) يوم لا حاكم إلا هو ….

وفي ليلة من ليالي صيف بغداد وأنا في السابعة من عمري، فوجئت بعمي (د.محمد جابر رحمه الله) ينقلنا سرًا وبحذر شديد إلى بيت جدي في الفلوجة. وعندما تساءلت في الصباح القادم عن أبي، قيل لي: إنّ أباك بطل … تحدى وانتقد حكم البعث فكانت عقوبته الحكم عليه بالإعدام … ولكن الله أنجاه من القوم الظالمين، فكان فراقه لأكثر من خمس سنين هو أهون الشرين، وبذلك تعلمت أن قول الحق هو سبيل النجاة من القوم الظالمين مهما علا تجبرهم في الأرض، لأن رحمة الله وفضله أوسع وأعظم.

أما حب طلب العلم، فقد غرسه في نفوسنا في سن مبكرة. فعلى الرغم من غيابه عنا سنوات الطفولة، إلّا أنه كان يرسل لنا سرًا قصصًا متنوعة عن سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين، وأذكر أنني من حبي وشوقي لأبي كنت أقضي النهار والليل أقرأ وأعيد قراءة تلك القصص، وكأنها كانت حبل الوصال بيني وبينه، حتى حفظتها وبدأت أعلمها لرفيقاتي في المدرسة.

وعندما ألتقينا به وأنا في المرحلة المتوسطة بدأ بتحفيظي وأخوتي القرآن الكريم، بل كانت ثقته بنا أكبر وأمله بنا أوسع، حيث فسح لنا المجال بأن نساعده في تخريج بعض الآيات والأحاديث حين كان يستكمل دراسة وتحقيق الأجزاء الأخيرة من كتاب المحصول في علم أصول الفقه للإمام الفخر الرازي. وكان شديد الحرص على تعليمنا الدقة في نقل العلم، والتأكد من صحة نسبة الأقوال لأصحابها، فكان يقضي ساعات طويلة في مراجعتها معنا وكأننا طلبة دراسات عليا. فكان أهم ما تعلمناه في تلك المرحلة هو: أن العلم نور، ولا يكون علمًا نافعًا ما لم يكن خالصًا لوجه الله (تعالى)، خاليا من شوائب الدنيا ومفاتنها، آنذاك تعلمنا معنى قوله (تعالى): ﴿ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (هود: 51).

ثم توالت رحمة ربي عليّ بأن جمعني بأبي مرة أخرى بعد فراقي له سنوات طوال، ليجدد العهد في غرس علمه وسلوكه الطيب في نفوس جيل آخر وهم أبنائي. فقد اتخذوه قدوة صالحة، يتعلمون منه حب الله ورسوله، وقوة انتمائهم لأمتهم مهما توالت عليها المصائب والنكبات، فيكون الصبر والجلد والشجاعة سلاحهم في كل موقف، سواء في قول الحق ومواجهة أصحاب الأمر مهما علت مقاماتهم الدنيوية، أو في مواجهة شدائد الدنيا ومصائبها.

وهكذا رأينا أبي صابرًا على إيذاء الأعداء، ومخالفات الأحباب والأصدقاء… رأيناه صابرًا محتسبًا على المرض بمختلف أشكاله وألوانه، وقد كان أشدها عليه حين حُرِم من القدرة على السجود حتى كتب في ذلك شعرًا أبكى العيون وأدمى القلوب وهو يذّكر القادر على السجود بعظم نعمة الله عليه… رأيناه صابرًا على طلب العلم وتعليمه … صابرًا في طلب الرزق الحلال .. صابًرا وشجاعًا في تحقيق مشروعاته الطموحة في خدمة دينه وأمته بكل عزة وكرامة….

وكما علمنا الصبر، علمنا الشكر على النعم، فما أكثر ترديده لقوله (تعالى): ﴿هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل:40)، فبمعاشرته تعلمنا أن الدنيا فانية وخير ما فيها حسن البذل في المال والنفس والولد، مع الحرص الشديد على حفظ عزة الإنسان وكرامته؛ لذلك يفضل الإنفاق سرًا أو بأسلوب غير مباشر.

لقد تفانى أبي في حب الناس وتواضع لهم، ولم يقتصر حبه وحنانه وإخلاصه على أولاده فحسب، بل وسع طلابه وأصحابه وأقاربه وكل من عمل معه وله، فكم رأيته يسامح ويعفو عن من ظلمه، وكم رأيته يبكي بحرقة على صديق أو صاحب اشتد بلاؤه، وكم رأيته ينصح ويوجه بحكمة شباب ضلوا الطريق، ويخفف عن آباء فقدوا الأمل وقصدوه ناشدين حكمته الأبوية، ومساعدته في محادثة أبنائهم لما له من قدرة على مخاطبة مختلف أنواع الناس، كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم، فقيرهم وغنيهم، فكل يشعر معه أنه الأقرب إليه.

فما أسعد الإنسان حين يحظى بمعاشرة وصحبة الأخيار من العلماء خاصة إذا كانوا آباءًا أو أجدادًا أو شيوخًا أو أصحابًا.

وهكذا كان أبي خير قدوة وأسوة لأولاده وأحفاده وطلابه في حب الله ورسوله وأمته وفي حرصه على مواصلة العطاء بكل أشكاله مهما ضاقت السبل، وأحاطت بالأمة النوازل لإنّه علّمنا أن خير كنوز الأمّة أبناؤها وعلماؤها المخلصون، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم على أي أرض وتحت أي سماء كانوا، فهم أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- وأبناء أمته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *