Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حّدّ الردّة بين الجدل الفقهي والتوظيف السياسي

حوار هادئ مع أ.د. طه جابر العلواني

حول

حّدّ الردّة بين الجدل الفقهي والتوظيف السياسي

مدحت ماهر

س: أستاذنا الجليل، اطلعنا على كتابكم في إشكالية الردة والمرتدين الذي صدر بطبعتين عن مكتبة الشرق الدولية، كانت الطبعة الأولى ناقصة تمثل نصف الكتاب، ثم جاءت الطبعة الكاملة الثانية بعد ثلاث سنوات من الطبعة الأولى، كما اطلعنا على الحوار الذي دار بينكم وبين بعض الأساتذة في برنامج “العاشرة مساءاً”. ولا اعتراض لدينا هنا على ما أوردتموه من الاستدلال بالقرآن الكريم والسنَّة الفعليَّة ومناقشتكم للسنَّة القوليَّة وأقوال الفقهاء، فذلك موقف علميّ يستحق التقدير، خاصّة وأنّه قدم في إطار “مراجعات للتراث” لم يعد أحد ينكر بضرورة قيام العلماء والمؤهلين لذلك بها. لكن تساؤلنا هنا حول السياق التاريخيّ والظرف الراهن الذي تثار فيه هذه القضية؛ إذ لا يخفى عليكم أن القضية مثارة والأمَّة في حالة هزيمة وتراجع وجراحات نفسيَّة تعاني منها نتيجة مختلف الظروف التي لا تخفى على أمثالكم، والتي تجعل أي قضية تثار بهذا الحجم كثيراً ما تصب في قنوات الراغبين في إلحاق مزيد من الهزائم بهذه الأمَّة، لا في مصلحة الداعين إلى إحداث مراجعات في التراث. وقد تجعل من مثل المذهب الذي ذهبتم إليه والموقف الذي اخترتموه موضع استغلال وتوظيف من قبل خصوم هذه الأمَّة في الداخل والخارج، فهل تجدون في هذا ما يمكن أن يجعل هذا الطرح أو الموقف يقع في دائرة تعارض المصالح والمفاسد، فقد تطغى المفاسد التي أشرنا إليها على المصالح المرجوّة من إعلان موقف علميّ دقيق قائم على دراسة أكاديميَّة محترمة مثل دراستكم، فما قول فضيلتكم؟

ج: بسم الله الرحمن الرحيم، ما تفضلتم به من ضرورة ملاحظة السياق التاريخيّ أمر في غاية الأهميَّة، ويستحق النظر والتدبُّر، وقد أجد من توجيه رسول الله r ما يسنده ويقويه، فلقد لاحظ r معطيات اللحظة التاريخيَّة في نحو قوله r: “لولا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إسماعيل” فرسول الله r يقدم هنا منهجاً هادياً في الحاجة إلى ملاحظة الظروف التاريخيَّة وعدم إهمالها عند النظر في الأحكام الجزئيَّة، وما أبرئ نفسي فقد أكون انحزت إلى جانب تضخيم مصالحٍ مّا تصورتها وسبرتها مثل: ضرورة بيان الحكم الشرعي بأدلته عند ظهوره، وتقديم رؤية في مراجعة التراث الفقهي الذي نعتز به وننتمي إليه ونحرص على تصحيح مساره وتوظيف غناه وثرائه، ومحاولة الدفاع عن الإسلام بإعلاء شأن “الحريَّة الدينيَّة” و”حريَّة التعبير”، وبيان مدى عناية القرآن الكريم بهذه الحريَّات، ومحافظته عليها؛ حيث جاءت بتكريس مائتي آية من آيات الكتاب الكريم للتأكيد على ضرورة حمايتها وحفظها. فملاحظتنا لهذه المصالح ربّما أجمعت مع رغبتنا برد الشبهات عن ديننا فجعلتنا أقل قدرة على الالتفات إلى معطيات ومتغيّرات اللحظة التاريخيَّة القائمة وما يحدث فيها من حملات التنصير والتكفير التي تجتاح العالم الإسلامي كله، فلم نلتفت إليها بالقدر الكافي.

كما أنَّ تعطيل عقوبة الردة، وتعطيل الحدود والتعازير والعقوبات الشرعية في العالم الإسلامي جعلنا نؤثر أن نبيّن الحكم الذي توصلنا إليه في هذه القضية لئلا نزيد في حجم الضغوط والاختراقات وعوامل الخضوع التي تجتاح عالم أمتنا المسلمة: أنظمة وشعوباً، مستفيدة من اتساع الفجوة بين الشعوب والحكام.

فإن كنت قد أخطأت في اختيار اللحظة التاريخية لإعلان هذا الموقف الشرعي الذي استدللت عليه بما وفق الله إليه من أدلة ظاهرة، وأقنعتني بصواب إعلان ما توصلت إليه، فإنني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه وأسأله أن يعاملني بصالح بقصدي وحسن نيَّتي التي أرجو أن تكون خالصة له، لا بما ترتَّب أو ما قد يترتب على ما ذهبت إليه نتيجة ظروف خارجيَّة لا تتصل بالحكم ولا بدليله أو تعليله:

من ذا الذي ترضى سجاياه كلّها               ***         كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.

ومع ذلك فإنني أؤكد على أهل العلم وطلبته ألا يترددوا في القيام بالمراجعات الجادة لتراثنا الإسلامي العظيم، والنظر في كثير من قضاياه نظرة الناقد البصير الملتزم بأصول هذا التراث وقواعده وبقضايا الأمة التي تشكلت به في مجالس العلم والبحث والدرس، وذلك لتصحيح مسارنا، وإحداث حالة التجديد والاجتهاد الشرعيّ المطلوب في محيطنا الإسلاميّ، فذلك مطلب شرعيٌّ لا يخرجنا من عهدة التكليف به شيء غير أدائه والقيام به.

كما أنّني أؤكد على ضرورة التمييز بين أصوات وأقلام أولئك الذين يقومون بالمراجعات والنقد والبحث عن البدائل من كتاب الله وهدى رسوله من منطلق الحرص والغيرة على الأمَّة والإخلاص لقضاياها والالتزام بحاكميَّة الكتاب وشريعة التخفيف والرحمة وختم النبوة، وبين الأصوات المعادية التي تستهدف الهدم والتخريب واختراق ما قد يكون بقي لهذه الأمة من حصون وإحداث قطيعة مع تراثها، كذلك لابد من التمييز بين الأصوات الغافلة والمغفَّلة والمضلّلة التي لا يهمها في أي إطار يصب نقدها أو مراجعاتها بل كل ما يهمها بعض الناس، وبناء سمعة أو شعبيَّة لديهم، والله الموفق.

س: إننا لا نظن أن الأمر سوف يقف عند “عقوبة الردة” فالذي ورد في تقرير “راند” RAND حول تعريف “المسلم المعتدل” Moderate يجعلنا نتوقع سلسلة من الإشكاليَّات التي ستثيرها مؤسسات الاستشراق الغربيّ واليهوديّ -معاً- في وجوه المسلمين ليل نهار، صباح مساء، حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا ويزيدوهم خيالاً ويوضعوا خلالهم. ونحن نعرف أن الأمم حينما تهاجم في هُوِيَّاتها ترجع بشكل طبيعيّ وعفويّ وحادّ وبعيد عن التفكير إلى تراثها دون تمييز بين الحسن منه والرديء، وبين الثابت والمتغيِّر، وبين ما قام الدليل عليه وبين مالا دليل عليه أو هو مجرد شأن ثقافيّ أو عاديّ أو جزء من تقاليد، فما هو الموقف الذي على المفكر المسلم الملتزم بأصول تراث أمته وبوجودها وبقائها أمام هذه الأمور؟

ج: إنَّ القرآن المجيد قد حسب لكل حالة حسابها، ولكل ظرف ما يحتويه، وصرف الله (عز وجل)  للناس من كل مثل، فهو محجة بيضاء يهدي للتي هي أقوم، لا يزيغ عنها إلا هالك، والقرآن المجيد قد صنف الناس بحسب مواقفهم من الله (عز وجل)، ومواقفهم من الكون المسخَّر، ومواقفهم من أنبياء الله ورسله وكتبه وعالمي غيبه وشهادته، وبيّن الموقف السليم في كل هذه الظروف والقضايا لكي لا يضل المسلم ولا يتيه. فبيَّن الخير والشر، والحق والباطل، والعدل والظلم، والأمانة والخيانة، والكرامة والعز والذل، والاستقامة والانحراف، ولم يدع أي أمر من هذه الأمور في حالة التباس أو غموض، وبيَّن أنَّ هناك عدواً سيتربص بالناس بقصد إضلالهم والانحراف بهم عن الهدى والصراط المستقيم، فهو يزيِّن لهم القبيح، ويقبِّح الحسن، يعدهم ويمنِّيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. وهذا الشيطان عدوٌّ لنا أمرنا أن نتخذه عدواً، وألا نغفل عن عداوته لأنه يتربص بنا، ويعمل على أن يأتينا من كل جانب وله حلفاء من بني البشر يمثلون ظاهرة بشريَّة شيطانيَّة مقابلة للظاهرة الشيطانيَّة الغيبيَّة، فهم يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وهم في حالة تعاون وتكاتف لإضلال البشر وصرفهم عن سبيل الله، وتدمير إيمانهم وثقتهم به والانحراف بهم عن كتاب الله وصراطه المستقيم، حتى يكشف الله عن أبصارهم الغطاء، فيقول الشيطان آنذاك لما قضي الأمر: ﴿ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(إبراهيم: 22).

ويقول السادة والقادة والذين يريدون علواً في الأرض وفساداً ويتكبرون في الأرض بغير الحق: ﴿ إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ (غافر: 48).

ولهذا فإن الأمة أحوج ما تكون اليوم إلى الإقبال على كتاب الله وتلاوته حق التلاوة وتدبُّره حق التدبر والتمسُّك به ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ (الأعراف: 170).

وعليهم أن يستعينوا بالصبر والصلاة ليكسبوا معيَّة الله ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 46)؛ إذ بدون معيَّة الله -في هذه الظروف- من الصعب على أولياء الرحمن بطاقاتهم المحدودة وقواهم المنهكة أن يقفوا للشيطان وأوليائه من الجن والإنس. ولتلاوة القرآن حق التلاوة -في مثل هذه الظروف- مداخل مهمة لابد من الوعي بها، والفقه فيها والتدرُّب على ممارستها. ولعل من أهم هذه المداخل في ظروفنا الراهنة مدخل “قراءة القرآن وتلاوته في ظل الوعي بالأزمة” و“تثوير القرآن ومساءلته واستنطاقه” ليجود وهو الكريم المعطاء بالإجابة عما تثيره الأزمة الراهنة من مشكلات وتساؤلات، فليس العلاج بالاستعصام بالموروث -كما هو- دون النظر في الثابت منه والمتغيِّر، بل الاعتصام بكتاب الله، والاهتداء بهدي رسول الله r في تلاوته القرآن واتّباعه له، ومجاهدة الكفار به جهاداً كبيراً.

إنني لا أشك في أنّنا نعيش اليوم “عصر الأعور الدجال” فالدجال قد وصف بأنّه ذو عين واحدة، والهيمنة التي نراها “هيمنة عوراء” في ثقافتها وحضارتها ومنطلقاتها وفنونها وآدابها؛ فهي لا ترى إلا بعين واحدة، عين تتركز على ظاهر من الحياة الدنيا مع غفلة تامة عن الآخرة ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7)، عين تتركز على المنفعة واللذة والمتعة ومصادرها من نفط وذهب وسواهما. ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾(الجاثية: 24). وهكذا صارت الحياة بالنسبة لهم: طعام وشراب ومنام، ولهو ولعب… وكأن الله (عز وجل) خلقهم عبثاً وتركهم سدى وخلق السماوات والأرض باطلاً، وليس الأمر كذلك. فلم يخلق الله الناس عبثاً، ولن يتركهم سدى، ولم يخلق السماوات والأرض إلا بالحق.

ولكن في ظل تلك التوجهات وهذه الثقافة والحضارة العوراء، لاشك أننا سنواجه كل ما نبه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أننا سنواجهه عند ظهور الدجال من مآسٍ وفتن، فقد قسم الدجال الدنيا إلى معسكرين، وجعل البشر فريقين، فمن دخل تحت سلطانه زعم أنه سيدخله جنته في التنمية والرفاهية ومحور الخير، ومن خالفه صنفه في محور الشر والتخلّف والرجعيَّة والإرهاب.. ولذلك فإن المسلمين كافَّة مرشحون لأن يوصموا بكل الصفات الموجودة في قاموس أولئك، وتخرجها “راند” RAND تارة، ودراسات الاستشراق اليهودي تارة أخرى، والكتاب الصهاينة تارة ثالثة، والدعاة على أبواب جهنم مثل البابا وسكرتيره وأجهزة إعلامه وما إلى ذلك تارة رابعة.

وهذه التصنيفات سوف تنال المسلمين على الترتيب، فقد يصفون بعض الناس منَّا بالتطرف في مرحلة من المراحل، وبعد أن يقبل الوصف ويستساغ كما حدث بالنسبة للاتجاه السلفيّ بصفة عامة، وهم الذين يحدّدون المراد به بأيّ اتجاه فيدخلون فيه من شاءوا ويخرجون من أرادوا، انتقلوا إلى فريق آخر يلي هؤلاء كانوا يصفونه بالاعتدال فسلطوا عليه سهامهم حتى إذا فرغوا منه انتقلوا إلى الثالث والرابع والخامس… حتى لا يبقى في أمة الإسلام في نظرهم معتدل أبداً، ليكون أفضل المسلمين، وأصلحهم لصداقته مسلم قد مات وأدخل في قبره.

فيجب ألا يستخفنا الذين لا يوقنون، فيقدمون لبعضنا رشاوي من صفات الاعتدال والمرونة والحداثة للاستفراد بفصائل أرادوا الاستفراد بها، فإن الدور آت لا محالة على “المعتدل الأسود” كما جاء على “الثور الأبيض، و”المعتدل الأسمر” وهكذا حتى النهاية.

والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى أن يذكروا أنفسهم بضرورة الاعتصام بكتاب الله والاهتداء بهديه ليواجهوا هذه التيارات الشيطانيَّة الضارة مستعينين بالله، محوطين بعنايته ومعيَّته إلى أن تكون العاقبة للمتقين إن شاء الله. فإنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ﴿وأَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: 27)، فالمهم الثبات على الإيمان، والتشبّث بأهداب الإسلام، والاستقامة على الطريقة، والالتجاء إلى الله (عز وجل) والاستعانة بالصبر والصلاة. والعمل الجاد من الحكام والمحكومين على توحيد الأمَّة، وتجديد مارث من علاقاتها، وربط ديار المسلمين بشبكات من الاتصالات والمواصلات والطرق البريَّة والبحريَّة والجويَّة حتى تكون بمثابة القطر الواحد، وتوسيع المصالح المشتركة، والعلاقات المتشابكة، وتيسير سبل التعارف والتآلف والتعاون فيما بينهم فإن وعد الله صادق لا يخلف الله الميعاد ووعد رسوله صادق لم يتخلّف قط. وقد قال r فيما أخرجه أحمد والداود عن ثوبان: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أو من قلّة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”.

وقوله: “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاءاً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وفي رواية: وإن ربي قال يا محمد إنّي إذا قضيت قضاءاً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا”. فإذا أصلحت الأمَّة ذات بينها، وأصلحت ما بينها وبين الله فإن من المستحيل نيل أعدائها منها.

وهنا يرسم لنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- منهج الخروج من هذه الحالة، ويقيمه على دعائم ثلاثة:

الأولى: إخراج الأمَّة من حالة الغثائيّة.

الثانية: إعادة بناء روابط الألفة والأخوة بين أبنائها والاعتصام بحبل الله المتين.

الثالثة: ربط أقطار العالم الإسلامي بشبكة من المواصلات والاتصالات والمصالح وفق برنامج زمنيّ يهيئ الظروف لإعادة بناء أمَّة مسلمة متماسكة في أطار حلقات متداخلة متظافرة من العقيدة والرؤية والتصور والتاريخ والمصير والمصالح والألفة والمحبة والتعاون الدائم الذي لا يتوقف.

الرابعة: بناء ثقافة الوحدة، وإزالة سائر الثقافات المغايرة من طريقها.

 

س: في البرنامج المشار إليه “العاشرة مساءاً” ذكرتم فضيلتكم وموقفاً عن الشيخ محمد الغزالي في قضية فرج فودة استغربه كثير من عارفيه والقارئين لكتبه، واستغله بعض خصومه في النيل منه، فكيف ترون هذه المسألة؟ وفي الوقت الذي لا نشك في أمانتكم فيما نقلتم لعلمنا بالصلة الوثيقة التي كانت بينكم وبينه، لكن أملنا في أن يكون هناك توضيح يزيل اللبس، ويوقف الجدل حوله.

ج: الشيخ الغزالي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته، وتقبله في الصالحين، علاقتنا الشخصية والمؤسَّسية به، علاقة قديمة حميمة امتدت لعقود من الزمان بفضل الله (عز وجل). وقد كنت أتردد على الشيخ وأنا لمَّا أزل طالباً في الأزهر، وكان الشيخ يسكن في شارع الأزهر، في عمارة قريبة من شارع الخليج المصري، أو مطلة عليه، وفيها طابق أو أكثر كان يحمل اسم فندق “بغداد” -آنذاك- وكثيراً ما كنت أزوره وأجد عنده الشيخ سيد سابق رحمهما الله تعالى. واستمرت هذه الصلة حتى صدر كتابه “من هنا نعلم” في الرد على كتاب الشيخ خالد محمد خالد رحمه الله “من هنا نبدأ” وأبدى أخونا الكبير الشهيد إسماعيل الفاروقي رغبته بترجمته إلى الإنجليزية، وقد ترجم الكتاب فعلاً، بموافقة الشيخ ورضاه. وحين انتقل الشيخ للتعليم في المملكة السعودية لم تنقطع الصلة بل استمرت على مستوى تشاور متصِّل وتعاون بحسب ما تسمح به ظروفه وظروفنا. ثم انتقل تغمده الله برحمته إلى الجزائر وتوثّقت الصلة ف الملتقيات الجزائرية وفي المشاركات التي كنا نقوم بها معاً، وإلى أن رأينا ورأى المعهد ضرورة تفرغ الشيخ في سنواته الأخيرة للعمل العلمي والفكري والاستقرار في مصر، فذهبت إليه إلى الجزائر حيث كان رئيساً للمجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة، وبقيت معه في قسنطينة عدة أيام حتى أقنعته بضرورة العودة إلى مصر، وأننا سنتغلب معاً إن شاء الله على أية عقبات مادية تحول دون رجوعه إلى القاهرة، وقمت بإعداد قرار من مجلس الأمناء بتكليفه برئاسة مجلس علمي استشاري للمعهد العالمي للفكر الإسلامي يكون مقرُّه القاهرة؛ ليقوم بترشيد مسيرة المعهد الفكريَّة والبحثيَّة في تلك المرحلة المهمة، وقد رأى فضيلته ورحبنا جميعاً برؤيته بأن يكون معه في ذلك للمجلس سماحة الشيخ علي جمعة (مفتي الجمهورية حالياً)، والأستاذ الدكتور محمد سليم العوّا، والأستاذ المستشار طارق البشري، والأستاذ الدكتور محمد عمارة، والأستاذة الدكتورة زهيرة عابدين رحمها الله، والأستاذ الدكتور جمال الدين عطيه الذي كان مديراً لمكتب المعهد في القاهرة آنذاك وقد أعدّ فضيلته في منزله مكتباً لاستقبال هؤلاء الأفاضل بشكل منتظم. وقام مكتب المعهد في القاهرة بترتيب أعمال سكرتارية لفضيلته. وفي تلك المرحلة أصدر فضيلته كتابه المهم “تراثنا الفكري بين العقل والنقل”، ومدارسة حول “القرآن الكريم” قام بمحاورته فيها بتكليف من المعهد أيضاً الأستاذ عمر عبيد حسنة، ونشرت بعنوان “كيف نتعامل مع القرآن” بطبعات عديدة، وضع فيها فضيلته أهم أفكاره حول القرآن المجيد كما أنه أصدر كتابه المشهور “السُّنة بين أهل الفقه وأهل الحديث” الذي صدرت ضده وفي الردّ عليه عشرون دراسة أو تزيد، والذي نصح فضيلته يرحمه الله بأن يستكتب الشيخ القرضاوي في ذات الموضوع كتاباً يعدّل الكفة في مناهج التعامل مع السُّنة النبويَّة، وقد طلب المعهد من فضيلة الأستاذ الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي واستجاب مشكوراً، وأعدّ كتابه “كيف نتعامل مع السنُّة”؛ ليكون الكتابان كتاب الشيخ الغزالي مع كتابه حاملين للأفكار الأساسية التي كنّا نهتم بضرورة إيصالها إلى طلبة العلم؛ وذلك لإخراج الناس من الجدل في الحجية “حجيّة السنَّة”؛ وهي أمر محسوم؛ إذ إن حجية السنة من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، لتنقلهم للنقاش حول فهم السُّنة وأفضل طرق فهمها والتعامل معها باعتبارها منهجاً لتعليم الناس كيفية اتباع القرآن الكريم وتطبيق آياته وتحويل هديه إلى نظام حياة يعاش، وممارسة دائمة. وأظن أن الكتابين مع كتاب شيخنا عبد الغني عبد الخالق في “حجية السُّنة” قد حققت هذا الهدف وأحدثت تغييراً في مجرى دراسات السنُّة النبوية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي. ولم تنقطع الصلة بالشيخ تغمده الله برحمته حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ودفنه في مدينة رسول الله -صلى اله عليه وآله وسلم-؛ وكان التشاور بيننا في سائر الأمور دائماً كتابة وشفاها وعلى التليفون.

وفي تلك المرحلة كانت زياراتي إلى القاهرة لا تنقطع للاستفادة بعلمه وفكره وتقديم خلاصة تجربته للأجيال.

وحينما حدثت قضية “فرج فودة” كان لنا حولها أكثر من حديث، والموقف العلميّ الصحيح من “الردة” إذا كانت مجرد تغير في الرأي والاعتقاد ولم تترتب عليه أية جرائم أو مواقف عدائية للإسلام والمسلمين، فإن عقوبتها أخروية، كان ذلك الرأي مقبولاً لدى الكثيرين من علماء الأمة قديماً وحديثاً، ومنهم شيخنا الغزالي يرحمه الله.

فتحرير موضع النزاع في هذا الأمر هو: “هل تغيير الإنسان رأيه أو اعتقاده في نفسه” دون ممارسة أي شيء آخر، له عقوبة شرعية يطلق عليها أنَّها “حدّ من حدود الله”؟ أوليس لها إلا العقاب الأخروي الذي توعّد الله به؟ لأن الحدود في هذه الشريعة مطهرات ومكفرات؟

وكان الشيخ مثله مثل كثير من مشايخ وقادة الحركة الإسلامية أمثال حسن الترابي، وراشد الغنوشي وبعض علماء الحركات الإسلامية لا يرون أنّ الردة في تلك الحدود تقتضي عقاباً دنيوياً إلا إذا اقترنت بجرائم أخرى. وحين تذاكرت مع الشيخ وقرأت عليه ما ذكرته في دراستي هذه في الردّة ما أنكره أو رفضه. لكنّه قال: إنَّني أخشى ألا يفهم الناس قصدك وأن ينظروا إليك مثل نظرتهم إلى كُتاب آخرين لا ينطلقون من منطلق الالتزام بالتراث الإسلامي كما تفعل أنت، لكنّني لا اعتراض عندي على ما توصلت إليه في دراستك.

قلت له: شيخنا الجليل، إذا كانت هذه قناعتك، فما الذي حملك على أن تشهد في المحكمة التي تولت النظر في قضية فرج فودة بأن هناك عقوبة وحداً شرعياً للردة لأنه كان على الدولة أن تنفذ أو تطبق هذه العقوبة؛ وإذ لم تفعل وفعلها هؤلاء الشباب فإنهم لن يكونوا قتلة لأن الدم الذي أراقوه هو مهدر بفعل الردة فتكون جريمتهم مجرد “افتئات” على صلاحيات الدولة يستحقون عليه التعزير؟

فقال يرحمه الله؛ لقد كان أمامي مصير هذه المجموعة الكبيرة من الشباب، لو قلت إن دم الرجل غير مهدر أكون قد حكمت عليهم بالإعدام على أنني قد سمعت من فرج فودة كلاماً كثيراً معادياً للإسلام في المناظرة التي جرت بيننا وفي غيرها؛ مما رجَّح لدي أن أحمي هؤلاء الشباب، ولعل شهادتي تحميهم من حبل المشنقة.

قلت: ولكنك شيخي الجليل قد فتحت على الإسلام باباً واسعاً للنقد بهذا الموقف، وينبغي أن نكون دائماً إلى جانب قيم الإسلام والانتصار لها حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بأنفسنا أو بآخرين وإعلاء قيمة “حرية التدين” والدفاع عنها أهم عندي من الدفاع عن أشخاص مهما علت مكانتهم.

هذا ما لديّ في هذا الأمر، وأنا مسئول عما قلت بين يدي الله ولا أرى في هذا الموقف أي إساءة لشيخنا الجليل، ولا لفكره ولا لالتزامه وليس في موقفه ما ينفع خصومه، فالرجل مجتهد، وقد اجتهد، أصاب عند البعض فله أجران، وإذا عدّه البعض مخطئا فله أجر، وأما الإثم فهو بإذن الله بما أوتيه من الإخلاص في النية وصدق في القول أبعد الناس عن التهمة وأنقاهم سريرة وأبعدهم عمّا يغضب الله (عز وجل). ولقد رأيته تغمده الله برحمته في مؤتمرنا الذي عقدناه حول “السنة النبوية” مع مؤسسة آل البيت في عمَّان وقد أكثر عليه تلامذة متنطعون حتى رموه يرحمه الله بالتطاول على السنة أو إنكارها فأجهش بالبكاء وقال: والله ما تطاولت نفسي يوماً لأكثر من أن أكون ذرة في تراب نعل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإني لأشد حبّاً له من حبي لنفسي التي بين جنبي ولوالدي وأولادي، فكيف يظن بي ظان أنني أجرؤ على التطاول على هديه وسنته -صلى الله عليه وآله وسلم- فوالله ما أردت إلا الدفاع عنها، وكان ذلك بحضور عشرات من أهل العلم. ذلك هو أبو ضياء يرحمه الله تعالى، وإنني لأسأل الله (عز وجل) أن يجعل عملي معه وتعاوني معه في العودة إلى مصر التي استنارت بنوره في سنواته الأخيرة، وكان لها علماً من أعلام الهدى، أسأله (عز وجل) أن يجعل ذلك قربة لي ووسيلة لشفاعة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون. وما زلت أتشرف بالاحتفاظ بصفحات من مذكراته بخط يديه -صلى الله عليه وآله وسلم- وأرضاه، نشرتها مجلة “إسلامية المعرفة” بتقديم لي وتعليق، وأعتبرها مصدر تبرك، ولم تطل به حياة لإنجازها، وكنت بفضل الله وراء تسجيل أهم مراحل ومحطات حياته على مجموعة من أشرطة الفيديو التي لا يزال المعهد العالمي للفكر الإسلامي يحتفظ بها، وقد حاوره حول تلك المحطات لفيف من كبار الأساتذة أمثال د. محمد عمارة، د. العوا، أ. صافي ناز كاظم وغيرهم ومثلي ومثل أولئك الذين ينالون من الشيخ وأصدقائه ومنا مثل قول القائل:

أقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم                              مِن اللّوم أوسدُّوا المكان الذي سدّوا

استغفر الله لنفسي وللشيخ وأسأل الله أن يوجد في هذه الأمة من أمثاله من يعينها على اجتياز هذه المراحل الصعبة. والله ولي التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *